الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 6636 ) مسألة : قال : ( وإذا قطعوا يدا ، قطعت نظيرتها من كل واحد منهم ) وجملته أن الجماعة إذا اشتركوا في جرح موجب للقصاص ، وجب القصاص على جميعهم . وبه قال مالك ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وقال الحسن ، والزهري ، والثوري ، وأصحاب الرأي ، وابن المنذر : لا تقطع يدان بيد واحدة . ويتعين ذلك وجها في مذهب أحمد ; لأنه روي عنه أن الجماعة لا يقتلون بالواحد .

                                                                                                                                            وهذا تنبيه على أن الأطراف لا تؤخذ بطرف واحد ; لأن الأطراف يعتبر التساوي فيها ، بدليل أنا لا نأخذ الصحيحة بالشلاء ، ولا كاملة الأصابع بناقصتها ، ولا أصلية بزائدة ، ولا زائدة بأصلية ، ولا يمينا بيسار ، ولا يسارا بيمين ، ولا نساوي بين الطرف والأطراف ، فوجب امتناع القصاص بينهما ، ولا يعتبر التساوي في النفس ، فإننا نأخذ الصحيح بالمريض ، وصحيح الأطراف بمقطوعها وأشلها ، ولأنه يعتبر في القصاص في الأطراف التساوي في نفس القطع ، بحيث لو قطع كل واحد من جانب ، لم يجب القصاص ، بخلاف النفس ، ولأن الاشتراك الموجب للقصاص في النفس يقع كثيرا ، فوجب القصاص زجرا عنه ، كي لا يتخذ وسيلة إلى كثرة القتل ، والاشتراك المختلف فيه لا يقع إلا في غاية الندرة ، فلا حاجة إلى الزجر عنه .

                                                                                                                                            ولأن إيجاب القصاص على المشتركين في النفس يحصل به الزجر عن كل اشتراك ، أو عن الاشتراك المعتاد ، وإيجابه عن المشتركين في الطرف ، لا يحصل به الزجر عن الاشتراك المعتاد ، ولا عن شيء من الاشتراك ، إلا على صورة نادرة الوقوع بعيدة الوجود ، يحتاج في وجودها إلى تكلف ، فإيجاب القصاص للزجر عنها يكون منعا لشيء ممتنع بنفسه لصعوبته ، وإطلاقا في القطع السهل المعتاد بنفي القصاص عن فاعله ، وهذا لا فائدة فيه ، بخلاف الاشتراك في النفس ، يحققه أن وجوب القصاص على الجماعة بواحد في النفس والطرف على خلاف الأصل ، لكونه يأخذ في الاستيفاء زيادة على ما فوت عليه ، ويخل بالتماثل المنصوص على النهي عما عداه ، وإنما [ ص: 233 ] خولف هذا الأصل في الأنفس ، زجرا عن الاشتراك الذي يقع القتل به غالبا ، ففيما عداه يجب البقاء على أصل التحريم ، ولأن النفس أشرف من الطرف ، ولا يلزم من المحافظة عليها بأخذ الجماعة بالواحد ، المحافظة على ما دونها بذلك .

                                                                                                                                            ولنا ، ما روي أن شاهدين شهدا عند علي ، رضي الله عنه على رجل بالسرقة ، فقطع يده ، ثم جاءا بآخر ، فقالا : هذا هو السارق وأخطأنا في الأول . فرد شهادتهما على الثاني ، وغرمهما دية الأول ، وقال : لو علمت أنكما تعمدتما ، لقطعتكما . فأخبر أن القصاص على كل واحد منهما لو تعمدا قطع يد واحدة . ولأنه أحد نوعي القصاص ، فتؤخذ الجماعة بالواحد كالأنفس ، وأما اعتبار التساوي ، فمثله في الأنفس ، فإننا نعتبر التساوي فيها ، فلا نأخذ مسلما بكافر ، ولا حرا بعبد ، وأما أخذ صحيح الأطراف بمقطوعها ، فلأن الطرف ليس هو من النفس المقتص منها ، وإنما يفوت تبعا ; ولذلك كانت ديتهما واحدة ، بخلاف اليد الناقصة والشلاء مع الصحيحة ، فإن ديتهما مختلفة .

                                                                                                                                            وأما اعتبار التساوي في الفعل ، فإنما اعتبر في اليد ; لأنه يمكن مباشرتها بالقطع ، فإذا قطع كل واحد منهما من جانب ، كان فعل كل واحد منهما متميزا عن فعل صاحبه ، فلا يجب على إنسان قطع محل لم يقطع مثله ، وأما النفس ، فلا يمكن مباشرتها بالفعل ، وإنما أفعالهم في البدن ، فيفضي ألمه إليها فتزهق ، ولا يتميز ألم فعل أحدهما من ألم فعل الآخر ، فكانا كالقاطعين في محل واحد ، ولذلك لا يستوفي من الطرف إلا في المفصل الذي قطع الجاني منه ، ولا يجوز تجاوزه ، وفي النفس لو قتله بجرح في بطنه أو جنبه أو غير ذلك ، كان الاستيفاء من العنق دون المحل الذي وقعت الجناية فيه .

                                                                                                                                            وإذا ثبت هذا فإنما يجب القصاص على المشتركين في الطرف ، إذا اشتركوا فيه على وجه لا يتميز فعل أحدهم عن فعل الآخر ; إما بأن يشهدوا عليه بما يوجب قطعه ، فيقطع ، ثم يرجعون عن الشهادة ، أو يكرهوا إنسانا على قطع طرف ، فيجب قطع المكرهين كلهم والمكره ، أو يلقوا صخرة على طرف إنسان ، فيقطعه ، أو يقطعوا يدا يقلعوا عينا ، بضربة واحدة ، أو يضعوا حديدة على مفصل ، ويتحاملوا عليها جميعا ، أو يمدوها ، فتبين ، فإن قطع كل واحد منهم من جانب ، أو قطع أحدهم بعض المفصل ، وأتمه غيره أو ضرب كل واحد ضربة ، أو وضعوا منشارا على مفصله ، ثم مده كل واحد إليه مرة حتى بانت اليد ، فلا قصاص فيه ; لأن كل واحد منهم لم يقطع اليد ، ولم يشارك في قطع جميعها ، وإن كان فعل واحد منهم يمكن الاقتصاص بمفرده ، اقتص منه . وهذا مذهب الشافعي .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية