الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين

"البينات": التوراة، والعصا، وفرق البحر، وغير ذلك من آيات موسى عليه السلام، وقوله: ثم اتخذتم تدل "ثم" على أنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات، وذلك أعظم في ذنبهم ، وقد تقدمت قصة اتخاذهم العجل، والضمير في قوله: من بعده عائد على موسى عليه السلام، أي من بعده حين غاب عنكم في المناجاة، ويحتمل أن يعود الضمير في "بعده" على المجيء، وهذه الآية ترد عليهم في أن من آمن بما نزل عليه لا يتخذ العجل، وقد تقدم ذكر أخذ الميثاق ورفع الطور .

وقوله: خذوا ما آتيناكم بقوة ، يعني التوراة، والشرع. و"بقوة" أي بعزم، ونشاط، وجد، "واسمعوا" معناه هنا: وأطيعوا، وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط وقالت [ ص: 286 ] طائفة من المفسرين: إنهم قالوا سمعنا وعصينا ، ونطقوا بهذه الألفاظ مبالغة في التعنت والمعصية، وقالت طائفة: ذلك مجاز، ولم ينطقوا بـ "سمعنا وعصينا" ولكن فعلهم اقتضاه، كما قال الشاعر:


امتلأ الحوض وقال قطني ..................



وهذا أيضا احتجاج عليهم في كذب قولهم: نؤمن بما أنزل علينا .

وقوله تعالى: وأشربوا في قلوبهم العجل ، التقدير: حب العجل، والمعنى: جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه ومجاز عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم، وقال قوم: إن معنى قوله: وأشربوا في قلوبهم العجل شربهم الماء الذي ألقى فيه موسى برادة العجل، وذلك أنه برده بالمبرد ورماه في الماء، وقيل لبني إسرائيل : اشربوا من ذلك الماء، فشرب جميعهم، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه. وهذا قول يرده قوله تعالى: في قلوبهم ، وروي أن الذين تبين فيهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجن.

وقوله تعالى: "بكفرهم" يحتمل أن تكون باء السبب، ويحتمل أن تكون بمعنى مع.

[ ص: 287 ] وقوله تعالى: قل بئسما الآية، أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم بأنه بئس هذه الأشياء التي فعلتم، وأمركم بها إيمانكم الذي زعمتم في قولكم: نؤمن بما أنزل علينا ، و "ما": في موضع رفع، والتقدير: بئس الشيء قتل واتخاذ عجل، وقول سمعنا وعصينا . ويجوز أن تكون "ما" في موضع نصب، و إن كنتم مؤمنين شرط، وقد يأتي الشرط والشارط يعلم أن الأمر على أحد الجهتين، كما قال الله تعالى عن عيسى عليه السلام : إن كنت قلته فقد علمته وقد علم عيسى عليه السلام أنه لم يقله، كذلك: إن كنتم مؤمنين ، والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين، لكنه إقامة حجة بقياس بين، وقال قوم: "إن" هنا نافية بمنزلة "ما" كالتي تقدمت. وقرأ الحسن ، ومسلم بن جندب "بهو إيمانكم" برفع الهاء.

وقوله تعالى: قل إن كانت لكم الدار الآخرة الآية، أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم، والمعنى: إن كان لكم نعيمها وحظوتها وخيرها فذلك يقتضي حرصكم على الوصول إليها فتمنوا الموت ، و"الدار": اسم كانت، و"خالصة" خبرها، ويجوز أن يكون نصب "خالصة" على الحال، و"عند الله" خبر كان، و من دون الناس يحتمل أن يراد بـ "الناس" محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعه، ويحتمل أن يراد العموم التام، وهو قول اليهود فيما حفظ عنهم، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسر الواو من "تمنوا" للالتقاء، وحكى الأهوازي عن أبي عمرو أنه قرأ "تمنوا الموت" بفتح الواو، وحكي عن غيره اختلاس الحركة في الرفع، وقراءة الجماعة بضم الواو.

وهذه آية بينة أعطاها الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، لأن اليهود قالت: نحن أبناء الله وأحباؤه ، وشبه ذلك من القول، فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت، وأن [ ص: 288 ] يعلمهم أنه من تمناه منهم مات، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعلم اليهود صدقه، فأحجموا عن تمنيه فرقا من الله لقبح أعمالهم، ومعرفتهم بكذبهم في قولهم: نحن أبناء الله ، وحرصا منهم على الحياة ، وقيل: إن الله منعهم من التمني، وقصرهم على الإمساك عنه، لتظهر الآية لنبيه صلى الله عليه وسلم.

والمراد بقوله: "تمنوا" أريدوه بقلوبكم واسألوه، هذا قول جماعة من المفسرين، وقال ابن عباس : المراد فيه السؤال فقط وإن لم يكن بالقلب، وقال أيضا هو وغيره: إنما أمروا بالدعاء بالموت على أردأ الحزبين من المؤمنين أو منهم.

وذكر المهدوي وغيره أن هذه الآية كانت مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم وارتفعت بموته. والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمنى الموت إنما كانت أياما كثيرة عند نزول الآية، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهلنجران إلى المباهلة، وقالت فرقة: إن سبب هذا الدعاء إلى تمني الموت أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد به هلاك الفريق المكذب، أو قطع حجتهم، لا أن علته قولهم: نحن أبناء الله .

[ ص: 289 ] ثم أخبر تعالى عنهم بعجزهم، وأنهم لا يتمنونه، و"أبدا" ظرف زمان، وإذا كانت "ما" بمعنى الذي فتحتاج إلى عائد تقديره: قدمته، وإذا كانت مع "قدمت" بمثابة المصدر غنيت عن الضمير، هذا قول سيبويه ، و الأخفش يرى الضمير في المصدرية. وأضاف ذنوبهم واجترامهم إلى الأيدي، وأسند تقديمها إليها، إذ الأكثر من كسب العبد الخير والشر إنما هو بيديه، فحمل جميع الأشياء على ذلك. وقوله تعالى: والله عليم بالظالمين ظاهرها الخبر، ومضمنها الوعيد، لأن الله عليم بالظالمين وغيرهم، ففائدة تخصيصهم حصول الوعيد.

التالي السابق


الخدمات العلمية