الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
عن nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950140nindex.php?page=treesubj&link=18066لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه . رواه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم .
هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث قتادة ، عن أنس ، ولفظ مسلم " حتى يحب لجاره أو لأخيه " بالشك .
وخرجه nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، ولفظه : " لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير " .
وهذه الرواية تبين معنى الرواية المخرجة في " الصحيحين " ، وأن المراد بنفي الإيمان نفي بلوغ حقيقته ونهايته ، فإن الإيمان كثيرا ما ينفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته ، كقوله صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=950116لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، وقوله : nindex.php?page=hadith&LINKID=950408لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه . [ ص: 303 ] وقد اختلف العلماء في nindex.php?page=treesubj&link=28652مرتكب الكبائر : هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان ، أم لا يسمى مؤمنا ؟ وإنما يقال : هو مسلم ، وليس بمؤمن على قولين ، وهما روايتان عن nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد .
فأما من ارتكب الصغائر ، فلا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية ، بل هو مؤمن ناقص الإيمان ، ينقص من إيمانه بحسب ما ارتكب من ذلك .
والقول بأن مرتكب الكبائر يقال له : مؤمن ناقص الإيمان مروي عن nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله ، وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم ، والقول بأنه مسلم ، ليس بمؤمن مروي عن أبي جعفر محمد بن علي ، وذكر بعضهم أنه المختار عند أهل السنة .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : الزاني ينزع منه نور الإيمان . وقال nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة : ينزع منه الإيمان ، فيكون فوقه كالظلة ، فإن تاب عاد إليه .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=82عبد الله بن رواحة وأبو الدرداء : الإيمان كالقميص ، يلبسه الإنسان تارة ، ويخلعه تارة أخرى ، وكذا قال nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد رحمه الله وغيره ، والمعنى : أنه إذا كمل خصال الإيمان ، لبسه ، فإذا نقص منها شيء نزعه ، وكل هذا إشارة إلى الإيمان الكامل التام الذي لا ينقص من واجباته شيء .
والمقصود أن nindex.php?page=treesubj&link=18066من جملة خصال الإيمان الواجبة أن يحب المرء لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ، ويكره له ما يكره لنفسه ، فإذا زال ذلك عنه ، فقد نقص إيمانه بذلك . وقد روي أن nindex.php?page=hadith&LINKID=950409النبي صلى الله عليه وسلم قال nindex.php?page=showalam&ids=3لأبي هريرة : أحب للناس ما تحب لنفسك [ ص: 304 ] تكن مسلما خرجه الترمذي nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه .
وخرج nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد من حديث معاذ أنه nindex.php?page=hadith&LINKID=950410سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن nindex.php?page=treesubj&link=30476أفضل الإيمان ، قال : أفضل الإيمان أن تحب لله وتبغض لله ، وتعمل لسانك في ذكر الله ، قال : وماذا يا رسول الله ؟ قال : أن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لنفسك ، وأن تقول خيرا أو تصمت .
وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم دخول الجنة على هذه الخصلة ؛ ففي " مسند " nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد رحمه الله nindex.php?page=hadith&LINKID=950411عن يزيد بن أسد القسري قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتحب الجنة " ؟ قلت : نعم ، قال : " فأحب لأخيك ما تحب لنفسك " .
وفي " صحيح مسلم " من حديث nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950412من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ، ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه .
وفيه أيضا nindex.php?page=hadith&LINKID=950413عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم .
[ ص: 305 ] وإنما نهاه عن ذلك ، لما رأى من ضعفه ، وهو صلى الله عليه وسلم يحب هذا لكل ضعيف ، وإنما كان يتولى أمور الناس ، لأن الله قواه على ذلك ، وأمره بدعاء الخلق كلهم إلى طاعته ، وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم .
وقد روي nindex.php?page=hadith&LINKID=950414عن علي قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إني أرضى لك ما أرضى لنفسي ، وأكره لك ما أكره لنفسي ، لا تقرأ القرآن وأنت جنب ، ولا أنت راكع ، ولا أنت ساجد .
وكان nindex.php?page=showalam&ids=17036محمد بن واسع يبيع حمارا له ، فقال له رجل : أترضاه لي ؟ قال : لو رضيته لم أبعه ، وهذه إشارة منه إلى أنه لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه ، وهذا كله من جملة nindex.php?page=treesubj&link=18299النصيحة لعامة المسلمين التي هي من جملة الدين كما سبق تفسير ذلك في موضعه . [ ص: 306 ] وقد ذكرنا فيما تقدم حديث nindex.php?page=showalam&ids=114النعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950415مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر خرجاه في " الصحيحين " ، وهذا يدل على أن المؤمن يسوءه ما يسوء أخاه المؤمن ، ويحزنه ما يحزنه .
وحديث أنس الذي نتكلم الآن فيه يدل على أن المؤمن يسره ما يسر أخاه المؤمن ، ويريد لأخيه المؤمن ما يريده لنفسه من الخير ، وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغل والغش والحسد ، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير ، أو يساويه فيه ، لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله ، وينفرد بها عنهم ، والإيمان يقتضي خلاف ذلك ، وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء .
وقد قيل : إن هذا محمول على أنه إذا nindex.php?page=treesubj&link=32502أراد الفخر على غيره لا مجرد التجمل ، قال عكرمة وغيره من المفسرين في هذه الآية : العلو في الأرض : [ ص: 307 ] التكبر ، وطلب الشرف والمنزلة عند ذي سلطانها ، والفساد : العمل بالمعاصي .
وقد ورد ما يدل على أنه لا يأثم من كره أن يفوقه من الناس أحد في الجمال ، فخرج nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد رحمه الله والحاكم في " صحيحه " من حديث nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950416أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي ، فأدركته وهو يقول : يا رسول الله ، قد قسم لي من الجمال ما ترى ، فما أحب أحدا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما ، أليس ذلك هو البغي ؟ فقال : " لا ، ليس ذلك بالبغي ، ولكن البغي من بطر - أو قال : - سفه الحق وغمص الناس " .
وخرج أبو داود من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه ، وفي حديثه : " الكبر " بدل " البغي " .
فنفى أن يكون كراهته لأن يفوقه أحد في الجمال بغيا أو كبرا ، وفسر الكبر والبغي ببطر الحق ، وهو التكبر عليه ، والامتناع من قبوله كبرا إذا خالف هواه ، ومن هنا قال بعض السلف : التواضع أن تقبل الحق من كل من جاء به ، وإن كان صغيرا ، فمن قبل الحق ممن جاء به ، سواء كان صغيرا أو كبيرا ، وسواء كان يحبه أو لا يحبه ، فهو متواضع ، ومن أبى قبول الحق تعاظما عليه ، فهو متكبر .
وغمص الناس : هو احتقارهم وازدراؤهم ، وذلك يحصل من النظر إلى النفس بعين الكمال ، وإلى غيره بعين النقص .
[ ص: 308 ] وفي الجملة ، فينبغي nindex.php?page=treesubj&link=18066_18067للمؤمن أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ، ويكره لهم ما يكره لنفسه ، فإن رأى في أخيه المسلم نقصا في دينه ، اجتهد في إصلاحه .
قال بعض الصالحين من السلف : أهل المحبة لله نظروا بنور الله ، وعطفوا على أهل معاصي الله ، مقتوا أعمالهم ، وعطفوا عليهم ليزيلوهم بالمواعظ عن فعالهم ، وأشفقوا على أبدانهم من النار ، ولا يكون المؤمن مؤمنا حقا حتى يرضى للناس ما يرضاه لنفسه ، وإن رأى في غيره فضيلة فاق بها عليه فتمنى لنفسه مثلها ، فإن كانت تلك الفضيلة دينية ، كان حسنا ، وقد تمنى النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه منزلة الشهادة .
وقال صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=950417لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا ، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله القرآن ، فهو يقرؤه آناء الليل وآناء النهار .
ومع هذا كله ، فينبغي للمؤمن أن يحزن لفوات الفضائل الدينية ، ولهذا أمر أن ينظر في الدين إلى من فوقه ، وأن ينافس في طلب ذلك جهده وطاقته ، كما قال تعالى : وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ( المطففين : 26 ) ولا يكره أن أحدا يشاركه في ذلك ، بل يحب للناس كلهم المنافسة فيه ، ويحثهم على ذلك ، وهو من تمام أداء النصيحة للإخوان . كما قال الفضيل : إن كنت تحب أن يكون الناس مثلك ، فما أديت النصيحة لربك ، كيف وأنت تحب أن يكونوا دونك ؟ ! يشير إلى أن النصيحة لهم أن يحب أن يكونوا فوقه ، وهذه منزلة عالية ، ودرجة رفيعة في النصح ، وليس ذلك بواجب ، وإنما المأمور به في الشرع أن يحب أن يكونوا مثله ، ومع هذا ، فإذا فاقه أحد في فضيلة دينية ، اجتهد على لحاقه ، وحزن على تقصير نفسه ، وتخلفه عن لحاق السابقين ، لا حسدا لهم على ما آتاهم الله ، بل منافسة لهم ، وغبطة وحزنا على النفس بتقصيرها وتخلفها عن درجات السابقين .
وينبغي للمؤمن أن لا يزال يرى نفسه مقصرا عن الدرجات العالية ، فيستفيد بذلك أمرين نفيسين : nindex.php?page=treesubj&link=19866_19865_30483_19691الاجتهاد في طلب الفضائل ، والازدياد منها ، والنظر إلى نفسه بعين النقص ، وينشأ من هذا أن يحب للمؤمنين أن يكونوا خيرا منه ، لأنه لا يرضى لهم أن يكونوا على مثل حاله ، كما أنه لا يرضى لنفسه بما هي عليه ، [ ص: 310 ] بل يجتهد في إصلاحها . وقد قال nindex.php?page=showalam&ids=17036محمد بن واسع لابنه : أما أبوك ، فلا كثر الله في المسلمين مثله .
فمن كان لا يرضى عن نفسه ، فكيف يحب للمسلمين أن يكونوا مثله مع نصحه لهم ؟ بل هو يحب للمسلمين أن يكونوا خيرا منه ، ويحب لنفسه أن يكون خيرا مما هو عليه .
وإن علم المرء أن الله قد خصه على غيره بفضل ، فأخبر به لمصلحة دينية ، وكان إخباره على سبيل nindex.php?page=treesubj&link=32490التحدث بالنعم ، ويرى نفسه مقصرا في الشكر ، كان جائزا ، فقد قال nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : ما أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني ، ولا يمنع هذا أن يحب للناس أن يشاركوه فيما خصه الله به ، فقد قال nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : إني لأمر على الآية من كتاب الله ، فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم . وقال nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ، ولم ينسب إلي منه شيء . وكان عتبة الغلام إذا أراد أن يفطر يقول لبعض إخوانه المطلعين على أمره وأعماله : أخرج إلي ماء أو تمرات أفطر عليها ؛ ليكون لك أجر مثل أجري .