الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 2054 ] واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون

                                                          * * *

                                                          ذكر الله سبحانه وتعالى ما به غذاء الأبدان، وهو كل طيب لا خبث فيه، ثم أشار إلى ما فيه غذاء الأرواح وطهارة الأبدان، وهو الصلاة والوضوء لها، والاغتسال عند الإقدام عليها، فذكر الأطعمة الحلال، وذكر ما به بقاء الجنس البشري، وهو الزواج، ثم الوضوء وأركانه، والاغتسال والتيمم، وبعد أن ذكر ذلك الغذاء الفردي من جسم وروح ذكر الثمرة الطيبة لذلك، وهي بناء مجتمع إنساني سليم، أساسه الثقة والعدالة، وابتدأ سبحانه وتعالى بذكر نعم الله، ثم بذكر العدالة التي هي قوام هذا الوجود الإنساني، فقال تعالى:

                                                          واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا الخطاب في هذه الآية للذين آمنوا، فهو امتداد للسياق الذي كان يتعلق بالصلاة، وما قبله من بيان الحلال والحرام كان يتعلق بالذين آمنوا، فالآية الكريمة سائرة على هذا النسق البياني الرائع، والأمر في الآية لطلب تذكر أمرين جليلين، وهما نعمة الله تعالى التي أنعمها على المؤمنين، وهي آلاء جليلة عظيمة، وتشمل نوعين من النعم، عامة وخاصة، فالعامة تعم الناس جميعا مشركهم ومؤمنهم، وهي نعمة الوجود، وتسخير الكون بكل ما فيه لبني الإنسان، والخاصة ما أسداه الله تعالى إلى المؤمنين، إذ هداهم وإذ كانوا قليلا فكثرهم، وكانوا متفرقين [ ص: 2055 ] فجمعهم، وكانوا أذلاء فأعزهم، وكانوا فقراء فأغناهم، وكانوا مستضعفين في الأرض، فمكن لهم فيها بمنه سبحانه وفضله، كما قال تعالى: فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار [آل عمران ].

                                                          والأمر الثاني الذي ذكرهم الله تعالى به هو الميثاق الذي عقدوه مع الله تعالى، والميثاق في اللغة: هو العقد الموثق المؤكد بيمين الله تعالى، وقد كان العهد من جانبهم يوجب عليهم السمع والطاعة فيما يأمرهم به الله تعالى، وفيما ينهاهم عنه، فالعهد فيه التزام من جانبهم، وهو السمع والطاعة، ووعد من جانب الله تعالى بأن يوليهم نعمه، ويهبهم النصر من لدنه، وهو العزيز الحكيم، وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك العهد، بقوله: الذي واثقكم به أي الذي عقده سبحانه وتعالى معكم، وتبادل معكم توثيقه وتأكيده; إذ إن "واثق" تقتضي المبادلة، فالله تعالى ذو الجلال والإكرام هو الذي تولى ذلك الميثاق.

                                                          والمفسرون يتكلمون في الميثاق ما هو; قيل: هو الميثاق الذي أخذ بمقتضى الفطرة، ولكن ذلك الميثاق لا يخص المؤمنين، بل يعم البشر، وقيل: إنه الميثاق الذي كان بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل يثرب في العقبة، ولكن هذا يخص الأنصار، ولا يعم المؤمنين، والحق أنه الميثاق الذي كان التواثق فيه على أساس التزام المؤمنين بالسمع والطاعة، كما عين النص الكريم موضوعه إذ قال سبحانه: إذ قلتم سمعنا وأطعنا أي في الوقت الذي التزمتم فيه بالسمع والطاعة، وقد اختار ذلك ابن جرير "وهو قول ابن عباس " وقال في اختياره: "وأولى الأقوال بالصواب في تأويل [ ص: 2056 ] ذلك قول ابن عباس وهو أن معناه واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله تعالى عليكم التي أنعمها بهدايته للإسلام، وميثاقه الذي واثقكم به، يعني وعهده الذي عاهدكم به، حين بايعتم رسوله محمدا -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة له في المنشط والمكره، والعسر واليسر إذ قلتم: سمعنا ما قلت لنا، وأخذت علينا من المواثيق، وأطعناك فيما أمرتنا به، ونهيتنا عنه" ... إلخ.

                                                          وكان التذكير بهذين الأمرين ليقوم المؤمنون بحقهما، فيما يتعلق بمعاملة الغير، وفي علاقتهم بالناس من حيث إقامة العدالة لذات الله تعالى لا يريدون إلا وجهه الكريم، وليكون القسط والميزان أساس أعمالهم.

                                                          واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بنعمه عليهم وميثاقه الذي واثقهم عليه، على أساس السمع والطاعة، طلب إليهم أمرا آخر هو أساس الاستجابة للميثاق، وهو تقوى الله تعالى بأن يستشعروا دائما عظمته، ويتخذوا وقاية لأنفسهم من معصية الله تعالى، فإن التقوى هي أساس الطاعة، وهي لب الاستجابة لما جاء في ميثاق الله تعالى، وهو أعلى ميثاق في الوجود، لا ميثاق يدانيه إلا إذا كان مشتقا منه، بأن يكون أساسه السمع والطاعة لله في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، وإن التقوى لله موضعها القلوب، وهي التي تحرك الجوارح، فلا طاعة إلا إذا انبعثت من القلب عن طواعية ورضا واطمئنان; ولذا قال سبحانه: إن الله عليم بذات الصدور وتكرار ذكر الله تعالى لإشعار المؤمنين برقابته، وإلى أنه فوقهم ومطلع عليهم، ومراقبتهم بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى، والله تعالى عليم علما لا يدرك كنهه بكل شيء بما تخفيه وما تكنه الأفئدة. وذات الصدور هي: الأمور الملازمة للصدور التي تخفيها ولا تظهرها، فهي بالنسبة للصدور كالصاحب بالنسبة لصاحبه يلازمه ولا يبعد عنه، ولا ينكشف. فهي من ناحية أنها لا تخرج من الصدر تعد مصاحبته، ويعبر عنها بذات الصدر، كما يقال: فلان ذو مال. أي ملازم له. [ ص: 2057 ] وذكر إحاطة علم الله تعالى في هذا فيه إشارة إلى وجوب تطهير القلوب من الدنس، وتنظيفها من الشر، حتى لا تربد به وتطمس، وفيه تنبيه إلى أنه من يريد السمع والطاعة عليه أن يتجه إلى قلبه، ويشعر بأن الله عليم به، مطلع عليه، لا تخفى عليه خافية.

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية