الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ غرق ]

                                                          غرق : الغرق : الرسوب في الماء . ويشبه الذي ركبه الدين وغمرته البلايا ، يقال : رجل غرق وغريق ، وقد غرق غرقا وهو غارق ؛ قال أبو النجم :


                                                          فأصبحوا في الماء والخنادق من بين مقتول وطاف غارق

                                                          والجمع غرقى ، وهو فعيل بمعنى مفعل ، أغرقه الله إغراقا ، فهو غريق ، وكذلك مريض أمرضه الله فهو مريض ، وقوم مرضى ، والنزيف : السكران ، وجمعه نزفى والنزيف فعيل بمعنى مفعول أو مفعل ؛ لأنه يقال نزفته الخمر وأنزفته ، ثم يرد مفعل أو مفعول إلى فعيل فيجمع فعلى ؛ وقيل : الغرق الراسب في الماء والغريق الميت فيه ، وقد أغرقه غيره وغرقه ، فهو مغرق وغريق . وفي الحديث الحرق والغرق ، وفيه : يأتي على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا دعاء الغرق ؛ قال أبو عدنان : الغرق ، بكسر ، الراء الذي قد غلبه الماء ولما يغرق ، فإذا غرق فهو الغريق ؛ قال الشاعر :

                                                          أتبعتهم مقلة إنسانها غرق هل ما أرى تارك للعين إنسانا يقول : هذا الذي أرى من البين والبكاء غير مبق للعين إنسانها ، ومعنى الحديث كأنه أراد إلا من أخلص الدعاء لأن من أشفى على الهلاك أخلص في دعائه طلب النجاة ؛ ومنه الحديث : اللهم إني أعوذ بك من الغرق والحرق ؛ الغرق ؛ بفتح الراء : المصدر . وفي حديث وحشي : أنه مات غرقا في الخمر أي متناهيا في شربها والإكثار منه ، مستعار من الغرق . وفي حديث علي وذكر مسجد الكوفة : في زاويته فار التنور وفيه هلك يغوث ويعوق وهو الغاروق ؛ هو فاعول من الغرق لأن الغرق في زمان نوح ، عليه السلام ، كان منه . وفي حديث أنس : وغرقا فيه دباء ؛ قال ابن الأثير : هكذا جاء في رواية والمعروف ومرقا ، والغرق المرق . وفي التنزيل : أخرقتها لتغرق أهلها . والغرق : الذي غلبه الدين . ورجل غرق في الدين والبلوى وغريق وقد غرق فيه ، وهو مثل بذلك . والمغرق : الذي قد أغرقه قوم فطردوه وهو هارب عجلان . والتغريق : القتل . والغرق في الأصل : دخول الماء في سمي الأنف حتى تمتلئ منافذه فيهلك ، والشرق في الفم حتى يغص به لكثرته . يقال : غرق في الماء وشرق إذا غمره الماء فملأ منافذه حتى يموت ، ومن هذا يقال غرقت القابلة الولد ، وذلك إذا لم ترفق بالولد حتى تدخل السابياء أنفه فتقتله ، وغرقت القابلة المولود فغرق : خرقت به فانفتقت السابياء فانسد أنفه وفمه وعيناه فمات ؛ قال الأعشى يهجو يعني قيس بن مسعود الشيباني :


                                                          أطورين في عام غزاة ورحلة [ ص: 40 ]     ألا ليت قيسا غرقته القوابل

                                                          ويقال : إن القابلة كانت تغرق المولود في ماء السلى عام القحط ، ذكرا كان أو أنثى ، حتى يموت ، ثم جعل كل قتل تغريقا ؛ ومنه قول ذي الرمة :


                                                          إذا غرقت أرباضها ثني بكرة     بتيهاء لم تصبح رؤوما سلوبها

                                                          الأرباض : الحبال والبكرة : الناقة الفتية ، وثنيها : بطنها الثاني وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب . التهذيب : والعشراء من النوق إذا شد عليها الرحل بالحبال ربما غرق الجنين في ماء السابياء فتسقطه ، وأنشد قول ذي الرمة .


                                                          وأغرق النبل وغرقه

                                                          : بلغ به غاية المد في القوس .

                                                          وأغرق النازع في القوس

                                                          أي استوفى مدها . والاستغراق : الاستيعاب . وأغرق في الشيء : جاوز الحد وأصله من نزع السهم . وفي التنزيل : والنازعات غرقا قال الفراء : ذكر أنها الملائكة وأن النزع نزع الأنفس من صدور الكفار ، وهو قولك والنازعات إغراقا كما يغرق النازع في القوس ؛ قال الأزهري : الغرق اسم أقيم مقام المصدر الحقيقي من أغرقت إغراقا . ابن شميل : يقال نزع في قوسه فأغرق ، قال : والإغراق الطرح هو أن يباعد السهم من شدة النزع يقال إنه لطروح . أسيد الغنوي : الإغراق في النزع أن ينزع حتى يشرب بالرصاف وينتهي إلى كبد القوس وربما قطع يد الرامي ، قال : وشرب القوس الرصاف أن يأتي النزع على الرصاف كله إلى الحديدة ؛ يضرب مثلا للغلو والإفراط . واغترق الفرس الخيل : خالطها ثم سبقها ، وفي حديث ابن الأكوع : وأنا على رجلي فأغترقها . يقال : اغترق الفرس الخيل إذا خالطها ثم سبقها ، ويروى بالعين المهملة ، وهو مذكور في موضعه . واغتراق النفس : استيعابه في الزفير ؛ قال الليث : والفرس إذا خالط الخيل ثم سبقها يقال اغترقها ؛ وأنشد للبيد :

                                                          يغرق الثعلب في شرته     صائب الخدبة في غير فشل

                                                          قال أبو منصور : لا أدري بم جعل قوله :


                                                          يغرق الثعلب في شرته

                                                          حجة لقوله اغترق الخيل إذا سبقها ، ومعنى الإغراق غير معنى الاغتراق ، والاغتراق مثل الاستغراق . قال أبو عبيدة : يقال للفرس إذا سبق الخيل قد اغترق حلبة الخيل المتقدمة ؛ وقيل في قول لبيد :


                                                          يغرق الثعلب في شرته

                                                          قولان : أحدهما أنه ؛ يعني الفرس يسبق الثعلب بحضره في شرته أي نشاطه فيخلفه ، والثاني أن الثعلب هاهنا ثعلب الرمح في السنان فأراد أنه يطعن به حتى يغيبه في المطعون لشدة حضره . ويقال : فلانة تغترق نظر الناس أي تشغلهم بالنظر إليها عن النظر إلى غيرها بحسنها ومنه قول قيس بن الخطيم :


                                                          تغترق الطرف وهي لاهية     كأنما شف وجهها نزف

                                                          قوله تغترق الطرف ؛ يعني امرأة تغترق وتستغرق واحد أي تستغرق عيون الناس بالنظر إليها وهي لاهية أي غافلة كأنما شف وجهها نزف : معناه أنها رقيقة المحاسن وكأن دمها ودم وجهها نزف ، والمرأة أحسن ما تكون غب نفاسها لأنه ذهب تهيج الدم فصارت رقيقة المحاسن ، والطرف هاهنا : النظر لا العين ؛ ويقال : طرف يطرف طرفا إذا نظر ، أراد أنها تستميل نظر النظار إليها بحسنها وهي غير محتفلة ولا عامدة لذلك ، ولكنها لاهية ، وإنما يفعل ذلك حسنها . ويقال للبعير إذا أجفر جنباه وضخم بطنه فاستوعب الحزام حتى ضاق عنها : قد اغترق التصدير والبطان واستغرقه . والمغرق من الإبل : التي تلقي ولدها لتمام أو لغيره فلا تظأر ولا تحلب وليست مرية ولا خلفة . واغرورقت عيناه بالدموع : امتلأتا ، زاد التهذيب : ولم تفيضا ، وقال : كذلك قال ابن السكيت . وفي الحديث : فلما رآهم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، احمر وجهه واغرورقت عيناه أي غرقتا بالدموع ، وهو افعوعلت من الغرق . والغرقة ، بالضم : القليل من اللبن قدر القدح ، وقيل : هي الشربة من اللبن ، والجمع غرق ؛ قال الشماخ يصف الإبل :


                                                          تضح وقد ضمنت ضراتها غرقا     من ناصع اللون حلو الطعم مجهود

                                                          ورواه ابن القطاع : حلو غير مجهود ، والروايتان تصحان ، والمجهود : المشتهى من الطعام والمجهود من اللبن : الذي أخرج زبده ، والرواية الصحيحة : تصبح وقد ضمنت وقبله :


                                                          إن تمس في عرفط صلع جماجمه     من الأسالق عاري الشوك مجرود

                                                          ويروى مخضود ، والأسالق : العرفط الذي ذهب ورقه ، والصلع : التي أكل رؤوسها ؛ يقول : هي على قلة رعيها وخبثه غزيرة اللبن . أبو عبيد : الغرقة مثل الشربة من اللبن وغيره من الأشربة ؛ ومنه الحديث : فتكون أصول السلق غرقه ، وفي أخرى : فصارت عرقه ، وقد رواه بعضهم بالفاء أي مما يغرف . وفي حديث ابن عباس : فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله أي أضاع أعماله الصالحة بما ارتكب من المعاصي . وفي حديث علي : لقد أغرق في النزع أي بالغ في الأمر وانتهى فيه وأصله من نزع القوس ومدها ثم استعير لمن بالغ في كل شيء . وأغرقه الناس : كثروا عليه فغلبوه ، وأغرقته السباع كذلك ؛ عن ابن الأعرابي . والغرياق : طائر . والغرقئ : القشرة الملتزقة ببياض البيض . النضر : الغرقئ البياض الذي يؤكل . أبو زيد : الغرقئ القشرة القيقية . وغرقأت البيضة : خرجت وعليها قشرة رقيقة وغرقأت الدجاجة : فعلت ذلك . وغرقأ البيضة : أزال غرقئها ؛ قال ابن جني : ذهب أبو إسحاق إلى أن همزة الغرقئ زائدة ولم يعلل ذلك باشتقاق ولا غيره ، قال : ولست أرى للقضاء بزيادة هذه الهمزة وجها من طريق القياس وذلك أنها ليست بأولى فنقضي بزيادتها ولا نجد فيها معنى غرق ، اللهم إلا أن يقول إن الغرقئ يحتوي على جميع ما يخفيه من البيضة ويغترقه ، قال : وهذا عندي فيه بعد ، ولو جاز اعتقاد مثله على ضعفه لجاز لك أن تعتقد في همزة كرفئة أنها زائدة ، وتذهب إلى أنها في معنى كرف [ ص: 41 ] الحمار إذا رفع رأسه لشم البول ، وذلك لأن السحاب أبدا كما تراه مرتفع ، وهذا مذهب ضعيف ؛ قال أبو منصور : واتفقوا على همزة الغرقئ وأن همزته ليست بأصلية . ولجام مغرق بالفضة أي محلى ، وقيل : هو إذا عمته الحلية وقد غرق .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية