الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                      باب اللام

                                                                                                                                                                                                                      73- قوله: (ليشتروا به ثمنا قليلا) فهذه اللام إذا كانت في معنى "كي" كان ما بعدها نصبا على ضمير

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 127 ] "أن"، وكذلك المنتصب بـ "كي" هو أيضا على ضمير "أن" كأنه يقول: "الاشتراء"، فـ "يشتروا" لا يكون اسما إلا بـ "أن"، فـ "أن" مضمرة وهي الناصبة وهي في موضع جر باللام. وكذلك: (كي لا يكون دولة) "أن" مضمرة وقد جرتها "كي" وقالوا: "كيمه" فـ "مه" اسم لأنه "ما" التي في الاستفهام وأضاف "كي" إليها.

                                                                                                                                                                                                                      وقد تكون "كي" بمنزلة "أن" هي الناصبة وذلك قوله: (لكيلا تأسوا) فأوقع عليها اللام. ولو لم تكن "كي" وما بعدها اسما لم تقع عليها اللام.

                                                                                                                                                                                                                      وكذلك ما انتصب بعد "حتى" إنما انتصب بضمير "أن" قال: (حتى يأتي وعد الله) و: (حتى تتبع ملتهم) إنما هو "حتى أن يأتي " و"حتى أن تتبع"، وكذلك جميع ما في القرآن من "حتى". وكذلك: (وزلزلوا حتى يقول الرسول) أي: "حتى أن يقول" لأن "حتى" في معنى "إلى"، تقول: "أقمنا حتى الليل" أي: "إلى الليل". فإن قيل: إظهار "أن" ها هنا قبيح قلت: "قد تضمر أشياء يقبح إظهارها إذا كانوا يستغنون عنها". ألا ترى أن قولك: "إن زيدا ضربته" منتصب بفعل مضمر لو أظهرته لم يحسن. وقد قرئت هذه الآية: (وزلزلوا حتى يقول الرسول) يريد: "حتى الرسول قائل"، جعل ما بعد "حتى" مبتدأ. وقد يكون ذلك نحو قولك: "سرت حتى أدخلها" إذا أردت: "سرت فإذا أنا داخل فيها" و"سرت

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 128 ] أمس حتى أدخلها اليوم" أي: حتى "أنا اليوم أدخلها فلا أمنع". وإذا كان غاية للسير نصبته. وكذلك ما لم يجب مما يقع عليه "حتى" نحو: (لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا) . وأما: (ولن يخلف الله وعده) فنصب بـ "لن" كما نصب بـ "أن" وقال بعضهم: إنما هي "أن" جعلت معها "لا" كأنه يريد "لا أن يخلف الله وعده" فلما كثرت في الكلام حذفت، وهذا قول، وكذلك جميع "لن" في القرآن.

                                                                                                                                                                                                                      وينبغي لمن قال ذلك القول أن يرفع "أزيد لن تضرب" لأنه في معنى "أزيد لا ضرب له".

                                                                                                                                                                                                                      وكذلك ما نصب بـ "إذن" تقول: "إذن آتيك" تنصب بها كما تنصب بـ "أن" وبـ "لن" فإذا كان قبلها الفاء أو الواو رفعت نحو قول الله عز وجل: (وإذا لا تمتعون إلا قليلا) وقال: (فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) وقد يكون هذا نصبا أيضا عنده على إعمال "إذن". وزعموا أنه في بعض القراءة منصوب وإنما رفع لأن معتمد الفعل

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 129 ] صار على الفاء والواو ولم يحمل على "إذن"، فكأنه قال: "فلا يؤتون الناس إذا نقيرا ولا يمتعون إذا" وقوله: (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء) [و]: (وحسبوا ألا تكون فتنة) و: (ألا يرجع إليهم قولا) فارتفع الفعل بعد "أن لا" لأن هذه مثقلة في المعنى، ولكنها خففت وجعل الاسم فيها مضمرا، والدليل على ذلك أن الاسم يحسن فيها والتثقيل. ألا ترى أنك تقول: "أفلا يرون أنه لا يرجع إليهم"، وتقول: "أنهم لا يقدرون على شيء" [و] "أنه لا تكون فتنة". وقال: (آيتك ألا تكلم الناس) نصب لأن هذا ليس في معنى المثقل، إنما هو: (آيتك ألا تكلم) كما تقول: (آيتك أن تكلم) وأدخلت: (لا) للمعنى الذي أريد من النفي. ولو رفعت هذا جاز على معنى آيتك أنك لا تكلم، ولو نصب الآخر جاز على أن تجعلها "أن" الخفيفة التي تعمل في الأفعال. ومثل ذلك: (إنه ظن أن لن يحور)

                                                                                                                                                                                                                      وقال: (تظن أن يفعل بها فاقرة) وقال: (إن ظنا أن يقيما حدود الله) وتقول: "علمت أن لا تكرمني" و"حسبت أن لا تكرمني". فهذا مثل ما ذكرت لك. فإنما صار "علمت" و"استيقنت" ما بعده رفع لأنه واجب. فلما كان واجبا لم يحسن أن يكون بعده "أن" التي تعمل في الأفعال؛ لأن تلك إنما تكون في غير الواجب، ألا ترى أنك تقول: "أريد أن تأتيني" فلا يكون هذا

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 130 ]

                                                                                                                                                                                                                      إلا لأمر لم يقع، وارتفع ما بعد الظن وما أشبهه لأنه مشاكل للعلم لأنه يعلم بعض الشيء إذا كان يظنه. وأما "خشيت أن لا تكرمني" فهذا لم يقع. ففي مثل هذا تعمل أن الخفيفة ولو رفعته على أمر قد استقر عندك وعرفته كأنك جربته فكان لا يكرمك فقلت: "خشيت أن لا تكرمني" أي: خشيت أنك لا تكرمني جاز.

                                                                                                                                                                                                                      وزعم يونس أن ناسا من العرب يفتحون اللام التي في مكان "كي" وأنشدوا هذا البيت، فزعم أنه سمعه مفتوحا: [قال النمر بن تولب ]:


                                                                                                                                                                                                                      (104) يؤامرني ربيعة كل يوم لأهلكه وأقتني الدجاجا

                                                                                                                                                                                                                      وزعم خلف أنها لغة لبني العنبر وأنه سمع رجلا ينشد هذا البيت منهم مفتوحا:


                                                                                                                                                                                                                      (105) فقلت لكلبي قضاعة إنما     تخيرتماني أهل فلج لأمنعا

                                                                                                                                                                                                                      يريد "من أهل فلج". وقد سمعت أنا ذلك من العرب، وذلك أن أصل اللام

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 131 ] الفتح وإنما كسرت في الإضافة ليفرق بينها وبين لام الابتداء. وزعم أبو عبيدة أنه سمع لام "لعل" مفتوحة في لغة من يجر بها ما بعدها في قول الشاعر: [ خالد بن جعفر ]:


                                                                                                                                                                                                                      (106) لعل الله يمكنني عليها     جهارا من زهير أو أسيد

                                                                                                                                                                                                                      يريد "لعل الله" فهذه اللام مكسورة لأنها لام إضافة. وقد زعم أنه قد سمعها مفتوحة فهي مثل لام "كي". وقد سمعنا من العرب من يرفع بعد "كيما" وأنشد: [ قيس بن الخطيم ]:


                                                                                                                                                                                                                      (107) إذا أنت لم تنفع فضر فإنما     يرجى الفتى كيما يضر وينفع

                                                                                                                                                                                                                      فهذا جعل "ما" اسما وجعل "يضر" و"ينفع" من صلته وجعله اسما للفعل وأوقع "كي" عليه وجعل "كي" بمنزلة اللام. وقوله: (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم) وقوله: (أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم) فيشبه أن تكون الفاء زائدة كزيادة "ما" ويكون

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 132 ] الذي بعد الفاء بدلا من "أن" التي قبلها. وأجوده أن تكسر "أن" وأن تجعل الفاء جواب المجازاة. وزعموا أنهم يقولون "أخوك فوجد" "بل أخوك فجهد" يريدون "أخوك وجد" و"بل أخوك جهد" فيزيدون الفاء. وقد فسر الحسن: (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها) على حذف الواو. وقال: "معناها: قال لهم خزنتها"، فالواو في هذا زائدة. قال الشاعر: [ تميم بن مقبل ]:


                                                                                                                                                                                                                      (108) فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن     إلا كلمة حالم بخيال

                                                                                                                                                                                                                      وقوله: [ عامر بن الحليس ]:


                                                                                                                                                                                                                      (109) فإذا وذلك ليس إلا حينه     وإذا مضى شيء كأن لم يفعل

                                                                                                                                                                                                                      كأنه زاد الواو وجعل خبره مضمرا، ونحو هذا مما خبره مضمر كثير.

                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية