الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( فإذا أفضتم من عرفات )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فإذا أفضتم" ، فإذا رجعتم من حيث بدأتم .

ولذلك قيل للذي يضرب القداح بين الأيسار : "مفيض" ، لجمعه القداح ثم إفاضته إياها بين الياسرين . ومنه قول بشر بن أبي خازم الأسدي :


فقلت لها ردي إليه جنانه فردت كما رد المنيح مفيض



ثم اختلف أهل العربية في" عرفات " ، والعلة التي من أجلها صرفت وهي [ ص: 171 ] معرفة ، وهل هي اسم لبقعة واحدة أم هي لجماعة بقاع؟

فقال بعض نحويي البصريين : هي اسم كان لجماعة مثل"مسلمات ، ومؤمنات" ، سميت به بقعة واحدة ، فصرف لما سميت به البقعة الواحدة ، إذ كان مصروفا قبل أن تسمى به البقعة ، تركا منهم له على أصله ؛ لأن"التاء" فيه صارت بمنزلة"الياء والواو" في"مسلمين ومسلمون" ، لأنه تذكيره ، وصار التنوين بمنزلة"النون" . فلما سمي به ترك على حاله ، كما يترك" المسلمون" إذا سمي به على حاله . قال : ومن العرب من لا يصرفه إذا سمي به ، ويشبه"التاء" بهاء التأنيث ، وذلك قبيح ضعيف ، واستشهدوا بقول الشاعر :


تنورتها من أذرعات وأهلها     بيثرب أدنى دارها نظر عالي



ومنهم من لا ينون"أدرعات" وكذلك : "عانات" ، وهو مكان .

وقال بعض نحويي الكوفيين : إنما انصرفت" عرفات " ، لأنهن على جماع مؤنث"بالتاء" . قال : وكذلك ما كان من جماع مؤنث"بالتاء" ، ثم سميت به رجلا أو مكانا أو أرضا أو امرأة ، انصرفت . قال : ولا تكاد العرب تسمي شيئا من الجماع إلا جماعا ، ثم تجعله بعد ذلك واحدا . [ ص: 172 ]

وقال آخرون منهم : ليست" عرفات " حكاية ، ولا هي اسم منقول ، ولكن الموضع مسمى هو وجوانبه" بعرفات " ، ثم سميت بها البقعة . اسم للموضع ، ولا ينفرد واحدها . قال : وإنما يجوز هذا في الأماكن والمواضع ، ولا يجوز ذلك في غيرها من الأشياء . قال : ولذلك نصبت العرب "التاء" في ذلك ؛ لأنه موضع . ولو كان محكيا ، لم يكن ذلك فيه جائزا ؛ لأن من سمى رجلا"مسلمات" أو"مسلمين" لم ينقله في الإعراب عما كان عليه في الأصل ، فلذلك خالف : "عانات ، وأذرعات" ، ما سمي به من الأسماء على جهة الحكاية .

قال أبو جعفر : واختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله قيل لعرفات " عرفات " . فقال بعضهم : قيل لها ذلك من أجل أن إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه لما رآها عرفها بنعتها الذي كان لها عنده ، فقال : قد عرفت ، فسميت عرفات بذلك . وهذا القول من قائله يدل على أن عرفات اسم للبقعة ، وإنما سميت بذلك لنفسها وما حولها ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وأرض سباسب ، فتجمع بما حولها .

ذكر من قال ذلك :

3792 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي ، قال : لما أذن إبراهيم في الناس بالحج ، فأجابوه بالتلبية ، وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات ، ونعتها فخرج ، فلما بلغ الشجرة عند العقبة ، استقبله الشيطان يرده ، فرماه بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة ، فطار فوقع على الجمرة الثانية ، فصده أيضا ، فرماه وكبر ، فطار فوقع على الجمرة الثالثة ، فرماه وكبر . [ ص: 173 ] فلما رأى أنه لا يطيقه ، ولم يدر إبراهيم أين يذهب ، انطلق حتى أتى ذا المجاز ، فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز ، فلذلك سمي : "ذا المجاز" . ثم انطلق حتى وقع بعرفات ، فلما نظر إليها عرف النعت ، قال : "قد عرفت!" فسمي : " عرفات " . فوقف إبراهيم بعرفات ، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع ، فسميت : " المزدلفة " ، فوقف بجمع .

3793 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن سليمان التيمي ، عن نعيم بن أبي هند ، قال : لما وقف جبريل بإبراهيم عليهما السلام بعرفات ، قال : "عرفت!" ، فسميت عرفات لذلك .

3794 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال ابن المسيب : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : بعث الله جبريل إلى إبراهيم فحج به ، فلما أتى عرفة قال : "قد عرفت!" ، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك ، ولذلك سميت" عرفة " .

وقال آخرون : بل سميت بذلك بنفسها وببقاع أخر سواها .

ذكر من قال ذلك :

3795 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع بن مسلم القرشي ، عن أبي طهفة ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس قال : إنما سميت عرفات ، لأن جبريل عليه السلام ، كان يقول لإبراهيم : هذا موضع كذا ، هذا موضع كذا ، فيقول : " قد عرفت!" ، فلذلك سميت" عرفات " . [ ص: 174 ]

3796 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء قال : إنما سميت عرفة أن جبريل كان يري إبراهيم عليهما السلام المناسك ، فيقول : " عرفت ، عرفت!" فسمي" عرفات " .

3797 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن زكريا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قال ابن عباس : أصل الجبل الذي يلي عرنة وما وراءه موقف ، حتى يأتي الجبل جبل عرفة .

وقال ابن أبي نجيح : عرفات : "النبعة" و"النبيعة" و"ذات النابت" ، وذلك قول الله : " فإذا أفضتم من عرفات " ، وهو الشعب الأوسط .

وقال زكريا : ما سال من الجبل الذي يقف عليه الإمام إلى عرفة ، فهو من عرفة ، وما دبر ذلك الجبل فليس من عرفة .

وهذا القول يدل على أنها سميت بذلك نظير ما يسمى الواحد باسم الجماعة المختلفة الأشخاص .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي أن يقال : هو اسم لواحد سمي بجماع ، فإذا صرف ذهب به مذهب الجماع الذي كان له أصلا . وإذا ترك صرفه ذهب به إلى أنه اسم لبقعة واحدة معروفة ، فترك صرفه كما يترك صرف أسماء الأمصار والقرى المعارف . [ ص: 175 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية