الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 323 ] 57 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله عليه السلام فيما كان منه في هديته إلى النجاشي ومن وعده بها أم سلمة إن رجعت إليه بموت النجاشي قبل وصولها إليه ، ومن إعطائه بعد رجوعها إليه أم سلمة بعضها وسائر نسائه سواها بقيتها

347 - حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب قال : وحدثني مسلم بن خالد ، عن موسى بن عقبة ، عن أمه ، عن أم كلثوم ابنة أبي سلمة قالت : { لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال لها : إني قد أهديت إلى النجاشي أواقي من مسك ، وحلة ، وإني لا أراه إلا قد مات ، ولا أرى الهدية التي أهديت إليه إلا سترد إلي ، فإذا ردت إلي فهو لك ، فكان كما قال : هلك النجاشي ، فلما ردت الهدية أعطى كل امرأة من نسائه وقية من ذلك المسك ، وأعطى الباقي أم سلمة ، وأعطاها الحلة } .

[ ص: 324 ]

348 - حدثنا الربيع المرادي ، حدثنا أسد ، حدثنا مسلم بن خالد ، فذكر مثله .

فأنكر منكر هذا الحديث ، وقال : ما فيه من قول رسول الله عليه السلام في النجاشي : " لا أراه إلا قد مات " . قد دفعه ما كان من إخبار رسول الله عليه السلام الناس بموته في اليوم الذي كان موته فيه ، وصلاته لهم عليه . وذكر في ذلك :

349 - ما قد حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : سمعت جابرا يقول : قال النبي عليه السلام : { قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش أصحمة ، فهلم فقوموا فصلوا عليه ، قال : فصففنا فصلى عليه النبي عليه السلام } .

قال أبو جعفر : أصحمة لفظة بالحبشية ، تفسيرها عطية ، وهي اسم هذا الرجل .

[ ص: 325 ]

350 - وما قد حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، حدثني مالك ، عن ابن شهاب ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة : { أن رسول الله عليه السلام نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه ، خرج بهم إلى المصلى ، فصف بهم ، وكبر عليه أربع تكبيرات } .

351 - وما قد حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أخبرني ابن المسيب ، وأبو سلمة ، وأبو أمامة بن سهل ، عن رسول الله عليه السلام مثله . ولم يذكر أبا هريرة ولا غيره .

352 - وما قد حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، أخبرني سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة ، عن أبي هريرة ، { عن رسول الله عليه السلام : أنه نعى لهم النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه ، وقال : استغفروا لأخيكم } .

[ ص: 326 ]

353 - وما قد حدثنا إبراهيم ، حدثنا عبد الله ، حدثني الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، أخبرني ابن المسيب : أن أبا هريرة حدثه : { أن رسول الله عليه السلام صف بهم بالمصلى ، وكبر عليه - يعني النجاشي - أربع تكبيرات } .

ففي ذلك وقوفه على موت النجاشي في اليوم الذي كان موته فيه ، فكيف يجوز أن يقول لما قد وقف على حقيقته لا أراه إلا قد كان .

قال : ويدفعه أيضا ما قد ذكر فيه من وعد رسول الله عليه السلام أم سلمة بالهدية إن ردت إليه ، وأنه لما ردت إليه أعطاها بعضها ومنعها من بقيتها ، وفي ذلك خلفه بعض ما وعدها به ، وحاش لله أن يكون ذلك من أخلاقه ؛ لأن مواعيده عليه السلام قد كانت تجري بخلاف ذلك حتى كان أبو بكر ينجزها عنه بعد وفاته عليه السلام .

فمما قد روي في ذلك :

354 - ما قد حدثنا ابن أبي عقيل ، حدثنا ابن عيينة ، عن محمد بن المنكدر ، عن { جابر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قد جاءنا مال البحرين لأعطيتك هكذا وهكذا وهكذا ، فلم يأت مال البحرين حتى قبض رسول الله } صلى الله عليه وسلم ، فلما قدم مال البحرين قال أبو بكر : من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 327 ] دين أو عدة فليأتنا . قال جابر : فأتيته فقلت : إن النبي عليه السلام وعدني أن يعطيني هكذا ، فأعطاني أبو بكر ، ثم أتيته بعد أسأله فلم يعطني ، ثم أتيته فسألته فلم يعطني ، ثم أتيته الثالثة فقلت : قد سألتك فلم تعطني ، ثم سألتك فلم تعطني ، فإما أن تعطيني ، وإما أن تبخل عني . قال : وأي داء أدوأ من البخل ؟ ما منعتك من شيء إلا وأنا أريد أن أعطيك .

355 - وما قد حدثنا ابن أبي عقيل ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن أبي جعفر محمد بن علي ، عن جابر مثله قال : وحثا لي حثية ، ثم قال : عدها ، فعددتها ، فوجد بها خمس مائة . قال : خذ مثلها مرتين .

356 - وما قد حدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا أبو عاصم ، أخبرنا ابن جريج ، أخبرني ابن المنكدر ، عن جابر . وعمرو بن دينار ، عن محمد بن علي ، عن جابر قال : لما توفي رسول الله عليه السلام وكان أبو بكر قال عمرو : وكان له أول مال أتاه من قبل العلاء بن الحضرمي ، فقال أبو بكر : من كان له على رسول الله عليه السلام دين أو كانت له عنده [ ص: 328 ] عدة فليأتنا قال جابر : فقلت : أنا وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا وهكذا وهكذا ، ثلاث مرات ، وبسط جابر كفيه فعد لي أبو بكر خمس مائة ، وخمس مائة ، وخمس مائة . قال هذا المنكر : وإذا كانت مواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته واجبا على ولي أمره بعد وفاته إمضاؤها ، كان هو عليه السلام بذلك في حياته أولى .

فكان جوابنا له في ذلك أن الذي ذكره من إخبار رسول الله عليه السلام الناس بحقيقة موت النجاشي في اليوم الذي كان موته فيه كما ذكر .

غير أنه قد يجوز أن يكون قبل ذلك لما تأخر عنه أمر هديته ، وانقطعت عنه أخبار النجاشي فيها ، وقع بقلبه عند ذلك ما يقع مثله في قلوب من سواه من بني آدم ، فيما قد كان مما قد جرت العادة فيه بخلافه ، ما ذكر في الحديث الأول الذي قد ذكرناه في أول هذا الباب ، ثم لما أطلعه الله على حقيقة موت النجاشي في اليوم الذي كانت وفاته فيه ، كان منه ما أخبر الناس به مما ذكر في الفصل الثاني من هذا الباب ، وأما ما كان منه عليه السلام في إعطائه أم سلمة بعض الهدية التي ردت إليه ، وإعطائه بقيتها من سواها من أزواجه بعد تقدم وعده إياها بها كلها ، فإن ذلك مما قد يجوز أن تكون الهدية لما ردت إليه بذلها لأم سلمة كما كان وعدها بها ، ثم لم تقبلها إلا بإدخاله بقية نسائه معها فيها كراهية استئثارها عليهن ، كما كان من الأنصار لما دعاهم ليقطع لهم من البحرين ما أراد أن يقطعه لهم من ذلك فقالوا : لا نفعل حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين مثل الذي قطعته لنا من ذلك [ ص: 329 ] كراهية الاستئثار عليهم مما قاله رسول الله عليه السلام لهم ، وسنذكر ذلك بإسناده فيما هو أولى به ، من هذا الموضع من كتابنا هذا إن شاء الله . فكان ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أم سلمة يحتمل أن يكون على هذا المعنى ، وفي ذلك ما قد أوجب لها جلالة الرتبة ، وحسن الصحبة لصواحباتها من أزواج النبي عليه السلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية