الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الباب الثاني: العوض والقبض في الهبة

        وفيه فصلان:

        الفصل الأول: العوض في الهبة.

        الفصل الثاني: القبض في الهبة.

        [ ص: 388 ] [ ص: 389 ] الفصل الأول: العوض في الهبة

        وفيه مبحثان:

        المبحث الأول: الهبة بشرط العوض.

        المبحث الثاني: الهبة دون شرط العوض.

        [ ص: 390 ] [ ص: 391 ] المبحث الأول: الهبة بشرط العوض

        وفيه مطالب:

        المطلب الأول: حكم الهبة بشرط العوض

        إذا اشترط الواهب في هبته عوضا معلوما، فاختلف العلماء رحمهم في ذلك على قولين:

        القول الأول: صحة الهبة.

        وهو قول جمهور أهل العلم.

        القول الثاني: بطلان هذه الهبة.

        وهو قول للشافعية، وقول للحنابلة، وهو قول الظاهرية.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        استدل الجمهور بالأدلة الآتية:

        [ ص: 392 ] 1 - قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود .

        والأمر بإيفاء العقد يتضمن إيفاء أصله ووصفه، ومن وصفه الشرط فيه.

        2 - قوله تعالى: وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وجه الاستدلال: أن الله سبحانه وتعالى أخبر في هذه الآية أن المعطي لا يكون له من عطيته إلا ما نوى بها، فإن نوى بها أمرا آخر كالثواب من المعطى ونحوه كان له ذلك.

        (178 ) 3 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج".

        (179 ) 4 - وقال البخاري: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والمسلمون على شروطهم".

        (180 ) 5 - ما رواه ابن ماجه من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع بن جارية الأنصاري، عن عمرو بن دينار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها"، أي: يعوض (ضعيف ) .

        [ ص: 393 ] [ ص: 394 ] (181 ) 6 - ما رواه الإمام مالك عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان ابن طريف المري، عن عمر رضي الله عنه قال: "من وهب هبة لصلة الرحم، أو على وجه الصدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد الثواب فهو على هبته، يرجع فيها إذا لم يرض منها".

        (182 ) 7 - ما رواه ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن القاسم، عن ابن أبزى، عن علي رضي الله عنه قال: "الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها" (ضعيف ) .

        [ ص: 395 ] (183 ) 8 - ما رواه ابن أبي شيبة: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر قال: "كنت عند فضالة بن عبيد إذ جاء رجلان، فقال أحدهما: وهبت له بازا وأنا أرجو أن يثيبني منها، وقال الآخر: وهب لي بازا وما تعرضت له وما سألته، فقال فضالة: "اردد إليه هبته، أو أثبه منها، فإنما يرجع في المواهب النساء وشرار القوم".

        (184 ) 9 - ما رواه ابن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن إبراهيم، عن ابن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: "من وهب هبة لوجه الثواب فلا بأس أن يرد" (صحيح ) .

        (185 ) 10 - ما رواه الطحاوي قال: حدثنا فهد، ثنا أبو صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "المواهب ثلاثة: رجل وهب من غير أن يستوهب فهي كسبيل الصدقة فليس له أن يرجع في صدقته، ورجل استوهب فوهب فله الثواب... ورجل وهب واشترط الثواب فهو دين على صاحبها في حياته وبعد مماته".

        [ ص: 396 ] دليل القول الثاني: (بطلان هذه الهبة ) :

        1 - قوله تعالى: وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله .

        قال ابن حزم: "روينا من طريق محمد بن الجهم: نا يحيى الجبابي، نا محمد بن عبيد، نا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن ابن عباس في قول الله تعالى: وما آتيتم من ربا قال: هو هدية الرجل أو هبة الرجل يريد أن يثاب أفضل منه، فذلك الذي لا يربو عند الله، ولا يؤجر عليه صاحبه ولا إثم عليه.

        قال ابن حزم: هذا إذا أراده بقلبه، وأما إذا اشترطه فعين الباطل والإثم.

        ويمكن أن يناقش: بأن هذا لا يقتضي بطلانها; لأن عدم الثواب والأجر من الله في العمل لا يقتضي بطلانه كسائر العقود التي لا يقصد بها الثواب.

        2. قوله تعالى: ولا تمنن تستكثر .

        وجه الاستدلال: أن الله تعالى نهى في هذه الآية عن إعطاء شيء ليؤخذ أكثر منه.

        ويمكن أن يناقش: بأن هذه الآية اختلف في المخاطب بها وفي المراد بها: فقيل المخاطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكون الآية مقيدة للآية السابقة التي استدل بها الجمهور والظاهرية، ووجه اختصاص الخطاب برسول الله صلى الله عليه وسلم:

        [ ص: 397 ] أن أخذ الزائد على ما أعطى نوع من السؤال، والسؤال لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

        ولأن أخذ الزائد على ما دفع طريق من طرق أخذ الصدقة، وهي لا تحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

        وقيل معنى الآية: لا تمنن بعطيتك وعملك، ولا تستكثره، فعلى هذا يكون الخطاب له ولأمته.

        وقيل معناه: لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه; لأن "تمنن" بمعنى تضعف.

        وعلى كل هذه الأوجه لا يكون في الآية دليل على ما ذكره ابن حزم من بطلان هبة الثواب.

        3 - أن لفظ الهبة يفيد التبرع، فلا يصح شرط العوض فيها.

        ونوقش: بعدم التسليم، كما في أدلة الرأي الأول.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - صحة الهبة بشرط الثواب; إذ الأصل صحة التبرعات والشروط فيها.

        [ ص: 398 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية