الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      صاحب إربل

                                                                                      السلطان الدين الملك المعظم مظفر الدين أبو سعيد كوكبري بن علي بن بكتكين بن محمد التركماني صاحب إربل وابن صاحبها وممصرها الملك زين الدين علي كوجك ، وكوجك هو اللطيف القد ، كان كوجك شهما شجاعا مهيبا ، تملك بلادا كثيرة ، ثم وهبها لأولاد صاحب [ ص: 335 ] الموصل ، وكان يوصف بقوة مفرطة ، وطال عمره ، وحج هو والأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي ، وتوفي في سنة ثلاث وستين وخمسمائة وله أوقاف وبر ومدرسة بالموصل . فلما مات تملك إربل ابنه هذا وهو مراهق ، وصار أتابكه مجاهد الدين قيماز ، فعمل عليه قيماز وكتب محضرا بأنه لا يصلح للملك وقبض عليه وملك أخاه زين الدين يوسف ، فتوجه مظفر الدين إلى بغداد فما التفتوا عليه ، فقدم الموصل على صاحبها سيف الدين غازي بن مودود ، فأقطعه حران ، فبقي بها مديدة ، ثم اتصل بخدمة السلطان صلاح الدين ، وغزا معه ، وتمكن منه ، وأحبه ، وزاده الرها ، وزوجه بأخته ربيعة واقفة الصاحبية . وأبان مظفر الدين عن شجاعة يوم حطين ، وبين ، فوفد أخوه صاحب إربل على صلاح الدين نجدة فتمرض ومات على عكا فأعطى السلطان مظفر الدين إربل وشهرزور ، واسترد منه حران والرها .

                                                                                      وكان محبا للصدقة ، له كل يوم قناطير خبز يفرقها ، ويكسو في العام خلقا ويعطيهم دينارا ودينارين ، وبنى أربع خوانك للزمنى والأضراء ، وكان يأتيهم كل اثنين وخميس ويسأل كل واحد عن حاله ويتفقده ويباسطه ويمزح معه . وبنى دارا للنساء ، ودارا للأيتام ، ودارا للقطاء ، ورتب بها المراضع . وكان يدور على مرضى البيمارستان . وله دار مضيف ينزلها كل وارد ، ويعطى كل ما ينبغي له . وبنى مدرسة للشافعية والحنفية وكان يمد بها السماط ، ويحضر السماع كثيرا ، لم يكن له لذة في شيء غيره . وكان يمنع من دخول منكر بلده ، وبنى للصوفية رباطين ، وكان ينزل إليهم لأجل السماعات . وكان في السنة يفتك أسرى بجملة ويخرج سبيلا للحج ، ويبعث للمجاورين بخمسة آلاف دينار ، وأجرى الماء إلى عرفات . [ ص: 336 ]

                                                                                      وأما احتفاله بالمولد فيقصر التعبير عنه ; كان الخلق يقصدونه من العراق والجزيرة وتنصب قباب خشب له ولأمرائه وتزين ، وفيها جوق المغاني واللعب ، وينزل كل يوم العصر فيقف على كل قبة ويتفرج ، ويعمل ذلك أياما ، ويخرج من البقر والإبل والغنم شيئا كثيرا فتنحر وتطبخ الألوان ، ويعمل عدة خلع للصوفية ، ويتكلم الوعاظ في الميدان ، فينفق أموالا جزيلة . وقد جمع له ابن دحية " كتاب المولد " فأعطاه ألف دينار .

                                                                                      وكان متواضعا ، خيرا ، سنيا ، يحب الفقهاء والمحدثين ، وربما أعطى الشعراء ، وما نقل أنه انهزم في حرب ، وقد ذكر هذا وأمثاله ابن خلكان واعتذر من التقصير . مولده في المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة بإربل .

                                                                                      قال ابن الساعي : طالت عليه مداراة أولاد العادل ، فأخذ مفاتيح إربل وقلاعها وسلم ذلك إلى المستنصر في أول سنة ثمان وعشرين ، قال : فاحتفلوا له ، واجتمع بالخليفة وأكرمه ، وقلده سيفين ورايات وخلعا وستين ألف دينار .

                                                                                      وقال سبط الجوزي كان مظفر الدين ينفق في السنة على المولد ثلاث مائة ألف دينار ، وعلى الخانقاه مائتي ألف دينار ، وعلى دار المضيف مائة ألف . وعد من هذا الخسف أشياء . [ ص: 337 ]

                                                                                      وقال : قال من حضر المولد مرة : عددت على سماطه مائة فرس قشلميش ، وخمسة آلاف رأس شوي ، وعشرة آلاف دجاجة ، ومائة ألف زبدية ، وثلاثين ألف صحن حلواء .

                                                                                      قلت : ما أعتقد وقوع هذا ، فعشر ذلك كثير جدا . وقد حدث عن حنبل المكبر .

                                                                                      قال ابن خلكان مات ليلة الجمعة رابع عشر رمضان سنة ثلاثين وستمائة وعمل في تابوت ، وحمل مع الحجاج إلى مكة فاتفق أن الوفد رجعوا تلك السنة لعدم الماء ، فدفن بالكوفة -رحمه الله تعالى- وعاش اثنتين وثمانين سنة .

                                                                                      وعاش أبوه فوق المائة ، وعمي وأصم ، وكان من كبار الدولة الأتابكية ، ما انهزم قط . ومدحه الحيص بيص ، فقال : ما أعرف ما تقول ، ولكني أدري أنك تريد شيئا ! وأمر له بخلعة وفرس وخمس مائة دينار .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية