الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 310 ] 578 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تصفير اللحية من كراهة ، ومن إباحة ، ومن استحسان لذلك ، وتقديم له على ما سواه

قال أبو جعفر : قد ذكرنا في حديث عبد الرحمن بن حرملة ، عن ابن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : العشرة الأشياء التي كان يكرهها ، وفيها : الصفرة ، وهي من تغيير الشيب ، وقد ذكرنا في تغيير الشيب بالخضاب بالحناء والكتم ما قد ذكرناه في الباب الذي قبل هذا الباب ، وفي ذلك ما قد دل على أن كراهة رسول الله صلى الله عليه وسلم للصفرة ، إنما كان لأن أهل الكتاب كانوا لا يفعلون ذلك ، فكان في ذلك على مثل ما كانوا عليه ، ثم أمر بخلافهم ، فخضب بالصفرة أيضا ، كذلك كان يكرهها كما كان أهل الكتاب يكرهونها حتى أمر بخلافهم ، فخضب بالصفرة ، فروي عنه صلى الله عليه وسلم فيها .

3693 - ما قد حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن مالكا أخبره ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن عبيد بن جريج ، أنه قال لعبد الله بن عمر : يا أبا عبد الرحمن ، رأيتك تصبغ بالصفرة ، فقال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها ، فأنا [ ص: 311 ] أحب أن أصبغ بها .

3694 - وما قد حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرني عبدة بن عبد الرحيم ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : أخبرنا ابن أبي رواد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس النعال السبتية ، ويصفر لحيته بالورس والزعفران ، وكان ابن عمر يفعل ذلك .

3695 - وما حدثنا أحمد ، قال : أخبرنا يحيى بن حكيم ، قال : [ ص: 312 ] حدثنا أبو قتيبة ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن زيد بن أسلم ، عن عبيد بن جريج ، قال : رأيت ابن عمر يصفر لحيته ، فقيل له في ذلك ، فقال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصفر لحيته .

قال أبو جعفر : ففي هذا أيضا استعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفرة ، وقد روي عنه أيضا صلى الله عليه وسلم في استحسانه إياها ، وتفضيله إياها على غيرها .

3696 - وما قد حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا محمد بن طلحة ، عن حميد بن وهب القرشي ، عن ابني طاوس ، عن أبيهما طاوس ، عن ابن عباس ، قال : مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل قد خضب لحيته بالحناء ، فقال : ما أحسن هذا ! ثم مر عليه رجل بعده قد خضب بالحناء والكتم ، فقال : هذا أحسن من هذا الأول ، ومر عليه رجل قد خضب بصفرة ، فقال : هذا أحسن من هذا كله ، وكان طاوس يخضب بالصفرة .

[ ص: 313 ]

3697 - وما قد حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا علي بن عياش الحمصي ، قال : حدثنا محمد بن طلحة ، قال : حدثني وهب بن حميد ، هكذا قال ، ثم ذكر مثله بإسناده ، غير أنه لم يذكر : وكان طاوس يخضب ، وغير أنه قال مكان ما في حديث الربيع عن ابني طاوس ، قال : حدثني بنو طاوس ، عن أبيهم .

3698 - وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، عن محمد بن طلحة ، ثم ذكر بإسناده مثله ، غير أنه لم يذكر فيه : وكان طاوس يخضب .

ففي هذا الحديث تقديم الصفرة على ما سواها من الأشياء التي يغير بها الشيب ، وكل الأشياء التي يغير بها الشيب من حمرة ومن صفرة فقد جاءت الآثار بإباحتها ، وأما تغييره بالسواد فقد ذكرنا في قصة أبي قحافة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم أن يجنبوه السواد .

فنظرنا في السبب الذي من أجله كره السواد .

3699 - فوجدنا يونس قد حدثنا ، قال : حدثنا علي بن معبد ، عن [ ص: 314 ] عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم الجزري ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رفعه ، قال : يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة .

فعقلنا بذلك أن الكراهة إنما كانت لذلك ، لأنه أفعال قوم مذمومين ، لا لأنه في نفسه حرام .

وقد خضب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسواد .

منهم : عقبة بن عامر .

كما حدثنا يونس ، قال : أخبرني يوسف بن عمرو بن يزيد ، عن ابن لهيعة ، عن أبي عشانة ، قال : كان عقبة بن عامر يخضب بالسواد ، ويقول :

نسود أعلاها وتأبى أصولها ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل

وكما حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال : [ ص: 315 ] قلت لابن لهيعة : أحدثكم أبو عشانة . ثم ذكر هذا الحديث ؟ فقال : لم أسمعه من أبي عشانة ، ولكن حدثنيه الليث بن سعد ، عن أبي عشانة .

قال أبو جعفر : قال لنا ابن أبي داود : لم يسمع الليث بن سعد من أبي عشانة غير هذا الحديث ، ولم يسمع ابن لهيعة من الليث غير هذا الحديث .

وقد روي عن الحسين بن علي رضي الله عنه أيضا أنه كان يخضب بالسواد .

كما حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن شيبة الجدي ، قال : حدثنا شريك ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن الشعبي ، قال : دخلت على الحسين بن علي رضي الله عنه وعليه جبة خز ، وهو يحتجم في رمضان ، وقد اختضب بالسواد .

وكما حدثنا إسماعيل بن إسحاق الكوفي ، قال : أخبرنا جعفر بن [ ص: 316 ] عون ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، قال : حدثنا العيزار بن حريث ، قال : رأيت على الحسين بن علي رضي الله عنه مطرفا من خز ، وقد خضب لحيته ورأسه بالحناء والكتم .

ففي هذا الحديث ما قد دل على أن نفس الخضاب بالسواد إنما كره خوفا مما قد ذكرناه من التشبه بالمذمومين ، لا لأنه في نفسه حرام ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية