الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      ابن شداد

                                                                                      الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة بقية الأعلام بهاء الدين أبو العز وأبو [ ص: 384 ] المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بن عتبة بن محمد بن عتاب الأسدي الحلبي الأصل والدار الموصلي المولد والمنشأ الفقيه الشافعي المقرئ المشهور بابن شداد ، وهو جده لأمه .

                                                                                      ولد سنة تسع وثلاثين وخمسمائة .

                                                                                      ولازم يحيى بن سعدون القرطبي ، فأخذ عنه القراءات والنحو والحديث ، وسمع من حفدة العطاري ، وابن ياسر الجياني ، وعبد الرحمن بن أحمد الطوسي ، وأخيه خطيب الموصل أبي عبد الله ، والقاضي سعيد بن عبد الله بن الشهرزوري ، ويحيى الثقفي ، وطائفة . وارتحل إلى بغداد فسمع من شهدة الكاتبة ، وجماعة ، وتفقه ، وبرع ، وتفنن ، وصنف ، ورأس وساد .

                                                                                      حدث بمصر ، ودمشق ، وحلب ، حدث عنه أبو عبد الله الفارسي ، والمنذري ، والعديمي وابنه مجد الدين ، وأبو حامد ابن الصابوني ، وسعد الخير ابن النابلسي ، وأخوه ، وأبو صادق محمد بن الرشيد ، وأبو [ ص: 385 ] المعالي الأبرقوهي ، وسنقر القضائي ، والصاحب محيي الدين ابن النحاس سبطه ، وجماعة .

                                                                                      وبالإجازة قاضي القضاة تقي الدين سليمان ، وأبو نصر ابن الشيرازي .

                                                                                      قال عمر بن الحاجب : كان ثقة حجة ، عارفا بأمور الدين ، اشتهر اسمه ، وسار ذكره ، وكان ذا صلاح وعبادة ، كان في زمانه كالقاضي أبي يوسف في زمانه ، دبر أمور الملك بحلب ، واجتمعت الألسن على مدحه ، أنشأ دار حديث بحلب ، وصنف كتاب " دلائل الأحكام " في أربع مجلدات .

                                                                                      وقال ابن خلكان انحدر ابن شداد إلى بغداد ، وأعاد بها ثم مضى إلى الموصل ، فدرس بالكمالية وانتفع به جماعة ، ثم حج سنة 583 وزار الشام فاستحضره السلطان صلاح الدين وأكرمه ، وسأله عن جزء حديث ليسمع منه ، فأخرج له جزءا فيه أذكار من البخاري ، فقرأه عليه بنفسه ، ثم جمع كتابا مجلدا في فضائل الجهاد وقدمه له ولازمه فولاه قضاء العسكر ، ثم خدم بعده ولده الملك الظاهر غازيا ، فولاه قضاء مملكته ونظر الأوقاف سنة نيف وتسعين . ولم يرزق ابنا ، ولا كان له أقارب ، واتفق أن الملك الظاهر أقطعه إقطاعا يحصل له منه جملة كثيرة ، فتصمد له مال كثير [ ص: 386 ] فعمر منه مدرسة سنة إحدى وستمائة ودار حديث وتربة . قصده الطلبة واشتغلوا عليه للعلم وللدنيا ، وصار المشار إليه في تدبير الدولة بحلب ، إلى أن استولت عليه البرودات والضعف فكان يتمثل

                                                                                      من يتمن العمر فليدرع صبرا على فقد أحبابه     ومن يعمر يلق في نفسه
                                                                                      ما قد تمناه لأعدائه

                                                                                      قال الأبرقوهي قدم مصر رسولا غير مرة ، آخرها القدمة التي سمعت منه فيها .

                                                                                      قال ابن خلكان كان يكنى أولا بأبي العز ، ثم غيرها بأبي المحاسن . قال : وقال في بعض تواليفه : أول من أخذت عنه شيخي صائن الدين القرطبي ، لازمت القراءة عليه إحدى عشرة سنة ، وقرأت عليه معظم ما رواه من كتب القراءات والحديث وشروحه والتفسير . ومن شيوخي سراج الدين الجياني ، قرأت عليه " صحيح مسلم " كله ، و " الوسيط " للواحدي سنة تسع وخمسين بالموصل . ومنهم فخر الدين أبو الرضا ابن الشهرزوري سمعت عليه " مسند أبي عوانة " و " مسند أبي داود " ، و " مسند الشافعي " ، و " جامع الترمذي " . إلى أن قال ابن خلكان أخذت عنه كثيرا ، وكتب إليه صاحب إربل في حقي وحق أخي ، فتفضل وتلقانا بالقبول [ ص: 387 ] والإكرام ولم يكن لأحد معه كلام ، ولا يعمل الطواشي طغريل شيئا إلا بمشورته . وكان للفقهاء به حرمة تامة . إلى أن قال : أثر الهرم فيه ، إلى أن صار كالفرخ . وكان يسلك طريق البغاددة في أوضاعهم ، ويلبس زيهم ، والرؤساء ينزلون عن دوابهم إليه . وقد سار إلى مصر لإحضار بنت السلطان الكامل إلى زوجها الملك العزيز ، ثم استقل العزيز بنفسه ، فلازم القاضي بيته ، وأسمع الحديث إلى أن مات وهو على القضاء . قال وظهر عليه الخرف ، وعاد لا يعرف من كان يعرفه ، ويسأله عن اسمه ومن هو ، ثم تمرض ومات يوم الأربعاء رابع عشر صفر سنة اثنتين وثلاثين وستمائة وله ثلاث وتسعون سنة .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية