الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة إذا ورد الخطاب من الشارع بفعل عبادة في وقت معين فخرج ذلك الوقت ولم يفعل ، فهل يجب القضاء بأمر جديد ابتداء أم يجب بالسبب الذي يجب به الأداء ، وهو الأمر السابق أي : يتضمنه ويستلزمه لا أنه عينه ؟ فيه قولان . وأكثر المحققين من أصحابنا على الأول . منهم أبو بكر الصيرفي وابن القشيري . قال الشيخ أبو حامد وسليم وابن الصباغ ، وهو قول أكثر أصحابنا . وقال الشيخ أبو حامد وأبو إسحاق : إنه الصحيح ، ونقل عن المعتزلة منهم أبو عبد الله البصري وحكاه عن الكرخي ، وقال العالمي من الحنفية : إنه اللائق بفروع أصحابنا ، وقال الباجي : إنه الصحيح . ونقله عن القاضي أبي بكر وابن خويز منداد ، وقال عبد العزيز الحنفي : إنه مذهب أصحابنا .

                                                      [ ص: 334 ] ووجهه أن صيغة التأقيت تقتضي اشتراط الوقت في الاعتداد بالمؤقت ، فإذا انقضى الوقت فليس في الأمر بالأداء أمر بالقضاء فلا بد من أمر ثان ، ولأن التكليف يتبع مقتضى الأمر وما دلت عليه الصيغة ، والصيغة لا تدل إلا على الأمر في الوقت المخصوص فدلالتها على الفعل في غيره قاصرة عنه ، وما وجب القضاء فيه فبدليل من خارج . وذهب الحنابلة ، وأكثر الحنفية إلى الثاني منهم شمس الأئمة والجصاص والرازي وغيرهم ، وبه قال عبد الجبار وأبو الحسين من المعتزلة ، وحكاه الآمدي عن الحنابلة ، وحكاه عبد العزيز في الكشف " عن عامة أصحاب الحديث .

                                                      قلت : وهو ظاهر نص الشافعي في الأم فإنه قال : فيما إذا ظاهر عنهما ظهارا مؤقتا : إن العود لا يحصل إلا بالوطء قال : ووجبت الكفارة واستقرت لا لأجل استحلال للوطء ، ثم قال : ولو طلقها بعد العود أو لاعنها فحرمت عليه على الأبد ولزم كفارة الظهار ، وكذلك لو ماتت أو ارتدت فقتلت على الردة ، ومعنى قوله تعالى : { من قبل أن يتماسا } وقت لأن يؤدي ما وجب عليه في الكفارة قبل المماسة ، فإذا كانت المماسة قبل الكفارة فذهب الوقت لم تبطل الكفارة ولم يزد عليه فيها ، كما يقال : له أد الصلاة في وقت كذا ، وقبل وقت كذا ، فيذهب الوقت [ ص: 335 ] فيؤديها ; لأنها فرض عليه ، فإذا لم يؤدها في الوقت وأداها بعده فلا يقال له : زد فيها ، لذهاب الوقت قبل أن يؤديها . انتهى . قال ابن الرفعة في المطلب " وهذا من الشافعي يدل على أنه لا يرى القضاء بأمر جديد بل بالأمر الأول ، إذ لو كان لا يجب إلا بأمر جديد عنده لم يقسه على الصلاة ; لأن الأمر الجديد ورد فيها ، لكن إمام الحرمين في باب التطوع من النهاية " قال : إن القضاء بأمر يجدد عند الشافعي ، ويؤيده نصه في الرسالة " : على أن الصوم لا يجب على الحائض ، وإنما وجب القضاء بأمر جديد ، ونقل الهندي عن صاحب التقويم " قولا ثالثا ، أنه يجب بالقياس على العبادات الفائتة عن وقتها الواجب قضاؤها في الشرع ، فإنه الأكثر بجامع استدراك مصلحة الفائتة .

                                                      وقال بعضهم وعند أبي زيد الدبوسي أن وجوب القضاء إنما هو بقياس الشرع ، وأضافه إلى الشرع لتخرج المقدمتان والنتيجة ، فإن ذلك قياس العقل ، والمراد بقياس الشرع رد فرع إلى أصل بعلة جامعة بينهما . فكأنه قاس القضاء على المعاوضات الشرعية . وذهب بعض المتأخرين إلى وجوبه بالأمر الأول باعتبار آخر مخالف لما يقوله الحنابلة ، وبرهانه العلم القديم لم يتعلق بالأداء في حق من يستحيل وقوعه منه ; لأن ذاته معدومة في الموجودين ، فلو كلف العبد به كلف بما لا يطاق ، فإذن تعلق الأمر إنما هو بالفعل الذي يسمى قضاء ، وهو أمر واحد ، وهو الأمر الأول في حق القضاء ; إذ لا أداء هناك ولا فائت لعدمه في الموجودين العلمي والخارجي ، ومعنى هذا الخلاف أنه هل يستفاد من الأمر ضمنا الأمر بالقضاء ؟ أي : يستلزم ذلك كما يستفاد منه جميع الفوائد [ ص: 336 ] الضمنية أو لا يستفاد ، هذا هو الصواب وصرح به المازري وغيره .

                                                      وزعم الأصفهاني في شرح المحصول " أن القائلين بأن القضاء بالأمر الأول يقولون : إنه يدل عليه مطابقة ، وأن هذا هو محل الخلاف ويساعده عبارة ابن برهان : هل بقيت واجبة بالأمر السابق أم وجبت بأمر جديد ؟ وقال عبد العزيز : موضع الخلاف في القضاء بمثل معقول ، فأما القضاء بمثل غير معقول فلا يمكن إيجابه إلا بنص جديد بالاتفاق ، وهذا كله في العبادة المؤقتة ، أما المطلقة إذا لم يفعل في أول أزمنة الإمكان على رأي من يجعل الأمر للفور ، فإن فعله بعده ليس قضاء عند الجمهور خلافا للقاضي أبي بكر . ومن فروعه : ما لو استأجر الولد سنة معينة ، ثم لم يسلمه حتى مضت انفسخ العقد ، ولا يجب بدلها سنة أخرى اعتبارا بالعقد الأول ، بل لا بد من إنشاء عقد جديد إن أرادها . وقال صاحب الواضح " المعتزلي : هذا الخلاف لا يجيء إلا من القائلين بأن الأمر يقتضي الفور ، وأما القائل بأنه للتراخي فلا ; لأن عنده أن الفعل في الوقت الثاني والثالث وفيما بعدها مراد ، وأن لفظ الأمر بإطلاقه يتناول الفعل في أي وقت شاء ، وبذلك صرح أبو الحسين في المعتمد " ، فقال : أما القائلون بنفي الفور فيقولون باقتضائه فيما بعد ، ولا يحتاج إلى دليل ثان ، وأما القائلون بالفور هل يقتضي الفعل فيما بعد أو ، لا ؟ .

                                                      [ ص: 337 ] وقال الشيخ أبو إسحاق : ليس الغرض بهذه المسألة الكلام في أعيان المسائل التي اتفقنا فيها على وجوب القضاء في العبادة المؤقتة ، كالصلاة والصوم ، وإنما الغرض بيان إثبات هذا الأصل من مقتضى الأمر المطلق في موضع لا إجماع فيه . قال : وكذلك جميع مسائل الأصول التي نتكلم فيها المقصود إثبات أصل عند التجرد من القرائن . قال وفائدة الخلاف في هذه المسألة جواز الاستدلال بالأوامر المطلقة في أداء العبادة على قضائها إن قلنا : يجب ما يجب به الأداء ، ومنعه ، وإن قلنا يجب بأمر جديد . قيل : ومنشأ الخلاف يرجع إلى قاعدتين : الأولى : أن الأمر بالمركب أمر بأجزائه . الثانية : أن الفعل في وقت معين لا يكون إلا لمصلحة تختص بذلك الوقت ، فمن لاحظ القاعدة الأولى قال : القضاء بالأول ; لأنه اقتضى شيئين الصلاة وكونها في ذلك الوقت ، فهو مركب ، فإذا تعذر أحد جزأي المركب وهو خصوص الوقت بقي الجزء الآخر وهو الفعل فيوقعه في أي وقت شاء ومن لاحظ الثانية قال : القضاء بأمر جديد ; لأنه إذا كان تعين الوقت لمصلحة فقد لا يشاركه الزمن في تلك المصلحة ، وإذا شككنا لم يثبت وجوب الفعل الذي هو القضاء في وقت آخر بدليل منفصل ، والمراد بالأمر الجديد إجماع أو خطاب جلي على وجوب فعل مثل الفائت خارج الوقت ، لا أنه يتجدد عند فوات كل واجب الأمر بالقضاء ; لأن زمن الوحي قد انقرض .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية