الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان هذا دالا على العفو، أتبعه ما يدل على الإكرام فقال: وينقلب أي يرجع من نفسه من غير مزعج برغبة وقبول إلى أهله أي الذين أهله الله بهم في الجنة فيكون أعرف بهم وبمنزله [ ص: 341 ] الذي أعد له منه بمنزله في الدنيا. ولما كانت السعادة في حصور السرور من غير قيد، بنى للمفعول قوله: مسرورا [أي - ] قد أوتي جنة وحريرا، فإنه كان في الدنيا في أهله مشفقا من العرض على الله مغموما مضرورا يحاسب نفسه بكرة وعشيا حسابا عسيرا مع ما هو [فيه - ] من نكد الأهل وضيق العيش وشرور المخالفين، فذكر هنا الثمرة والمسبب لأنها المقصودة بالذات، وفي الشق الآخر السبب والأصل، وقد استشكلت الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هذه الآية بما "روي عنها في الصحيح بلفظين أحدهما "ليس أحد يحاسب إلا هلك" والثاني "من نوقش الحساب عذب" قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت: يا رسول الله! أليس الله يقول فأما من أوتي كتابه الآية، فقال: صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك العرض" فإن كان اللفظ الأول هو الذي سمعته فالإشكال فيه واضح، وذلك أنه يرجع إلى كلية موجبة هي "كل من حوسب هلك" والآية مرجع إلى جزئية سالبة وهي "بعض من يحاسب لا يهلك" وهو نقيض، وحينئذ يكون اللفظ الثاني من تصرف الرواة، وإن كان الثاني هو الذي سمعته فطريق تقدير الإشكال فيه أن يقال: المناقشة في اللغة من الاستقصاء وهو بلوغ الغاية، وذلك في الحساب [ ص: 342 ] بذكر الجليل والحقير والمجازاة عليه، فرجع الأمر أيضا إلى كلية موجبة هي "كل من حوسب بجميع أعماله عذب" وذلك شامل لكل حساب سواء كان يسيرا أو لا، لأن الأعم يشمل جميع أخصياته، والآية مثبتة أن من أعطي كتابه بيمينه يحاسب عليه ولا يهلك، والصديقة رضي الله عنها عالمة بأن الكتاب يثبت فيه جميع الأعمال من قوله تعالى: لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ومن حديث الحافظين وغير ذلك، فرجع الأمر إلى أن بعض من يحاسب بجميع أعماله لا يهلك، وحينئذ فالظاهر التعارض فسألت، فأقرها صلى الله عليه وسلم على الإشكال وأجابها بما حاصله أن المراد بالحساب في الحديث مدلوله المطابقي، وهو ذكر الأعمال [كلها - ] - والمقابلة على كل منها، وذلك هو معنى المناقشة، فمعنى "من نوقش الحساب" من حوسب حسابا حقيقيا بذكر جميع أعماله والمقابلة على كل منها، وأن المراد بالحساب في الآية جزء المعنى المطابقي وهو ذكر الأعمال فقط من غير مقابلة، وذلك بدلالة التضمن مجازا مرسلا لأنه إطلاق اسم الكل على الجزء، ولأجل هذا كانت الصديقة رضي الله تعالى عنها تقول بعد هذا في تفسير الآية: يقرر بذنوبه ثم يتجاوز عنها - كما نقله عنها أبو حيان، وعلى ذلك دل قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: [ ص: 343 ] "إن الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة فيضع كنفه عليه ويستره ثم يقول له: أتعرف ذنب كذا - حتى يذكره بذنوبه كلها ويرى في نفسه أنه قد هلك، قال الرب سبحانه: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم" ولفظ "كنفه" يدل على ذلك فإن كنف الطائر جناحه، وهو إذا وقع فرخه في كنفه عامله بغاية اللطف، فالله تعالى أرحم وألطف

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية