الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج (189).

سماه على وحدته أهلة إذ الأهلة ليست اسما للقمر، وإنما سمي الهلال هلالا في أول ما يرى، وما قرب منه لظهوره في ذلك بعد خفائه، ومنه الإهلال بالحج وهو إظهار التلبية، واستهلال الصبي ظهور حياته بصوت أو حركة، ويقولون تهلل وجهه إذا ظهر فيه البشر والسرور، وليس هناك صوت مرفوع حتى يقال: الإهلال رفع الصوت، وإن إهلال الهلال من ذلك لرفع الصوت عند رؤيته، قال تأبط شرا:


وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل



وأمكن أن يقال: متهلل لصوت الرعد فإن البرق لا يخلو منه، واستدل به أصحاب أبي حنيفة على جواز الإحرام بالحج في سائر السنة، ومعلوم أنه لم يرد به أفعال الحج فحملوه على الإحرام به.

فقيل لهم: فقد قال: الحج أشهر معلومات ، فأجابوا بأنه لا بد في الكلام من ضمير ولا بيان فيه دونه، فإن الحج فعل الحاج، وفعل الحاج لا يكون أشهرا، فلا بد أن يكون المراد به أفعال الحج [ ص: 77 ] ومعناه: أفعال الحج في أشهر معلومات، فقيد تخصيص أفعال الحج بالأشهر المعلومات، وهو كذلك، فإنه لو أحرم بالحج قبل أشهر الحج، وطاف له وسعى قبل أشهر الحج، فسعيه ذلك لا يجزيه، وعليه أن يعيده، لأن أفعال الحج لا تجزئ قبل أشهر الحج، فعلى هذا معنى قوله: الحج أشهر معلومات أي أن أفعاله في أشهر معلومات.

وهذا غلط، فإنه إذا قال: "أشهر معلومات" فيجب أن يقع في الأشهر، فيكون الأشهر المعلومات ظرفا، ويكون الفعل واقعا في جميعه، كالإحرام يقع في الأشهر ويبقى في الأشهر، فيقال هو في الأشهر محرم.

ولا يجوز أن يكون الفعل الذي هو السعي يقع في الأشهر، وإنما يقع في ساعة من يوم، ولا يجوز أن يكون المراد به بقاء الإحرام كما قالوه، فإنهم قالوا: إذا أحرم بالحج في أشهر الحج أو في غيرها، فإذا فاته الوقوف بعرفة فاته الإحرام، فقول الله تعالى: الحج أشهر يعني: دوام الحج وبقاؤه أشهر، وهذا باطل، فإن الذي ذكروه من بقاء الإحرام، ليس يتحدد له أشهر معلومات، فإنه لو أحرم من وقت الفوات، دام الإحرام والحج إلى مثل ذلك الوقت من العام القابل، والحج لا يتعين له أشهر، بل أشهره جميع السنة، وإنما يفوت في وقت خاص، ولا يبقى أكثر من سنة قط، فإذا بطلت تأويلاتهم، بقي تأويل الآية التي تعلقوا بها، ووجه ذلك أن قوله: قل هي مواقيت للناس والحج معناه: "قل هي مواقيت للناس في الحج" ، فيحصل في الأهلة المعنيان من غير تفصيل، فلا دلالة في الآية على أن الأهلة يجب أن تكون مواقيت للحج..

نعم ، الأهلة كلها مواقيت للناس لا مفهوما من هذا اللفظ، فإن المفهوم من هذا اللفظ بيان فائدة الأهلة، والفائدة حصلت بما قلناه من غير [ ص: 78 ] تفصيل، ويدل عليه أن مراد الله تعالى من ذلك بيان الحاجة إلى الأهلة، ببيان منافعها في كونها مواقيت للناس، فإنما يقال ذلك فيما يعتاده الناس ويتعارفونه، وما اعتاد الناس قط الإحرام في غير أشهر الحج ولا ندبوا إليه، ولذلك سمي بعض الشهور أشهر الحج، وغير المعتاد لا يحصل به الامتياز في كونه ميقاتا، وما يعد ميقاتا أصلا، كما تعد الشهور كلها بأسرها مواقيت للأعمال والآجال، فهذا يدل على صحة هذا التأويل وبطلان تأويلات من يخالف هذا القول ...

التالي السابق


الخدمات العلمية