الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد المشهور أن هو ضمير الشأن ومحله الرفع على الابتداء، خبره الجملة بعده، ومثلها لا يكون لها رابط؛ لأنها عين المبتدأ في المعنى، والسر في تصديرها به التنبيه من أول الأمر على فخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة التحقيق والتقرير؛ فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر جليل فيبقى الذهن مترقبا لما أمامه مما يفسره ويزيل إبهامه فيتمكن عند وروده له فضل تمكن.

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز: إن له مع «إن» حسنا بل لا يصح بدونها غير مسلم. نعم قال الشهاب القاسمي: إن هاهنا إشكالا لأنه إن جعل الخبر مجموع معنى الجملة المبين في باب القضية أعني مجموع الله ومعنى «أحد» والنسبة بينهما ففيه أن الظاهر أن ذلك المجموع ليس هو الشأن وإنما الشأن مضمون الجملة الذي هو مفرد؛ أعني الوحدانية وإن جعل مضمون الجملة الذي هو مفرد فتخصيص عدم الرابط بالجملة المخبر بها عن [ ص: 270 ] ضمير الشأن غير متجه؛ إذ كل جملة كذلك؛ لأن الخبر لا بد من اتحاده بالمبتدأ بحسب الذات، ولا يتحد به كذلك إلا مضمون الجملة الذي هو مفرد. وأجيب باختيار الشق الأول كما يرشد إليه تعبيرهم عن هذا الضمير أحيانا بضمير القصة ضرورة أن مضمون الجملة الذي هو مفرد ليس بقصة، وإنما القصة معناها المبين في باب القضية، وأيضا هم يعدون مثل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد: لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد».

                                                                                                                                                                                                                                      من الجمل التي هي عين المبتدأ في المعنى الغير المحتاجة إلى الضمير لذلك، ومن المعلوم أن يقال: ليس المضمون الذي هو مفرد بل هو الجملة بذلك المعنى، ولذا تراهم يوجبون كسر همزة إن بعد القول وكذا تمثيلهم لها بنطقي: الله حسبي وكفى؛ أي: منطوقي الذي أنطق به ذلك؛ إذ من الظاهر أن ما نطق به هو الجملة بالمعنى المعروف، وقد دل كلام ابن مالك في التسهيل على المراد بكون الجملة التي لا تحتاج إلى رابط عين المبتدأ أنها وقعت خبرا عن مفرد مدلوله جملة وهو ظاهر فيما قلنا أيضا، وكون ذلك شأنا أي: عظيما من الأمور باعتبار ما تضمنه، ووصف الكلام بالعظم ومقابله بهذا الاعتبار شائع ذائع. وقال العلامة أحمد الغنيمي: إن أريد أنها عينه بحسب المفهوم فهو مشكل لعدم الفائدة، وإن أريد عينه بحسب المصدق مع التغاير في المفهوم كما هو شأن سائر الموضوعات مع محمولاتها فقد يقال: إنه مشكل أيضا؛ إذ ما صدق ضمير الشأن أعم من «الله أحد» والخاص لا يحمل على العام في القضايا الكلية، ودعوى الجزئية في هذا المقام ينبو عنه تصريحهم بأن ضمير الشأن لا يخلو عن إبهام. وبعبارة أخرى وهي: إن ما صدق عليه ضمير الشأن مفرد، وما صدق الجملة مركب ولا شيء من المفرد بمركب، ولذا تراهم يؤولون الجملة الواقعة خبرا بمفرد صادق على المبتدأ ليصح وقوعها خبرا، والتزام ذلك في الجملة الواقعة خبرا عن ضمير الشأن ينافيه تصريحهم بأنها غير مؤولة بالمفرد وإن كانت في موقعه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجيب بأن معنى قولهم: هو ضمير الشأن أنه ضمير راجع إليه، وموضوع موضعه، وإن لم يسبق له ذكر للإيذان بأن من الشهرة والنباهة بحيث يستحضره كل أحد وإليه يشير كل مشير وعليه يعود كل ضمير، وقولهم في عد الضمائر التي ترجع إلى متأخر لفظا ورتبة منها ضمير الشأن فإنه راجع إلى الجملة بعده مسامحة ارتكبوها؛ لأن بيان الشأن وتعيين المراد به بها فماصدق الضمير هو بعينه ماصدق الشأن الذي عاد هو عليه فيختار الشق الثاني، فإما أن يراد بالشأن الشأن المعهود ادعاء وتجعل القضية شخصية نظير: هذا زيد، وإما أن يراد المعنى الكلي وتجعل القضية مهملة وهي في قوة الجزئية كأنه قيل: بعض الشأن الله أحد.

                                                                                                                                                                                                                                      وجاء الإبهام الذي ادعي تصريحهم به من عدم تعين البعض قبل ذكر الجملة وحملها عليه وما صدق عليه الشأن كما يكون مفردا يكون جملة فليكن هنا كذلك، واستمجد الأول، واحتمال الكلية مبالغة نحو: كل الصيد في جوف الفرا. كما ترى فليتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوزوا أن يكون هو ضمير المسؤول عنه أو المطلوب صفته أو نسبته؛ فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده والبخاري في تاريخه والترمذي والبغوي في معجمه وابن عاصم في السنة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: يا محمد، انسب لنا ربك؟

                                                                                                                                                                                                                                      فأنزل الله تعالى: قل هو الله أحد
                                                                                                                                                                                                                                      السورة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني في الأوسط والبيهقي بسند حسن وآخرون عن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى: قل هو الله أحد إلخ.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المعالم عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عامر: إلام تدعونا يا محمد؟ قال: «إلى الله» قالا: صفه لنا. أمن ذهب هو أم من فضة أو من حديد أو من خشب؟ فنزلت هذه السورة، فأهلك الله تعالى أربد بالصاعقة وعامرا بالطاعون.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أن اليهود جاءت إلى النبي عليه الصلاة [ ص: 271 ] والسلام منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب فقالوا: يا محمد، صف لنا ربك الذي بعثك، فأنزل الله تعالى السورة.

                                                                                                                                                                                                                                      وكون السائلين اليهود مروي عن الضحاك وابن جبير وقتادة ومقاتل وهو ظاهر في أن السورة مدنية. وجاز رجوع الضمير إلى ذلك للعلم به من السؤال، وجرى ذكره فيه و «هو» عليه مبتدأ، والاسم الجليل خبره، و «أحد» خبر بعد خبر.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز الزمخشري أن يكون بدلا من الاسم الجليل على ما هو المختار من جواز إبدال النكرة من المعرفة، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو أحد. وأجاز أبو البقاء أن يكون الاسم الأعظم بدلا من «هو» و «أحد» خبره، و «الله» تعالى وتقدس علم على الذات الواجب الوجود كما ذهب إليه جمهور الأشاعرة وغيرهم خلافا للمعتزلة حيث قالوا: العلم في حقه سبحانه محال لأن أحدا لا يعلم ذاته تعالى المخصوص بخصوصية حتى يوضع له وإنما يعلم بمفهومات كلية منحصرة في فرد، فيكون اللفظ موضوعا لأمثال تلك المفهومات الكلية فلا يكون علما، ورد بأنه تعالى عالم بخصوصية ذاته فيجوز أن يضع لفظا بإزائه بخصوصه فيكون علما وهذا على مذهب القائلين بأن الوضع هو الله تعالى ظاهر إلا أنه يلزم أن يكون ما يفهم من لفظ الله غير ما وضع له؛ إذ لا يعلم غيره تعالى خصوصية ذاته تعالى التي هي الموضوع له على هذا التقدير، والقول بأنه يجوز أن يكون المفهوم الكلي آلة للوضع ويكون الموضوع له هو الخصوصية التي يصدق عليها المفهوم الكلي كما قيل في هذا ونظائره يلزم عليه أيضا أن يكون وضع اللفظ لما لا يفهم منه؛ فإنا لا نفهم من أسمائه تعالى إلا تلك المفهومات الكلية. والظاهر أن الملائكة عليهم السلام كذلك؛ لاحتجاب ذاته عز وجل عن غيره سبحانه، ومن هنا استظهر بعض الأجلة ما نقل عن حجة الإسلام أن الأشبه أن الاسم الجليل جار في الدلالة على الموجود الحق الجامع لصفات الإلهية المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقي مجرى الأعلام، أي: وليس بعلم وقد مر ما يتعلق بذلك أول الكتاب فارجع إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      بقي في هذا المقام بحث وهو أن الأعلام الشخصية كزيد إما أن يكون كل منها موضوعا للشخص المعين كما هو المتبادر المشهور، فإذا أخبر أحد بتولد ابن له فسماه زيدا مثلا من غير أن يبصره يكون ذلك اللفظ اسما للصورة الخيالية التي حصلت في مخيلته، وحينئذ إذا لم يكن المولود بهذه السورة لم يكن إطلاق الاسم عليه بحسب ذلك الوضع، ولو قيل بكونه موضوعا للمفهوم الكلي المنحصر في ذلك الفرد لم يكن علما كما سبق. ثم إذا سمعنا علما من تلك الأعلام الشخصية ولم نبصر مسماه أصلا فإنا لا نفهم الخصوصية التي هو عليها، بل ربما تخيلناه على غير ما هو عليه من الصور، وإما أن يكون جميع تلك الصور الخالية موضوعا له فيكون من قبيل الألفاظ المشتركة بين معان غير محصورة، وإما أن يكون الموضوع له هو الخصوصية التي هو عليها فقط فيكون غيرها خارجا عن الموضوع له فيكون فهم غيرها من الخصوصيات منه غلطا، فإما أن يترك دعوى كون تلك الأعلام جزئيات حقيقية، ويقال: إنها موضوعات للمفهومات الكلية المنحصرة في الفرد، أو يلتزم أحد الاحتمالات الأخر، وكلا الوجهين محل تأمل كما ترى فتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      و «أحد» قالوا: همزته مبدلة من الواو وأصله وحد وإبدال الواو المفتوحة همزة قليل، ومنه قولهم: امرأة أناة. يريدون: وناة. لأنه من الونى وهو الفتور وهذا بخلاف أحد الذي يلازم النفي ونحوه. ويراد به العموم كما في قوله تعالى: فما منكم من أحد عنه حاجزين ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «أحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي».

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: هل تحس منهم من أحد وقوله سبحانه: فلا تدعوا مع الله أحدا وقوله عز وجل: وإن أحد من المشركين استجارك فإن همزته أصلية. وقيل: الهمزة فيه أصلية كالهمزة في الآخر، والفرق بينهما قال الراغب: إن المختص بالنفي منهما لاستغراق جنس الناطقين ويتناول القليل والكثير على طريق الاجتماع والافتراق نحو: ما في الدار [ ص: 272 ] أحد. أي: لا واحد ولا اثنان فصاعدا لا مجتمعين ولا مفترقين، ولهذا لم يصح استعماله في الإثبات لأن نفي المتضادين يصح ولا يصح إثباتهما. فلو قيل: في الدار أحد، لكان فيه إثبات واحد منفرد مع إثبات ما فوق الواحد مجتمعين ومفترقين وذلك ظاهر الإحالة ولتناول ذلك ما فوق الواحد يصح أن يقال: ما من أحد فاضلين. وعليه الآية المذكورة آنفا.

                                                                                                                                                                                                                                      والمستعمل في الإثبات على ثلاثة أوجه: الأول أن يضم إلى العشرات نحو: أحد عشر، وأحد وعشرون.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن يستعمل مضافا أو مضافا إليه بمعنى الأول كما في قوله تعالى: أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وقولهم: يوم الأحد؛ أي: يوم الأول. والثالث: أن يستعمل مطلقا وصفا وليس ذلك إلا في وصف الله تعالى؛ وهو وإن كان أصله واحدا إلا أن أحدا يستعمل في غيره سبحانه نحو قول النابغة:


                                                                                                                                                                                                                                      كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد



                                                                                                                                                                                                                                      انتهى. وقال مكي: أصل أحد واحد، فأبدلوا الواو همزة فاجتمع ألفان؛ لأن الهمزة تشبه الألف فحذفت إحداهما تخفيفا. وفرق ثعلب بين أحد وواحد؛ بأن أحدا لا يبنى عليه العدد ابتداء، فلا يقال: أحد واثنان كما يقال: واحد واثنان، ولا يقال: رجل أحد كما يقال: رجل واحد، ولذلك اختص به سبحانه، وفرق بعضهم بينهما أيضا بأن الأحد في النفي نص في العموم بخلاف الواحد فإنه محتمل للعموم وغيره، فيقال: ما في الدار أحد، ولا يقال: بل اثنان. ويجوز أن يقال: ما في الدار واحد بل اثنان، ونقل عن بعض الحنفية أنه قال في التفرقة بينهما: إن الأحدية لا تحتمل الجزئية والعددية بحال، والواحدية تحتملها؛ لأنه يقال: مائة واحدة، وألف واحد، ولا يقال: مائة أحد إلا ألف أحد، وبني على ذلك مسألة الإمام محمد بن الحسن التي ذكرها في الجامع الكبير إذا كان لرجل أربع نسوة فقال: والله لا أقرب واحدة منكن صار موليا منهن جميعا ولم يجز أن يقرب واحدة منهن إلا بكفارة، ولو قال: والله لا أقرب إحداكن لم يصر موليا إلا من إحداهن والبيان إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وفرق الخطابي بأن الأحدية لتفرد الذات، والواحدية لنفي المشاركة في الصفات، ونقل عن المحققين التفرقة بعكس ذلك، ولما لم ينفك في شأنه تعالى أحد الأمرين من الآخر قيل: الواحد الأحد في حكم اسم واحد، وفسر الأحد هنا ابن عباس وأبو عبيدة كما قال الجوزي بالواحد وأيد بقراءة الأعمش: «قل هو الله الواحد». وفسر بما لا يتجزأ ولا ينقسم. وقال بعض الأجلة: إن الواحد مقول على ما تحته بالتشكيك، فالمراد به هنا حيث أطلق المتصف بالواحدية التي لا يمكن أن يكون أزيد منها ولا أكمل فهو ما يكون منزه الذات عن أنحاء التركيب والتعدد خارجا وذهنا وما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة التامة المقتضية للألوهية، وهو مأخوذ من كلام الرئيس أبي علي بن سينا في تفسيره السورة الجليلة حيث قال: إن أحدا دال على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه، وأنه لا كثرة هناك أصلا لا كثرة معنوية وهي كثرة المقومات والأجناس والفصول وكثرة الأجزاء الخارجية المتمايزة عقلا كما في المادة والصورة، والكثرة الحسية بالقوة أو بالفعل كما في الجسم؛ وذلك يتضمن لكونه سبحانه منزها عن الجنس والفصل والمادة والصورة والأعراض والأبعاض والأعضاء والأشكال والألوان وسائر ما يثلم الوحدة الكاملة والبساطة الحقة اللائقة بكرم وجهه عز وجل عن أن يشبهه شيء أو يساويه سبحانه شيء. وقال ابن عقيل الحنبلي: الذي يصح لنا من القول مع إثبات الصفات أنه تعالى واحد في إلهيته لا غير. وقال غيره من السفليين كالحافظ ابن رجب: هو سبحانه الواحد في إلهيته [ ص: 273 ] وربوبيته فلا معبود ولا رب سواه عز وجل، واختار بعد وصفه تعالى بما ورد له سبحانه من الصفات أن المراد الواحدية الكاملة؛ وذلك على الوجهين: كون الضمير للشأن وكونه للمسؤول عنه، ولا يصح أن يراد الواحد بالعدد أصلا؛ إذ يخلو الكلام عليه من الفائدة. وذكر بعضهم أن الاسم الجليل يدل على جميع صفات الكمال وهي الصفات الثبوتية. ويقال لها صفات الإكرام أيضا. والأحد يدل على جميع صفات الجلال وهي الصفات السلبية، ويتضمن الكلام على كونهما خبرين الإخبار بكون المسؤول عنه متصفا بجميع الصفات الجلالية والكمالية. وتعقب بأن الإلهية جامعة لجميع ذلك، بل كل واحد من الأسماء الحسنى كذلك لأن الهوية إلهية لا يمكن التعبير عنها لجلالتها وعظمتها إلا بأنه هو هو، وشرح تلك الهوية بلوازم منها ثبوتية ومنها سلبية، واسم الله تعالى متناول لهما جميعا؛ فهو إشارة إلى هويته تعالى، والله سبحانه كالتعريف لها؛ فلذا عقب به، وكلام الرئيس ينادي بذلك وسنشير إليه إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عبد الله وأبي: «هو الله أحد» بغير «قل» وقد اتفقوا على أنه لا بد منها في: قل يا أيها الكافرون ولا تجوز في «تبت»، فقيل: لعل ذلك لأن سورة الكافرين مشاقة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، أو موادعته عليه الصلاة والسلام لهم ومثل ذلك يناسب أن يكون من الله تعالى؛ لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم مأمور بالإنذار والجهاد، وسورة «تبت» معاتبة لأبي لهب، والنبي عليه الصلاة والسلام على خلق عظيم وأدب جسيم، فلو أمر بذلك لزم مواجهته به وهو عمه صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذه السورة توحيد وهو يناسب أن يقول به تارة ويؤمر بأن يدعو إليه أخرى. وقيل في وجه «قل» في سورة الكافرون: إن فيها ما لا يصح أن يكون من الله تعالى ك: لا أعبد ما تعبدون فلا بد فيها من ذكر «قل» وفيه نظر؛ لأنه لا يلزم ذكره بهذا اللفظ فافهم. وقال الدواني في وجه ترك «قل» في«تبت»: لا يبعد أن يقال: إن القول بمعاتبة أبي لهب إذا كان من الله تعالى كان أدخل في زجره وتفضيحه. وقيل: فيه رمز إلى أنه لكونه على العلات عمه صلى الله تعالى عليه وسلم لا ينبغي أن يهينه بمثل هذا الكلام إلا الذي خلقه؛ إذ لا يبعد أن يتأذى مسلم من أقاربه لو سبه أحد غيره عز وجل.

                                                                                                                                                                                                                                      فقد أخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر المنقول عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهما قال: مرت درة ابنة أبي لهب برجل، فقال: هذه ابنة عدو الله أبي لهب. فأقبلت عليه فقالت: ذكر الله تعالى أبي بنباهته وشرفه وترك أباك بجهالته، ثم ذكرت ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم؛ فخطب فقال: «لا يؤذين مسلم بكافر».

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إن إثبات «قل» على قراءة الجمهور في المصحف والتزام قراءتها في هذه السورة ونظائرها مع أنه ليس من دأب المأمور بقل أن يتلفظ في مقام الائتمار إلا بالمقول. قال الماتريدي في التأويلات: لأن المأمور ليس المخاطب به فقط بل كل أحد ابتلي بما ابتلي به المأمور فأثبت ليبقى على مر الدهور منا على العباد. وقيل: يمكن أن يقال: المخاطب ب «قل» نفس التالي كأنه تعالى أعلم به أن كل أحد عند مقام هذا المضمن ينبغي أن يأمر نفسه بالقول به، وعدم التجاوز عنه. فتأمل. والله تعالى الموفق.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية