الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم

التقدير: واذكروا إذ، والضمير في "لهم" عائد على الكفار، والشيطان: إبليس نفسه، وحكى المهدوي وغيره أن التزيين في هذه الآية وما بعده من الأقوال هو بالوسوسة والمحادثة في النفوس.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويضعف هذا القول أن قوله: وإني جار لكم ليس مما يلقى بالوسوسة. وقال الجمهور في ذلك بما روي وتظاهر أن إبليس جاء كفار قريش، ففي السير لابن هشام أنه جاءهم بمكة ، وفي غيرها أنه جاءهم وهم في طريقهم إلى بدر ، وقد لحقهم خوف من بني بكر وكنانة لحروب كانت بينهم، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو سيد من ساداتهم، وقال لهم: "إني جار لكم، ولن تخافوا من قومي وهم لكم أعوان على مقصدكم، ولن يغلبكم أحد"، فسروا عند ذلك ومضوا لطيتهم، وقال لهم: "أنتم تقاتلون عن دين الآباء ولن تعدموا نصرا". فروي أنه لما التقى الجمعان كانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما رأى الملائكة نكص على عقبيه، فقال له الحارث : أتفر يا سراقة ؟ فلم يلو عليه، ويروى أنه قال له ما تضمنت الآية، وروي أن عمير بن وهب -أو الحارث بن هشام - قال له: أين يا سراق؟ فلم يلو ودفع في صدر الحارث وذهب فوقعت الهزيمة، فتحدث أن سراقة فر بالناس فبلغ ذلك [ ص: 212 ] سراقة بن مالك ، فأتى مكة فقال لهم: "والله ما علمت بشيء من أمركم حتى بلغتني هزيمتكم، ولا رأيتكم ولا كنت معكم"، وحكى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه، رأيته في صورة رجل من بني مدلج، فقال: لا غالب لكم اليوم الآية.

و"اليوم" ظرف، والعامل فيه معنى نفي الغلبة، ويحتمل أن يكون العامل متعلق "لكم" وممتنع أن يعمل "غالب" لأنه كان يلزم أن يكون: "لا غالبا".

وقوله: وإني جار لكم معناه: فأنتم في ذمتي وحمايتي.

و"تراءت": تفاعلت من الرؤية، أي رأى هؤلاء هؤلاء، وقرأ الأعمش ، وعيسى بن عمر : "ترأت" مقصورة، وحكى أبو حاتم عن الأعمش أنه أمال والراء مرققة ثم رجع عن ذلك.

وقوله: نكص على عقبيه معناه: رجع من حيث جاء، وأصل النكوص في اللغة: الرجوع القهقرى، قال زهير :


هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا ... لا ينكصون إذا ما استلحموا وحموا



كذا أنشد الطبري ، وفي رواية الأصمعي : استلأموا، وبذلك فسر الطبري هذه الآية، وفي ذلك بعد، وإنما رجوعه في هذه الآية مشبه بالنكوص الحقيقي، وقال اللغويون: النكوص، الإحجام عن الشيء، يقال: أراد أمرا ثم نكص عنه، وقال تأبط شرا:


ليس النكوص على الأدبار مكرمة ...     إن المكارم إقدام على الأسل



[ ص: 213 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فليس هاهنا قهقرى، بل هو فرار، وقال مؤرج: نكص هي رجع بلغة سليم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وقوله تعالى: على عقبيه يبين أنه إنما أراد الانهزام والرجوع في ضد إقباله، وقوله: إني بريء منكم هو خذلانه لهم وانفصاله عنهم، وقوله: إني أرى ما لا ترون يريد الملائكة، وهو الخبيث إنما شرط أن لا غالب من الناس فلما رأى الملائكة وخرق العادة خاف وفر، وفي الموطإ وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما رئي الشيطان في يوم أقل ولا أحقر ولا أصغر منه في يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأى يوم بدر " ، قيل: وما رأى يا رسول الله؟ قال: "رأى الملائكة يزعمها جبريل" . وقال الحسن: رأى إبليس جبريل عليه السلام يقود فرسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معتجر ببردة وفي يده اللجام.

وقوله: إني أخاف الله قيل: إن هذه معذرة كاذبة ولم تلحقه قط مخافة، قاله قتادة ، وابن الكلبي ، وقال الزجاج وغيره: بل خاف مما رأى من الأمر وهوله، وأنه يومه الذي أنظر إليه، ويقوي هذا أنه رأى خرق العادة ونزول الملائكة للحرب.

وحكى الطبري بسنده أنه لما انهزم المشركون يوم بدر حين رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضة من التراب وجوه الكفار أقبل جبريل صلى الله عليه وسلم إلى إبليس، فلما رآه إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع يده ثم ولى مدبرا، فقال له الرجل: أي سراقة تزعم أنك لنا جار؟ فقال: إني أرى ما لا ترون الآية، ثم ذهب.

وقوله تعالى: إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض الآية، العامل في [ ص: 214 ] "إذ" "زين" أو "نكص" لأن ذلك الموقف كان ظرفا لهذه الأمور كلها، وقال المفسرون: إن هؤلاء الموصوفين بالنفاق ومرض القلوب إنما هم من أهل عسكر الكفار لما أشرفوا على المسلمين ورأوا قلتهم وقلة عددهم قالوا مشيرين إلى المسلمين: غر هؤلاء دينهم أي:اغتروا فأدخلوا نفوسهم فيما لا طاقة لهم به.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والنفاق أخص من مرض القلب لأن مرض القلب يطلق على الكافر وعلى من اعترضته شبهة وعلى من بينهما، وكني بالقلوب عن الاعتقادات إذ القلوب محلها، وروي في نحو هذا التأويل عن الشعبي أن قوما ممن كان الإسلام داخل قلوبهم خرجوا مع المشركين إلى بدر ، منهم من أكره، ومنهم من داجى وداهن، فلما أشرفوا على المسلمين ورأوا قلتهم ارتابوا واعتقدوا أنهم مغلوبون، فقالوا: غر هؤلاء دينهم ، قال مجاهد : منهم قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود ، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن أمية بن الحجاج .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ولم يذكر أحد ممن شهد بدرا بنفاق إلا ما ظهر بعد ذلك من معتب بن قشير أخي عمرو بن عوف ، فإنه القائل يوم أحد: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا ، وقد يحتمل أن يكون منافقو المدينة لما وصلهم خروج قريش في قوة عظيمة قالوا عن المسلمين هذه المقالة، فأخبر الله بها نبيه في هذه الآية.

ثم أخبر الله عز وجل بأن من توكل على الله واستند إليه، فإن عزة الله تبارك وتعالى وحكمته كفيلة بنصره وشد أعضاده، وخرجت العبارة عن هذا المعنى بأوجز لفظ وأبلغه.

التالي السابق


الخدمات العلمية