الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين أقسامهم؛ بيانا ظهر منه أن أحوالهم ملبسة؛ وأمر بقتالهم؛ مع الاجتهاد في تعرف أحوالهم؛ وختم بالتسلط عليهم؛ وكان ربما قتل من لا يستحق القتل بسبب الإلباس; أتبع ذلك بقوله - المراد به التحريم؛ مخرجا له في صورة النفي المؤكد بالكون؛ لتغليظ الزجر عنه؛ لما للنفوس عند الحظوظ من الدواعي إلى القتل -: وما كان لمؤمن ؛ أي: يحرم عليه؛ أن يقتل مؤمنا ؛ أي: في حال من الحالات؛ إلا خطأ ؛ أي: في حالة الخطإ؛ بألا يقصد القتل؛ أو لا يقصد الشخص؛ أو يقصده [ ص: 361 ] بما لا يقصد به زهوق الروح؛ أو لا يقصد ما هو ممنوع منه؛ كمن يرمي إلى صف الكفار وفيهم مسلم؛ أو بأن يكون غير مكلف؛ فإن القتل على هذا الوجه ليس بحرام؛ وهذا الذي ذكره في أقسام المنافقين؛ إشارة إلى أنه ينبغي التثبت؛ والتحري في جميع أمر القتل؛ متى احتمل أن يكون القاتل مؤمنا؛ احتمالا لا تقضي العادة بقربه؛ فلزم من ذلك بيان حكم الخطإ؛ ولام الاختصاص قد تطلق على ما لا مانع منه: "فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب"؛ وكأنه عبر به ليفيد بإيجاب الكفارة والدية غاية الزجر عن قتل المؤمن؛ لأنه إذا كان هذا جزاء ما هو له؛ فما الظن بما ليس له؟! فقال (تعالى): ومن قتل مؤمنا ؛ صغيرا كان أو كبيرا؛ ذكرا كان أو أنثى؛ ولعله عبر - سبحانه وتعالى - بالوصف؛ تنبيها على أنه إن لم يكن كذلك في نفس الأمر؛ لم يكن عليه شيء في نفس الأمر؛ وإن ألزم به في الظاهر؛ خطأ ؛ ولما كان الخطأ مرفوعا عن هذه الأمة؛ فكان لذلك يظن أنه لا شيء على المخطئ; بين أن الأمر في القتل ليس كذلك؛ حفظا للنفوس؛ لأن الأمر فيها خطر جدا؛ فقال - مغلظا عليه؛ حثا على زيادة النظر؛ والتحري عند فعل ما قد يقتل -: فتحرير ؛ أي: فالواجب عليه تحرير رقبة ؛ أي: نفس - عبر بها عنها لأنها لا تعيش بدونها - [ ص: 362 ] كاملة الرق؛ مؤمنة ؛ ولو ببيع الدار؛ أو البساتين؛ سليمة عما يخل بالعمل؛ وقدم التحرير هنا حثا على رتق ما خرق من حجاب العبد؛ وإيجاب ذلك في الخطإ إيجاب له في العمد؛ بطريق الأولى؛ وكأنه لم يذكره في العمد لأنه تخفيف في الجملة؛ والسياق للتغليظ؛ ودية مسلمة ؛ أي: مؤداة بيسر؛ وسهولة؛ إلى أهله ؛ أي: ورثته؛ يقتسمونها كما يقسم الميراث؛ إلا أن يصدقوا ؛ أي: يجب ذلك عليه في كل حال؛ إلا في حال تصدقهم بالعفو عن القاتل؛ بإبرائه من الدية؛ فلا شيء عليه حينئذ؛ وعبر بالصدقة ترغيبا؛ فإن كان ؛ أي: المقتول؛ من قوم ؛ أي: فيهم منعة؛ عدو لكم ؛ أي: محاربين؛ وهو ؛ أي: والحال أنه مؤمن فتحرير ؛ أي: فالواجب على القاتل تحرير رقبة مؤمنة ؛ وكأنه عبر بذلك إشارة إلى التحري في جودة إسلامها؛ وقد أسقط هذا حرمة نفسه بغير الكفارة؛ بسكناه في دار الحرب؛ التي هي دار الإباحة؛ أو وقوعه في صفهم؛ ولعده في عدادهم؛ قال: "من"؛ ومعناه - كما قال الشافعي؛ وغيره؛ تبعا لابن عباس - رضي الله (تعالى) عنهما -: في "وإن كان"؛ أي: المقتول؛ "من قوم"؛ أي: كفرة أيضا؛ عدو لكم؛ "بينكم وبينهم ميثاق"؛ وهو كافر مثلهم؛ "فدية"؛ أي: فالواجب فيه - كالواجب [ ص: 363 ] في المؤمن المذكور قبله - "دية مسلمة إلى أهله"؛ على حسب دينه؛ إن كان كتابيا فثلث دية المسلم؛ وإن كان مجوسيا فثلثا عشرها؛ "وتحرير رقبة مؤمنة"؛ وكأنه قدم الدية هنا إشارة إلى المبادرة بها؛ حفظا للعهد؛ ولتأكيد أمر التحرير بكونه ختاما؛ كما كان افتتاحا؛ حثا على الوفاء به؛ لأنه أمانة؛ لا طالب له إلا الله; وقال الأصبهاني: إن سر ذلك أن إيجابه في المؤمن أولى من الدية؛ وبالعكس ههنا؛ انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان سره النظر إلى خير الدين في المؤمن؛ وإلى حفظ العهد في الكافر؛ فمن لم يجد ؛ أي: الرقبة؛ ولا ما يتوصل به إليها؛ فصيام ؛ أي: فالواجب عليه صيام؛ شهرين متتابعين ؛ حتى لو أفطر يوما واحدا بغير حيض؛ أو نفاس؛ وجب الاستئناف؛ وعلل ذلك بقوله عادا للخطإ - بعد التعبير عنه باللام المقتضية أنه مباح - ذنبا؛ تغليظا للحث على مزيد الاحتياط: توبة ؛ أي: أوجب ذلك عليكم لأجل قبول التوبة؛ من الله ؛ أي: الملك الأعظم؛ الذي كل شيء في قبضته.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الكفارات من المشقة على النفس بمكان؛ رغب فيها - سبحانه وتعالى - بختم الآية بقوله: وكان الله ؛ أي: المحيط بصفات الكمال؛ [ ص: 364 ] عليما ؛ أي: بما يصلحكم في الدنيا؛ والآخرة؛ وبما يقع خطأ في نفس الأمر؛ أو عمدا؛ فلا يغتر أحد بنصب الأحكام بحسب الظاهر؛ حكيما ؛ في نصبه الزواجر بالكفارات؛ وغيرها؛ فالزموا أوامره؛ وباعدوا زواجره؛ لتفوزوا بالعلم؛ والحكمة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية