الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وفي قوله: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل لغير الله به [المائدة]، وفي قوله: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق [الأنعام]. [ ص: 2016 ] واستثنى سبحانه ممن أحلت لهم بهيمة الأنعام المحرمين بالحج أو العمرة أو بالحج والعمرة، والموجودين بأرض الحرم سواء أكانوا محرمين أم غير محرمين بقوله تعالى: غير محلي الصيد وأنتم حرم

                                                          والإحرام بأحد النسكين أو بهما معا معناه في الشرع نية النسكين أو أحدهما نية مقرونة بشعار من شعائر الحج كالتلبية أو سوق الهدي. فمن أحرم أي نوى أحد النسكين واتخذ شعاره لا يحل له ما دام محرما أن يصطاد الأنعام ولا غيرها من حيوان البر، سواء أكان الصيد من أرض الحل أم من أرض الحرم. ولا يحل له الأكل والانتفاع بما اصطاده وهو محرم. وأما صيد البحر والأكل منه فهو حلال للمحرم، قال تعالى: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما

                                                          فالمحرم لا يحل له صيد البر; سواء أكان في أرض الحل أم في أرض الحرم.

                                                          وأرض الحرم لا يحل الصيد فيها للمحرم وغير المحرم.

                                                          فمعنى وأنتم حرم أي محرمون، أو في أرض الحرم، أي وأنتم في حرمة الإحرام أو حرمة الأرض الحرام. ولله الحكمة البالغة في هذين الاستثناءين، فإنه استثنى مما أحل ما يتلو على المؤمنين من المحرمات دفعا للضرر عن دينهم وأجسامهم. وسيتبين في تفصيل المحرمات أن تحريم كل محرم منها إنما هو لدفع أذى ديني أو بدني. واستثنى ممن أحل لهم فريقين: المحرمين بأحد النسكين، لأنه أراد أن يكون إحرام المحرم شعار السلام والأمان، وتجنب العدوان حتى على الحيوان; ومتى عرف المحرم أنه لا يحل له الصيد تجرد من أسلحته وآلاته وانصرف عن التفكير في إزعاج آمن أو مطاردة ضعيف، والموجود بأرض الحرم مطلقا، لأنه أراد أن تكون أرض الحرم أمنا حتى للصيد أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا [العنكبوت].

                                                          وقد استثنى سبحانه وتعالى من التحليل ما يتلى من بعد ذلك، وهو ما اشتمل عليه قوله تعالى من بعد: [ ص: 2017 ] حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق

                                                          إن الله يحكم ما يريد المعنى: إن الله يحكم الحكم الذي يريده، لا الحكم الذي تهواه النفوس، أو الحكم الذي توارثه الخلف عن السلف. فهو سبحانه إذا حكم بإيجاب الإيفاء بالعقود، وحكم بإحلال بهيمة الأنعام، وحكم باستثناء بعض الأنعام مما أحله، وحكم باستثناء الفريقين ممن أحل لهم، إنما يصدر في حكمه عن إرادته. وسنته في إرادته بينها سبحانه بقوله: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [البقرة].

                                                          وبقوله: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج فأحكامه التي ذكرها مصدرها إرادته، وهو ما يريد العسر ولا الحرج بحكمه، لا في تحريمه المحرمات، ولا إحلاله المباحات، وإيجابه الواجبات، وكل ما أمر به أو نهى عنه أو شرعه.

                                                          ونرى أن "يحكم" تعدت من غير الباء فلم يقل تعالت كلماته: "إن الله يحكم بما يريده" بل قال: إن الله يحكم ما يريد وذلك لتضمن الحكم معنى حد الحدود، والمنع عن الموبقات، فكان التعدي بغير الباء.

                                                          وقد جاء في تفسير القرطبي : أن "هذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام، فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأول: الأمر بالوفاء بالعقود، والثاني: تحليل بهيمة الأنعام، الثالث: استثناء ما يتلى بعد ذلك، الرابع: استثناء حال الإحرام فيما يصاد، الخامس: ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.

                                                          وحكى النقاش : أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة، ثم خرج فقال: والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت، فإذا هو قد كلف بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته - في سطرين، [ ص: 2018 ] ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد" اللهم انفعنا بكتابك، واهدنا بهديه، واملأ قلبنا بنوره وعلمه إنك أنت العليم الحكيم.

                                                          ومن قرأ سورة الأنعام المكية ووقف على ما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم وتحليل بناء على الأهواء والشهوات والتقاليد الوثنية، يفهم الحكمة البالغة فيما ختمت به هذه الآية من قوله سبحانه: إن الله يحكم ما يريد أي لا يحكم الحكم الذي تقتضيه الأهواء، وإنما يحكم الحكم الذي تقتضيه الحكمة والعدالة والمصلحة في الدين والدنيا، وهذا يوجب على المؤمن أن يتقبل أحكام الله بالإذعان والتسليم; لأن مصدرها إرادة الحكم العدل اللطيف الخبير.

                                                          * * *

                                                          يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب

                                                          * * *

                                                          في الآية السابقة أشار سبحانه وتعالى إلى ما أحل من طيبات، وأشار إلى مكان البيت الحرام وحرمته، وأنه لا يحل صيده والإحرام قائم، وأن الله تعالى يحكم بما يريد، وهذا حكمه وأمره، وما على المؤمن إلا الطاعة فيما أمر به، وفي هذه الآية يبين سبحانه وتعالى ما يجب، وقد بين الحرمات التي تجب صيانتها ومن تتعلق بهم، وقد ذكر أمورا لا يصح إحلالها، وهي شعائر الله تعالى، والشهر [ ص: 2019 ] الحرام والهدي والقلائد، والذين يقصدون البيت. وقد ابتدأ بأولها، فقال تعالى:

                                                          يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام

                                                          النداء لأهل الإيمان الصادقين في إيمانهم الذين يعملون بما يأمر، وينتهون عما ينهى، وتصدير الكلام بهذا النداء لبيان ما كان محرما في الحج وما يدعو الإسلام إلى الاستجابة إليه من مقتضيات، والإحلال معناه أن يخالف أمر الله تعالى فما يكون حراما منهيا عنه في الحج يفعله ويستحله، وما يكون مأمورا به لا يستجيب له، وشعائر الله تعالى في هذا المقام المراد بها مناسك الحج، وما حرمه فيه من ثياب في أثناء الإحرام، وما أمر به من أمور فيه من السعي بين الصفا والمروة والطواف بالبيت الحرام، والوقوف بعرفة، ورمي الجمار وسائر الأفعال، فإن هذه كلها شعائر لله تعالى، كما قال تعالى: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج]. وكما قال تعالى في بعض هذه المناسك: إن الصفا والمروة من شعائر الله [البقرة].

                                                          وسميت أعمال الحج شعائر، وهي جمع شعيرة، كما سميت مشاعر جمع مشعر، وهي أمور معلمة محسوسة مرئية، تدل على اتجاه القلوب إليه سبحانه وتعالى، فكان الإحرام مقترنا بمظهر حسي وهو ألا يلبس مخيطا، وأن يجهر بالتلبية، وكان الطواف وهو عمل حسي يدل على الاتجاه إلى ضيافة الرحمن، والإقامة بجوار بيته العتيق -أول بيت وضع- وفي ذلك اتصال دائم بين الرسالة الإلهية; إذ إن الذي بناه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فكان الطواف به رمز الوحدة في الرسالة الإلهية، وأن آخرها متصل بأولها، وأنها سلسلة متصلة الحلقات تتم كل واحدة جزءا حتى أوفت على الغاية برسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

                                                          وكذلك السعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة في المشهد الإسلامي الأكبر، ورمي الجمار، كما فعل إبراهيم عليه السلام من قبل، وذلك مظهر للتطهر التام، والخروج من وسوسة الشيطان، ورميه والإعراض عنه. [ ص: 2020 ] والأمر الثاني الذي لا يحل، ونهي المسلمون عن إحلاله، هو الشهر الحرام، والمراد النهي عن القتال فيه، والشهر مفرد أريد به الجمع، وذلك أنه أشهر أربعة كما قال تعالى في سورة براءة:

                                                          إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين [التوبة].

                                                          وهذه الأشهر لا يحل القتال فيها، فلا يبدأ المسلمون القتال فيها، ولكن يدافعون إن اعتدي عليهم فيها، ولهم أن يطلبوا الهدنة إن جاءت في أثناء القتال فيها، فإن كان الذين يقاتلونهم لا يؤمنون بها استمر القتال، إذ لا مناص منه، وقد ادعى كثيرون أن منع القتال في هذه الأشهر نسخ، ولا نجد دليلا يدل على النسخ، بل الأدلة تدل على دوام التحريم بل الأدلة متضافرة على استمرار تحريمها; لأن ذلك جاء في سورة المائدة، وهي من أواخر القرآن نزولا، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر التحريم في خطبة الوداع ولعل الذين ادعوا النسخ أخذوه من الحروب الإسلامية، والواقع أن المسلمين كانوا مضطرين للاستمرار.

                                                          والأشهر الحرم هي: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب -الذي بين جمادى وشعبان- والأشهر الثلاثة الأولى فيها الحج والذهاب إليه والعودة منه، ورجب فيه العمرة، والتحريم ليكون الطريق آمنا في مدة الحج.

                                                          ولا الهدي ولا القلائد الهدي جمع هدية، وهو ما يهدى، ويراد به هنا ما يهدى إلى البيت الحرام ليذبح في الحج، وإحلاله المنهي عنه ذبحه في غير موضع الحج، كما قال تعالى:

                                                          ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [البقرة]، كما أن من إحلاله اغتصابه أو منعه من أن يصل إلى البيت الحرام، والقلائد جمع قلادة، وهي ما تقلد به الهدي، ومن الفقهاء من خصها بالبدن (الإبل والبقر) فلا يقلد سواها، والنهي عن إحلال القلائد قد اختلف المفسرون في معناه، وأحسن ما [ ص: 2021 ] قيل هو ما قرره الزمخشري وهو: أن النهي عن إحلال القلائد هو النهي عن إحلال الهدي الذي حمل القلادة، وكان ذكرها بعد ذكر الهدي عامة من قبيل ذكر الخاص بعد العام، وكان المعنى لا تحلوا الهدي، ولا تحلوا القلائد بشكل خاص، وذلك لأن إحلال الهدي الذي أشعر وأعلم بالقلادة يكون أشد نهيا، إذ إنه اعتداء على ما أعلن بالحس أنه خصص للبيت الحرام، ولم يكتف بالنية وحدها، فما خصص بالنية قد يخفى، وما خصص بالحس لا يخفى، وذكر الزمخشري وجها آخر، وهو أن النهي عن إحلال ذات القلائد، وإذا كانت القلائد لا يحل الاعتداء عليها فأولى بذلك الحيوان الذي يحمل شعارها، ومهما يكن من التخريجين فالنهي ثابت عن إحلال الهدي وشعاره.

                                                          وإن سوق الهدي وذبحه من مناسك الحج وفيه توسعة على سكان البيت الحرام، وإجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون [إبراهيم].

                                                          ولكن هل يغني عن الهدي وذبحه في منى ما يقوم به من نقود; لقد أجمع الفقهاء على أنه لا تغني قيمته عنه، ما دام يستطيع الرجل أن يهدي. وقد جعل الله تعالى الصيام بدل الهدى لمن لا يجد، فقال تعالى:

                                                          فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة [البقرة].

                                                          ولقد ثارت مناقشات حول استبدال الذبح بقيمة الهدي، لأن الناس لا يأكلون كل ما يذبح فيتلف، ووراء ذلك فشو الأوبئة ونحوها، وهذا فوق ما تنشره الدماء من أدواء.

                                                          ونقول في الجواب عن ذلك: إن هذا من ضيق عقل الإنسان، لا من شريعة الديان، والقرآن أمر بالذبح، ولم يقل أحد من الصحابة أو من جاء بعدهم: إن قيمة الهدي تغني عنه، وكان يجب أن يفكر المفكرون في الانتفاع باللحم والدم من [ ص: 2022 ] غير أن يتعرضا للفساد والإفساد، وذلك بادخار اللحم، بالتثليج أو نحوه ليمد سكان الحرم الشريف باللحم أكثر العام. لا في موسم الحج وحده، وأن تقام المدابغ لدبغ الجلود، فتكون مصدر ثروة، والدم يصنع منه أحسن الأواني، والنار تطهره، ولكن العقول تتسع في كل شؤون الحياة، فإذا جاءت إلى أوامر الإسلام ضاقت، وذلك من ضعف الإيمان.

                                                          ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم المراد الذين يقصدون البيت الحرام لأداء الحج، وقد قال بعض العلماء: إن هؤلاء الذين ينهى عن إحلالهم -بمعنى منعهم- هم من كانوا من المشركين يقصدون البيت الحرام يبتغون التجارة ورضا الله تعالى بزعمهم، وقد نسخ هذا بقوله تعالى بعد ذلك: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا [التوبة].

                                                          ولكن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا، وقد قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها" وقال الحسن البصري : ليس فيها منسوخ. وعلى ذلك نقول: إن آمين البيت -أي القاصدين له حجا- هم من المؤمنين، ومعنى إحلال هؤلاء منعهم من الحج لحرب أو نزاع أو بغي، بل يجب أن يكون مفتوحا للجميع، وإذا كان الله تعالى قد جعله آمنا فقد فتحه لكل المؤمنين يقصدونه، وليس لأحد أن يمنعهم، فلا يحل لأحد أن يمنع أو يصعب على الناس دخول البيت الحرام.

                                                          وقد بين سبحانه مقصد هؤلاء الذين يؤمون البيت، وهو أنهم يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، وفسر بعض العلماء الفضل بأنه التجارة، أي أنهم يبتغون من رضوان الله تعالى غرضا من أغراض الدنيا، وهو التجارة، وقد يكون في التجارة جلب أرزاق لسكان الحرم، فالتجارة غير ممنوعة، ولكن القصد الأسمى هو رضوان الله تبارك وتعالى، فهو العبادة التي يكون لها القصد الأول في البيت. [ ص: 2023 ] وفسر آخرون الفضل بالثواب، فالذين يقصدون البيت حاجين أو معتمرين يطلبون الثواب من الله تعالى، وهو النعيم المقيم، ويطلبون ما هو أكبر منه وهو رضوان الله تعالى، كما قال تعالى: يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم [التوبة].

                                                          وهذا هو الذي نختاره، فإن المقام مقام طلب الثواب، لا مقام طلب المال، ولكل مقام ما يناسبه.

                                                          وإن الآية تومئ إلى مناسك الحج والقيام بها، وقد ذكرت الآية السابقة أنه لا يحل الصيد مع الإحرام، وهذه الآية بينت ما يجب على المؤمن من القيام بشعائر الحج، وفتح أبواب مكة لمن يريدها من المؤمنين، وذكرت الآية الكريمة متى يباح الصيد، فقال سبحانه: وإذا حللتم فاصطادوا

                                                          معنى الإحلال الخروج من الإحرام بالحج أو العمرة أو هما معا بأن يلبس الملابس كاملة، ويقص شعره وأظافره وغير ذلك مما كان يحرمه عليه الذي هو فيه من الحج مع لبس لباسه، والقيام بمظاهر النسك، والاتجاه إلى الله تعالى، والشعور بأنه في ضيافته عند بيته الحرام.

                                                          وإذا تحلل ذلك التحلل أبيح له ما حرمه الإحرام عليه، ومن ذلك الصيد، والأمر بالإحلال هنا ليس للطلب، فليس الصيد بمطلوب، ولكنه مباح، وقد جاءت صيغة الأمر بعد النهي، فكانت للإباحة، وهي كذلك في كل صيغة "افعل" بعد النهي غالبا، مثل قوله تعالى: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [الجمعة].

                                                          وذلك بعد أن نهى عن البيع عند النداء للصلاة من يوم الجمعة في قوله تعالت كلماته: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون [الجمعة]. [ ص: 2024 ] وقد روي في ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها".

                                                          والخلاصة أن هذا النص الكريم فيه إباحة الصيد بعد الخروج من الإحرام بعد أن كان محرما في أثناء الإحرام.

                                                          ولقد ساد الإسلام أرض العرب بعد أن كانت حجة الوداع، ولكن قد بقيت بعض الإحن في النفوس، ونفس المؤمن يجب أن تكون طهورا لا يعيش فيها الحقد، ولا حب الانتقام، ولذا نهى الله تعالى عباده المؤمنين عن أن يدفعهم البغض السابق لقوم لأنهم صدوهم عن المسجد الحرام، أن يمنعوهم كما منعوهم، فإن ذلك يكون اعتداء من أهل الإيمان; ولذا قال سبحانه:

                                                          ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا يجرمنكم معناها يحملنكم; لأن "جرم" في هذا المقام وما يشبهه معناها حمل حملا قاطعا، يقال جرمني كذا على بغضه، أي حملني عليه حملا قاطعا، ومن ذلك قول الشاعر:


                                                          ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا



                                                          أي حملت فزارة على أن تغضب.

                                                          والشنآن: البغض الشديد، يقال شنئت الرجل أشنأ شنآنا وشنأ أبغضه، والمعنى. لا يحملنكم البغض الشديد لقوم بسبب أنهم صدوكم، أي منعوكم من دخول المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بأن تصدوهم، فالجاهلية والشرك يبرران ذلك الصد، والإسلام لا يبرره، لأنه اعتداء على البيت الحرام، واعتداء على شعائر الله سبحانه وتعالى. [ ص: 2025 ] وقد يقال: إن الاعتداء كان وهم في الجاهلية، وقد أسلموا، فكيف يتصور أن يعاملهم المؤمنون بما كان منهم في الجاهلية مع أن الإسلام يجب ما قبله؟ والجواب عن ذلك أن جرح النفس قد يستمر أثره، فنهى الله تعالى المؤمنين عن أن يكون منهم ما يكون مجاوبة لما كان من آلام نالتهم بسبب صد المشركين لهم في الجاهلية، وخصوصا أن في بيان ذلك بيانا لأن كل صد عن المسجد الحرام اعتداء على شعائر الله، سواء كان ذلك قبل الإسلام أم كان سببه هوى النفس والشيطان، ومشاحة بين المسلمين أنفسهم كما حدث في عصور سابقة، وكما يحدث الآن مهما تكن الأسباب.

                                                          وهنا قراءتان لا بد من ذكرهما؛ أولهما: قراءة أن صدوكم عن المسجد الحرام بفتح الهمزة، وهذه تشير إلى أن الصد كان في الماضي، والاعتداء مجارمة لما كان في الماضي، والقراءة الثانية: (إن صدوكم) بكسر الهمزة، ومؤداها أنه إذا كان في المستقبل من يصدكم عن المسجد الحرام، فلا تعاملوه بالمثل وتصدوه; لأن ذلك اعتداء.

                                                          والنص الكريم يدل على أن كل اعتداء حرام سواء أكان بالصد عن المسجد، أو كان بغيره فما حرم الصد إلا لأنه شعبة من الاعتداء.

                                                          وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان إن الاعتداء والتعاون على البر والتقوى ضدان، وعندما يذكر أمر يرد على الخاطر ضده; ولذا أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى بعد النهي عن الاعتداء. والبر: التوسع في فعل الخير للناس والطاعة لله تعالى وتطهير النفس من أدرانها، وهذا إذا لم تذكر التقوى; فإذا ذكرت التقوى معه، كما في هذا النص الكريم، كان البر هو الطاعة الظاهرة ونفع الناس، وإسداء المعروف لهم، وكانت التقوى تصفية النفس وتطهيرها وإخلاصها لله تعالى، وقد قال في ذلك أبو الحسن الماوردي : "ندب الله [ ص: 2026 ] تعالى إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له، لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته، وعمت نعمته" والإثم: أصله اللغوي الأفعال المبطئة عن الخير المانعة له، ثم أطلق على كل ما يفسد النفس ويفسد العمل، ويكون فيه العصيان، ومجافاة الخير، وقرب الشر، وإن الإثم إذا لم يتعد إلى غيره كان على نفسه، وإن تعدى على غيره كان عدوانا، وقد قال تعالى: ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا [النساء].

                                                          وقد نهى سبحانه عن التعاون على الإثم والعدوان، فنهى عن الإثم الذي تكون مغبته على صاحبه أو تفسد قلبه، وعن العدوان على غيره.

                                                          والتعاون: معناه تبادل المعونة، ويكون في الخير بمد يد المعونة في الشدائد، وكل يجود بما عنده لأخيه، فالعالم بعلمه، والشجاع القوي بدفاعه عن الضعيف، وأن يكون المؤمنون يدا على من سواهم، ومنع الظالم من ظلمه، وإرشاد الضال، ومنع الآثام. وهذا تعاون أفرادي عام، وله أشكال كثيرة، والتعاون الجماعي بتعاون الأسرة، وتعاون الحي، وتعاون الأمة، وتعاون الجماعة الإنسانية، وكل ذلك حث عليه الإسلام، ومن التعاون تأليف جماعات له، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أوجد أعظم تعاون جماعي وذلك بالإخاء في الإسلام.

                                                          وقد ذيل الله سبحانه النص الكريم بقوله: إن الله شديد العقاب

                                                          وهذا إنذار لمن يتعاونون على الإثم والعدوان وترهيب لغيرهم، وقد أكد الله -تعالى- هذا المعنى بثلاث مؤكدات: "إن" الدالة على التوكيد، وبذكر لفظ الجلالة، والوصف بالشدة. . اللهم قنا غضبك، وامنحنا رضاك، إنك أنت الغفور الرحيم.

                                                          * * * [ ص: 2027 ]

                                                          حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم

                                                          * * *

                                                          في الآية السابقة بين سبحانه تحريم الصيد في وقت معين ومكان معين، وحال معينة، وهذا في البيت الحرام وفي الأشهر الحرم المخصصة للحج، كما قال تعالى: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [الحج].

                                                          وفي هذه الآية بين سبحانه وتعالى المحرمات من الحيوان الذي كان في أصله حلالا، ولكن كان التحريم فيه سببه مقترنا بهلاكه، مما يهلك بموت من غير ذبح، وكذلك بعض أجزائه، وبين تحريم حيوانات أخرى وبعض الأفعال التي تقترن بالذبح عند الذين أباحوا الميسر لأنفسهم، ولذلك قال تعالى: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير هذه الآية تبين تحريم أربعة أنواع، هي الميتة وما هو في حكمها مما يقتل ودمه لا يخرج منه، والثاني الدم، والثالث لحم الخنزير، والرابع ما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب، وحرم مع هذا فعلا يقترن بالذبح، وهو الاستقسام بالأزلام، أي قسم اللحم بطريق الأزلام، وهي الأقداح التي تستعمل في الميسر، أو كانت تستعمل عند العرب. [ ص: 2028 ] والميتة: الحيوان الذي يموت، وكلمة "الميتة" وصف والموصوف هو الجثة، فإن كل جثة لا تجري فيها الحياة تكون ميتة، والمراد من الميتة هنا ما يموت من غير فعل فاعل، والميتة غالبا تكون مستقذرة في ذاتها تعافها النفس وينفر منها الطبع، وهي رجس قذر، يكون فيه تعفن، أو على الأقل يسارع إليه التعفن، وهي فوق أنها خبث يكون في الغالب سببه مرضا قد اعترى جسمه، وقد يكون بجرثومة تبقى بعد الموت أمدا غير قصير، ولأن الميتة يكون دمها فيها وقد فسد، ولذلك كله حرمت، فهي قذارة وفيها ضرر كبير.

                                                          والدم الذي جاء النص الكريم بتحريمه هو الدم المسفوح، الذي نص عليه في قوله تعالى في سورة الأنعام: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنـزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به [الأنعام].

                                                          والمراد بالمسفوح: الذي يسفح ويراق من الحيوان، وإن غلظ وتماسك من بعد ذلك، فالدم الذي يكون جامدا بأصل خلقته وتكوينه كالكبد والطحال يكون حلالا، كما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أحلت لنا ميتتان حلالان، ودمان حلالان: الكبد والطحال، والسمك والجراد".

                                                          وكان تحريم الدم لأنه ضار، إذ إنه يعسر هضمه، وسريع التعفن، ويحمل كثيرا من جراثيم الأمراض، ولا يمكن تنقيته من هذه الجراثيم كاللبن إذ يغلى.

                                                          وإن دم الحيوان السليم قد ينقل إلى الإنسان محفوظا مصونا من غير أن يتعرض للهواء فيزيده قوة أو يعوضه عما فقده، ولكنه لا يمكن أن يكون غذاء يتناول بالفم، ويمر على الجهاز الهضمي، إذ إنه لا يكون قابلا للتمثيل في الجسم فوق ما يسري إليه من جراثيم تفسده وأن النفس الفطرية تعافه. [ ص: 2029 ] ولحم الخنزير: حرام لأنه مستقذر، تعافه الفطرة كالميتة والدم، إذ إنه يلازم القاذورات ويتغذى منها، ولهذا المعنى حرمت البهائم الجلالة التي تأكل الجلة وتتغذى بها، فقد روي عن ابن عمر أنه قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكل الجلالة وألبانها" وهذا النهي للكراهة عند بعض الأئمة، وللتحريم عند الآخرين، وقالوا: لا تؤكل حتى تحبس، وكان ابن عمر يحبس الدجاجة ثلاثا، ولا يرى بأكلها بعد ذلك بأسا.

                                                          وإن المقصد من ذلك ألا يأكل المؤمن إلا طيبا لا خبث فيه.

                                                          وإن كون لحم الخنزير ضارا فهو أمر قد قرره الطب، فلحمه يولد كثيرا من الديدان، كالدودة الوحيدة والشعرة الحلزونية التي تجيء إليه من أكل الجرذان الميتة، وإنه عسر الهضم لا تكاد النفس تستسيغه، والجهاز الهضمي لا يهضمه، وإن الذين يستطيبونه قد فسدت أذواقهم، والعادة هي التي سهلت استساغته، وكثير من المستقذرات تسهل العادة تناولها، وقد وصفه القرآن الكريم بأنه رجس، وقد صدق فيه الوصف، فهو ضار ضررا بليغا، ومستقذر استقذارا شديدا مهما يقل فيه الذين فسدت أذواقهم.

                                                          وما أهل لغير الله به الإهلال: هو رفع الصوت، وأصله رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم أطلق على رفع الصوت لأمر يدعو إلى رفعه، ومنه أهل فلان بالحج إذا رفع صوته بالتلبية والدعاء في كل مكان يناسب ذلك، وعند البيت الحرام، والإهلال لغير الله عند الذبح أن يذبحوا باسم صنم من الأصنام، وإن ذلك فيه عبادة لغير الله تعالى، فنهى عن أكل ما يذبح لذلك منعا لهذا العمل الذي هو شرك بالله تعالى، وكان النهي عن الأكل لأنه ذريعة إلى المنع المطلق. والتحريم في هذا ليس لذات الحيوان، بل لما صحبه من عمل فيه شرك بالله تعالى، وفسوق عن أمره سبحانه وتعالى. [ ص: 2030 ] ولذلك كان تحريم الميتة والدم والخنزير، لأنها رجس، وهذا حرم لأنه فسق وإشراك، وهذا مؤدى قوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنـزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به [الأنعام].

                                                          وإن الذبيحة إنما تحرم إذا كان قد ذكر غير اسم الله تعالى عليها، وإنها حلال إذا ذكر اسم الله تعالى عليها، ولكن إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليها، ولم يذكر غيره، وكان الذابح مسلما، وكان الذبح في مكان لا يبدو أن فيه تقربا لغير الله تعالى أتكون الذبيحة حراما أم لا تكون؟.

                                                          قال بعض الفقهاء: لا تحل لقوله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه [الأنعام]، فإذا لم يذكر اسم الله، فذلك من مواضع النهي.

                                                          وقال آخرون: إن موضع التحريم هو فيما أهل لغير الله به، والآخر على أصل الحل، ويدل على ذلك القصر في التحريم في قوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما [الأنعام]. وبقصر النهي في قوله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه [الأنعام]، على حال ما إذا ذكر غيره وما كان قبل النهي وبعده يزكى تفسيره بذلك، وسنبين ذلك عند الكلام في هذه الآية إن شاء الله تعالى.

                                                          والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع

                                                          المنخنقة: هي التي تموت بخنق إما باختناقها من وثاقها، أو يخنقها غيرها ويتركها حتى تموت.

                                                          والموقوذة: هي التي وقذت بحجر، أو تضرب بعصا حتى تموت من غير تذكية شرعية، فالوقذ الرمي، والضرب الشديد. . وما يرمى بالسهم، فيموت أيعد موقوذا أم لا يعد؟ روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا رميت بالمعراض -السهم الذي قد يصيب بعرضه لا بحده- فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله، فإنه [ ص: 2031 ] وقيذ" ومؤدى الحديث أن السهم إن اخترق الجسم وأسال الدم يؤكل المضروب وإلا فإنه لا يؤكل، فالعبرة إذن بإسالة الدم، فإن أساله أكله، وإلا فلا يؤكل.

                                                          والمتردية: هي التي تموت بسبب سقوطها من مكان مرتفع في مكان منخفض، كالتي تسقط من جبل في هاوية، أو تسقط في بئر فتموت.

                                                          والنطيحة: هي الحيوان الذي يموت من نطح أو اصطدام، فهي فعيلة بمعنى مفعولة، كذبيحة بمعنى مذبوحة، وقد كان العرب يأكلون كل هذه الأصناف الأربعة، فجاء الإسلام وحرمها، والحقيقة أنها من نوع الميتة; لأنها تموت ودمها محبوس فيها لم يخرج منها، ويصح أن تدخل في عموم الميتة; ولذلك جاء الاقتصار على ذكر الميتة في قوله تعالى:

                                                          قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه [الأنعام]، وهي بلا شك داخلة في عموم كلمة الميتة.

                                                          وما أكل السبع: المراد به ما افترسه ذو ناب وأظفار من سباع الحيوان كالأسد والنمر والذئب والثعلب والضبع، وغيرها من الحيوان، فما افترسه حتى مات يكون حراما سواء أكل منه أم لم يأكل، وذلك لأنه افترسه ليأكله، فأطلق اسم السبب وأريد المسبب، ولإطلاق السبب هنا معنى، ذلك أنه افترسه ليأكله، فيخرج بذلك الكلب المعلم الذي أطلق ليصطاد لصاحبه وسمي عند إطلاقه، فهو يفترس لا ليأكل، بل لمن أطلقه، وقالوا: إنه إذا افترسه ليأكله هو بأن أكل أكثره فإنه لا يحل الباقي لمن أطلقه.

                                                          وقد استثنى من المحرمات السابقة حال التذكية الشرعية، وهي الذبح أو ما يشبهه مما يريق الدم، ويصفيه، ولذا قال تعالى: إلا ما ذكيتم أي أن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما افترسه السبع إذا أدرك وهو حي، وذكي التذكية [ ص: 2032 ] الشرعية وأريق دمه، فإنه يكون حلالا بسبب هذه التذكية، فهو وما ذكي ابتداء وهو قوي قادر - على سواء; لأن التذكية الشرعية وهو حي هي سبب الحل، وقد تحقق في الحالين.

                                                          وما ذبح على النصب النصب: اسم مفرد لحجر كان ينصب فيعبد، وتصب عليه دماء الذبائح، ويشرح اللحم ويوضع عليه، وكانوا يفعلون ذلك تقربا إليها، أو ليتقربوا عن طريقها، فنهى الله تعالى عن أكل ما يذبح على هذه الحجارة قطعا لدابر الوثنية والأفعال التي تؤدي إليها، وتحريم هذا هو من قبيل تحريم ما أهل لغير الله تعالى، فالمعنى فيهما واحد، والتحريم ليس لذات الشيء المذبوح، ولكن لما اقترن بالذبح من آثام وفسوق عن أمر الله تعالى.

                                                          والفعل الذي حرمه الإسلام من غير أن يتعرض لتحريم اللحم هو ما جاء في قوله تعالى:

                                                          وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق فقد وصفه سبحانه وتعالى بأنه فسق، والأزلام جمع زلم، وهو القدح من أقداح الميسر، وهي عشرة أقداح، منها ثلاثة غفل ليس فيها ما يدل على مقدار يؤخذ، وسبعة فيها مقادير تبين مقاديرها، فإذا عقر الجزور، قسم على مقدار ما يشتمل عليه من أجزاء ثم ضربت الأقداح، فمن يخرج له منها قدح يأخذ بمقدار ما يشتمل عليه، وبذلك يطلب كل واحد نصيبه من الجزور بهذا القمار، وقد وصف الله تعالى ذلك الفعل بأنه فسق، أي خروج على المبادئ الإسلامية، والتحريم منصب على الفعل، وليس منصبا على اللحم، وعلى ذلك إذا كانت الذبيحة قد ذكيت بالطريقة الإسلامية، وذكر اسم الله تعالى عليها، فإنها تكون حلالا، والتقسيم بهذه الطريقة يكون حراما. [ ص: 2033 ] اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم المعرف "بألـ" التي هي للحضور، هو يوم عرفة; ذلك أن الآية كلها نزلت في يوم عرفة، وفيها بيان المحرمات، وقد ذكر سبحانه وتعالى عقب بيان هذه المحرمات بيانا قاطعا بين حياة جاهلية فيها أخباث، وحياة إسلامية نظيفة نزيهة ببيان قوة الإسلام، وعلوه في الأرض، وإذلال الشرك، وذهاب سطوته في أرض العرب، ومعنى قوله تعالى: يئس الذين كفروا من دينكم أنهم يئسوا من القضاء عليه، وتغيير حقائقه، وسيطرة الشرك على المؤمنين، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع يوم عرفة، وهو يعرض الحقائق الإسلامية، ويشهد الله تعالى على تبليغها: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه" ويأس الشيطان هو يأس أوليائه من المشركين من أن يتغلبوا على ذلك الدين المكين الثابت، وإذا كان المشركون قد يئسوا من السيطرة، ووهنت قواهم، فإنه لا تجوز مسايرتهم في أي أمر من الأمور; ولذا قال سبحانه: فلا تخشوهم واخشون والخشية: خوف يشوبه تعظيم لما يخشى منه، والمعنى لا تجعلوا للكافرين مكانا للهيبة أو الخوف أو التعظيم، فقد ضعفوا واستكانوا، وإنما الخشية كلها لله الذي نصركم وأنتم أذلة، وأعزكم وقد كنتم مستضعفين في الأرض، وخشية الله توجب طاعته، والأخذ بكتابه وسنة نبيه، وأن تباعدوا بينكم وبين ما كان في الجاهلية، وما عليه عادات الجاهليين، وأن تأخذوا بمبادئ الإسلام وحده، وأنه قد كمل الدين بيانا وعزة وسلطانا; ولذا قال تعالى:

                                                          اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا هذه الآية آخر آيات القرآن الكريم نزولا، وقد نزلت في عرفة في حجة [ ص: 2034 ] الوداع، وقد مكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الآية واحدا وثمانين يوما ثم قبضه الله تعالى إليه، وفي هذا النص الكريم ذكر حقائق ثلاثا وهي: إكمال الدين، وإتمام النعمة، والرضا بالإسلام دينا.

                                                          ومعنى أكملت دينكم: أكملت بيان ما آمركم به وما أنهاكم عنه، وبينت ما يحل لكم وما يحرم عليكم، وأكملت الكتاب الذي تضمن شرعي، والذي هو حجتي عليكم، والحجة لكم في أمر دينكم، وأوضحت فيه الأدلة التي ترشدكم إلى تعرف ما تكون فيه حاجتكم، وما تعرفون منه بالاستنباط والتفكير مما تحتاجون إلى معرفته من أمر دينكم، وخلاصة القول: إن إكمال الدين هو إكمال بيانه.

                                                          ومعنى إتمام النعمة: هو إتمام النصر، وإتمام السلطان، وذلك بفتح مكة، والسلطان في العرب، وإزالة دولة الأوثان، وجعل الكلمة العليا هي كلمة التوحيد.

                                                          ومعنى ورضيت لكم الإسلام دينا: رضيت الاستسلام لأوامري والانقياد لما شرعت لكم من أحكام، وما يجب عليكم التزامه من فرائض ومعالم وحدود (دينا) : أي أمرا تدينون به وتطيعونه ولا تخرجون عنه، وهذا ما قرره ابن جرير ، ويصح أن نقول: إن المعنى رضيت لكم التسليم بكل ما اشتمل عليه القرآن وما دعا إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- دينا تطيعونني بمقتضاه، والمعنيان متقاربان، وإن اختلف التعبير، وعبر هنا بكلمة (رضيت) مع أن الأمر هنا أمر إيجاب وتكليف، وذلك للإشارة إلى أن المؤمن الذي يبلغ درجة المحبة لله تعالى يطيعه; لأن فيه مرضاته من غير نظر إلى التكليف الذي يتضمن الثواب والعقاب.

                                                          وقد جاء في تفسير ابن جرير الطبري : "فإن قال قائل: أو ما كان الله تعالى راضيا الإسلام لعباده إلا يوم أنزل هذه الآية؟ قيل لم يزل الله راضيا لخلقه الإسلام دينا، ولكنه جل شأنه لم يزل يصرف نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في درجات الإسلام ومراتبه، درجة بعد درجة، ومرتبة بعد مرتبة، وحالا بعد حال، حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه، وبلغ بهم أقصى درجات مراتبه، ثم قال حين أنزل هذه [ ص: 2035 ] الآية: ورضيت لكم الإسلام دينا بالصفة التي بها اليوم، والحال التي أنتم عليها منه اليوم دينا، فالزموه ولا تفارقوه، أي هذا الرضا كان ذكره أنسب عند الكمال.

                                                          وإن كان مصاحبا للشرع في مواضع نزوله.

                                                          وقد يسأل سائل لماذا ذكر الله سبحانه وتعالى قوله تعالت كلماته: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم في وسط آية محرمات الأطعمة، ومحللاتها كما سيجيء، ونقول إن ذلك تنبيه إلى يوم نزول هذه الآيات، باعتبارها آخر القرآن نزولا، فكان التنبيه إلى اليوم وهو يوم عرفات; لأنه ذكرى الكمال، وذكره في جملة معترضة أدعى إلى التنبيه والتذكير.

                                                          فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم التحريمات السابقة كلها في حال الاختيار، أما في حال الاضطرار، بأن يكون الشخص مضطرا للأكل ليدفع عن نفسه الموت جوعا، فإنه في هذه الحال يجوز الأكل.

                                                          والمخمصة: المجاعة التي تورث ضمور البطن، وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- حال الضرورة التي تبيح بعض هذه المحرمات بأن يجيء الصبوح والغبوق، ولا يجد ما يأكله، أي يجيء اليوم كله، ولا يجد طعاما يأكله، وشرط رفع الإثم عن تناول المحرم للضرورة ألا يتجاوز حد الضرورة; لذلك قال تعالى غير متجانف لإثم أي مائل إليه راغب فيه يتجاوز حد الضرورة، وهذا يتلاقى مع قوله تعالى في سورة البقرة: فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه [البقرة].

                                                          ومعنى النص الكريم: فمن اضطر إلى تناول المحرم، وهو في حال جوع شديد وهو غير طالب لهذا المحرم، ولا يتجاوز حد الضرورة، فإن الله تعالى يرفع عنه الإثم; لأن الله تعالى غفور رحيم، فهو رحيم في بعباده; ولذا جعل الضرورة مسوغة للمحذور، وهو غفور يغفر الذنوب ويفتح باب التوبة لعباده.

                                                          اللهم ارحمنا واغفر لنا، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا.

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية