الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 137 ] أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .

الفاء تفريع على الكلام السابق المتعلق بهؤلاء المنافقين أو الكفرة الصرحاء وبتوليهم المعرض بهم في شأنه بقوله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ، وبقولهم طاعة ، ثم تدبير العصيان فيما وعدوا بالطاعة في شأنه . ولما كان ذلك كله أثرا من آثار استبطان الكفر ، أو الشك ، أو اختيار ما هو في نظرهم أولى مما أمروا به ، وكان استمرارهم على ذلك ، مع ظهور دلائل الدين ، منبئا بقلة تفهمهم القرآن ، وضعف استفادتهم ، كان المقام لتفريع الاستفهام عن قلة تفهمهم . فالاستفهام إنكاري للتوبيخ والتعجيب منهم في استمرار جهلهم مع توفر أسباب التدبير لديهم .

تحدى الله تعالى هؤلاء بمعاني القرآن ، كما تحداهم بألفاظه ، لبلاغته إذ كان المنافقون قد شكوا في أن القرآن من عند الله ، فلذلك يظهرون الطاعة بما يأمرهم به ، فإذا خرجوا من مجلس النبيء - صلى الله عليه وسلم - خالفوا ما أمرهم به لعدم ثقتهم ، ويشككون ويشكون إذا بدا لهم شيء من التعارض ، فأمرهم الله تعالى بتدبير القرآن كما قال تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه الآية .

والتدبر مشتق من الدبر ، أي الظهر ، اشتقوا من الدبر فعلا ، فقالوا : تدبر إذا نظر في دبر الأمر ، أي في غائبه أو في عاقبته ، فهو من الأفعال التي اشتقت من الأسماء الجامدة . والتدبر يتعدى إلى المتأمل فيه بنفسه ، يقال : تدبر الأمر .

فمعنى يتدبرون القرآن يتأملون دلالته ، وذلك يحتمل معنيين : أحدهما أن يتأملوا دلالة تفاصيل آياته على مقاصده التي أرشد إليها المسلمين ، أي تدبر تفاصيله ، وثانيهما : أن يتأملوا دلالة جملة القرآن ببلاغته على أنه من عند الله ، وأن الذي جاء به صادق . وسياق هذه الآيات يرجح حمل التدبر هنا على المعنى الأول ، أي لو تأملوا وتدبروا هدي القرآن لحصل [ ص: 138 ] لهم خير عظيم ، ولما بقوا على فتنتهم التي هي سبب إضمارهم الكفر مع إظهارهم الإسلام . وكلا المعنيين صالح بحالهم ، إلا أن المعنى الأول أشد ارتباطا بما حكي عنهم من أحوالهم .

وقوله " ولو كان من عند غير الله إلخ يجوز أن يكون عطفا على الجملة الاستفهامية فيكونوا أمروا بالتدبر في تفاصيله ، وأعلموا بما يدل على أنه من عند الله ، وذلك انتفاء الاختلاف منه .

فيكون الأمر بالتدبر عاما ، وهذا جزئي من جزئيات التدبر ذكر هنا انتهازا لفرصة المناسبة لغمرهم بالاستدلال على صدق الرسول ، فيكون زائدا على الإنكار المسوق له الكلام ، تعرض له لأنه من المهم بالنسبة إليهم إذ كانوا في شك من أمرهم . وهذا الإعراب أليق بالمعنى الأول من معنيي التدبر هنا . ويجوز أن تكون الجملة حالا من القرآن ، ويكون قيدا للتدبر ، أي ألا يتدبرون انتفاء الاختلاف منه فيعلمون أنه من عند الله ، وهذا أليق بالمعنى الثاني من معنيي التدبر .

ومما يستأنس به للإعراب الأول عدم ذكر هذه الزيادة في الآية المماثلة لهذه من سورة القتال ، وهي قوله فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال إلى قوله أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها وهذه دقائق من تفسير الآية أهملها جميع المفسرين .

والاختلاف يظهر أنه أريد به اختلاف بعضه مع بعض ، أي اضطرابه ، ويحتمل أنه اختلافه مع أحوالهم : أي لوجدوا فيه اختلافا بين ما يذكره من أحوالهم وبين الواقع فليكتفوا بذلك في العلم بأنه من عند الله ، إذ كان يصف ما في قلوبهم وصف المطلع على الغيوب ، وهذا استدلال وجيز وعجيب قصد منه قطع معذرتهم في استمرار كفرهم . ووصف الاختلاف بالكثير في الطرف الممتنع وقوعه بمدلول ( لو ) . ليعلم المتدبر أن انتفاء الاختلاف من أصله أكبر دليل على أنه من عند الله ، وهذا القيد غير معتبر في الطرف المقابل لجواب ( لو ) ، فلا يقدر ذلك الطرف مقيدا بقوله " كثيرا " بل يقدر هكذا : لكنه من عند الله فلا اختلاف فيه أصلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية