الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 284 ] 576 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغيل من كراهة له ، ومن هم بنهي عنه ، ومن نهي عنه ، ومما سوى ذلك مما كان منه فيه

3658 - حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن عمرو بن مهاجر ، عن أبيه ، عن أسماء ابنة يزيد بن السكن الأنصارية قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تقتلوا أولادكم سرا ، فإن الغيل يدرك الفارس على ظهر فرسه .

3659 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا ابن أبي غنية ، عن عبد الملك بن حميد ، عن محمد بن مهاجر الأنصاري ، عن أبيه ، عن أسماء ابنة يزيد الأنصارية ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 285 ] يقول : لا تقتلوا أولادكم سرا ، فإن قتل الغيل يدرك الفارس ، فيدعثره عن ظهر فرسه .

قال أبو جعفر : فتأملنا هذين الحديثين فوجدنا فيهما من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته : لا تقتلوا أولادكم سرا . ثم ذكر المعنى الذي ذكره فيهما فكان ذلك على التحذير منه إياهم ذلك ، وإعلامه إياهم أنه قد يكون منه دعثرة الفارس عن فرسه ، وكان ذلك منه صلى الله عليه وسلم - والله أعلم - على ما كانت العرب تقوله فيه ، فحذر من ذلك وإن كان لم [ ص: 286 ] ينزل عليه فيه من الله عز وجل تصديق لها ولا تكذيب لها فيما كانت تقوله من ذلك على الإشفاق على أولادهم ، لا على ما سوى ذلك من تحريم منه عليهم ما يكون سببا لذلك الغيل المخوف على أولادهم .

3660 - كما حدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا أبو عامر العقدي ، وحدثنا يزيد بن سنان ، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، وكما حدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قالوا : أخبرنا سفيان الثوري ، قال : حدثنا الركين بن الربيع ، عن القاسم بن حسان ، عن عمه عبد الرحمن بن حرملة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره عشرا : الصفرة ، وتغيير الشيب ، والتختم بالذهب ، وجر الإزار ، والتبرج بالزينة لغير محلها ، والضرب بالكعاب ، وعزل الماء عن محله ، وفساد الصبي غير محرمه ، وعقد التمائم والرقى إلا بالمعوذات .

[ ص: 287 ]

3661 - وكما حدثنا يزيد بن سنان ، قال : حدثنا الحسن بن عمر بن شقيق ، قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري ، ثم ذكر بإسناده مثله .

3662 - وكما حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت الركين [ ص: 288 ] يحدث ، ثم ذكر بإسناده مثله .

وفي هذا الحديث كراهة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفساد الصبي وهو بالغيل الذي ذكرنا غير محرمه ، فدل ذلك أن كراهيته صلى الله عليه وسلم لما كره من ذلك ، كان كراهية لا تحريم معها .

فإن قال قائل : فقد روي عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عنه .

3663 - فذكر ما قد حدثنا روح بن الفرج ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاغتيال . ثم قال لو ضر أحدا لضر فارس والروم .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل : أن النهي قد يكون للكراهة بلا نهي معها ، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائما ، لا لأنه حرم ذلك ، ولكنه لما خاف من ضرره على من يفعله . وقد ذكرنا ما روي [ ص: 289 ] في ذلك فيما تقدم منا من كتابنا هذا .

والدليل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن نهيه عن الغيل نهي تحريم .

3664 - ما قد حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن مالكا أخبره ، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ، عن عروة ، عن عائشة ، عن جذامة ابنة وهب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن فارس والروم يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم .

3665 - وما قد حدثنا محمد بن علي بن زيد المكي ، قال : حدثنا القعنبي ، قال : حدثنا مالك ، ثم ذكر بإسناده مثله غير أنه لم يذكر في حديثه جذامة ، وأوقفه على عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

3666 - وما قد حدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير ( ح ) [ ص: 290 ] وما قد حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا أبو مسهر ، قالا : حدثنا مالك بن أنس ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن عروة ، عن عائشة ، عن جذامة ابنة وهب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

3667 - وما قد حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني ، قال : حدثنا يحيى بن أيوب ، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ، عن عروة ، عن عائشة ، عن جذامة ابنة وهب الأسدية ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

3668 - وما قد حدثنا أحمد بن أبي داود ، قال : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، قال : أخبرنا يحيى بن أيوب ، قال : حدثني أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا عروة ، عن عائشة ، عن جذامة ، ثم ذكر بإسناده مثله .

3669 - وما قد حدثنا الربيع بن سليمان الأزدي ، قال : حدثنا أبو زرعة ، قال : أخبرنا حيوة ، عن أبي الأسود ، أنه سمع عروة ، يحدث عن عائشة ، عن جذامة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

[ ص: 291 ]

3670 - وما قد حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري ، وإبراهيم بن محمد بن يونس البصري ، قالا : حدثنا المقرئ ، قال : حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : حدثتني جذامة ، ثم ذكرا مثله .

فكان في هذا الحديث ما قد دل على إطلاقه صلى الله عليه وسلم لأمته ما كان حذرهم إياهم لما وقف على أن ذلك لا يضر فارس والروم في أولادهم ، وقد كانت بقيت بقية منه في صدور العرب ، حتى روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ذلك .

ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن عطية بن جبير ، عن أبيه ، قال : مات ذو قرابة لي ، وترك ابنا له ، فأرضعته امرأتي ، فحلفت أن لا أقربها حتى تفطم الصبي ، فلما مضت أربعة أشهر ، قيل لي : قد بانت منك امرأتك ، فسألت عليا رضي الله عنه ، فقال : إن كنت حلفت على بصيرة ، فقد بانت منك امرأتك ، وإلا فهي امرأتك .

[ ص: 292 ] وقد كان مالك بن أنس ذهب إلى هذا المعنى ، فسئل عن رجل ترك امرأته وهي ترضع حتى تفطم ولدها ، فأبت ذلك عليه ، وطلبت منه وطأه إياها ، فقال : لا أرى لها في ذلك حجة ، ولا يكره على ذلك ، كانت فيه يمين أو لم تكن ، وأرى قول علي في ذلك يعجبني ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ، فقال مالك : وهو أن يطأ الرجل امرأته وهي ترضع ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هم بذلك حتى ذكر أن فارس والروم يفعلونه ، فكف عنه ، فليس هذا مما يقضى لها به ، ولا يجبر عليه ، وإنما ذلك ما كان على وجه الإضرار ، وليس هذا مضارا إنما يريد استصلاح ولده ، فلا أرى لها في ذلك قولا ، ولا يكره في ذلك على وطئه إياها . ذكر ذلك عنه عبد الرحمن بن القاسم في سماعه منه .

وقد خالف ذلك آخرون ، منهم : أبو حنيفة وأصحابه ، فجعلوه في ذلك مؤليا منها ، إن حلف ألا يقربها حتى تفطم ولدها إذا كان بينه وبين تمام الحولين أربعة أشهر فصاعدا ، ذكر لنا ابن أبي عمران عن ابن سماعة ، عن محمد بن الحسن بغير خلاف ذكره فيه بينه وبين أصحابه ، وهذا القول عندنا أولى القولين ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم الرضاع في الجماع ، وإنما كرهه إشفاقا ، ثم أطلقه ، فكان الممتنع منه لزوجته كالممتنع من مثله في غير حال الرضاع .

وقد زعم زاعم - وهو الليث بن سعد - أن قوما يقولون : إن الغيل جماع الحامل لا جماع المرضع ، ذكر ذلك زيد بن بشر ، عن ابن وهب ، عنه ، فأما مالك ، فكان مذهبه فيه : أنه جماع المرضع .

[ ص: 293 ] كما حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن مالك ،

وكما حدثنا محمد بن علي بن زيد المكي ، قال : حدثنا القعنبي ، عن مالك .

وكان ما قال مالك في هذا أولى عندنا مما قاله الليث فيه ; لأنه عند العرب مما قد ذكرته في أشعارها ، ومما قد فخرت به نساؤها .

فأجاز لنا علي بن عبد العزيز ، عن أبي عبيد ، قال : قال أبو عبيدة واليزيدي والأصمعي وغيرهم : الغيل : أن يجامع امرأته وهي مرضع ، قال : والعرب تقول للرجل تمدحه : ما حملته أمه وضعا - ومنهم من يقول : تضعا - ولا أرضعته غيلا ، ولا وضعته يتنا ، ولا أباتته مئقا ، فقولهم : ما حملته وضعا ، يريد : ما حملته على حيض ، وقولهم : ولا أرضعته غيلا ، يعنون : أن توطأ وهي مرضع ، ولا وضعته يتنا ، يعنون : أن يخرج رجلاه قبل يديه في الولادة ، يقال منه : موتن للمرأة التي ولدته كذلك ، وللولد : موتن ، وقولهم : ولا أباتته مئقا ، وبعضهم يقول : ولا أباتته على مأقة ، فإنه شدة البكاء . فدل ذلك في الغيل على ما قاله مالك فيه .

وقد روي فيما كان من النبي صلى الله عليه وسلم في إباحته وطء المرضع .

3671 - ما قد حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا يحيى بن أيوب ، قال : أخبرني عياش بن عباس ، قال : أخبرني أبو النضر ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، [ ص: 294 ] أن أسامة بن زيد أخبر والده سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني أعزل عن امرأتي . قال : لم ؟ قال : أشفق على الولد . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كان لذلك فلا ، ما كان ضارا فارس والروم .

قال أبو عبيد فيما أجازه لنا علي : فأما قوله : يعني النبي صلى الله عليه وسلم : إنه ليدرك الفارس فيدعثره ، يقول : يهزمه ويطحطحه بعدما صار رجلا قد ركب الخيل ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية