الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا ضربتم في الأرض شروع في بيان كيفية الصلاة عند الضرورات من السفر ولقاء العدو والمرض والمطر وفيه تأكيد لعزيمة المهاجر على المهاجرة وترغيب له فيها لما فيه من تخفيف المؤنة أي: إذا سافرتم أي مسافرة كانت ولذلك لم يقيد بما قيد به المهاجرة. فليس عليكم جناح أى حرج أو إثم. أن تقصروا أي: في أن تقصروا، والقصر خلاف المد يقال: قصرت الشيء، أي: جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه فمتعلق القصر حقيقة إنما هو ذلك الشيء لا بعضه فإنه متعلق الحذف دون القصر، وعلى هذا فقوله تعالى: [ ص: 225 ] من الصلاة ينبغي أن يكون مفعولا لـ"تقصروا" على زيادة من حسبما رآه الأخفش، وأما على تقدير أن تكون تبعيضية ويكون المفعول محذوفا كما هو رأي سيبويه أي: شيئا من الصلاة فينبغي أن يصار إلى وصف الجزء بصفة الكل أو يراد بالقصر معنى الحبس يقال: قصرت الشيء إذا حبسته أو يراد بالصلاة الجنس ليكون المقصور بعضا منها وهي الرباعيات أي: فليس عليكم جناح في أن تقصروا بعض الصلاة بتنصيفها، وقرئ "تقصروا" من الإقصار و"تقصروا" من التقصير والكل بمعنى، وأدنى مدة السفر الذي يتعلق به القصر عند أبي حنيفة مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام بالاقتصاد، وعند الشافعي مسيرة يومين، وظاهر الآية الكريمة التخيير وأفضلية الإتمام وبه تعلق الشافعي، وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتم في السفر، وعن عائشة رضي الله عنها أنها أتمت تارة وقصرت أخرى، وعن عثمان رضي الله عنه أنه كان يتم ويقصر وعندنا يجب القصر لا محالة خلا أن بعض مشايخنا سماه عزيمة وبعضهم رخصة إسقاط بحيث لا مساغ للإتمام لا رخصة ترفيه إذ لا معنى للتخيير بين الأخف والأثقل وهو قول عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وجابر رضوان الله عليهم وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة وهو قول مالك، وقد روي عن عمر رضي الله عنه: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم، وعن أنس رضي الله عنه: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر إلا ركعتين وصلى بمكة ركعتين ثم قال: "أتموا فإنا قوم سفر"، وحين سمع ابن مسعود أن عثمان رضي الله عنه صلى بمنى أربع ركعات استرجع ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر رضي الله عنه بمنى ركعتين وصليت مع عمر رضي الله عنه بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان، وقد اعتذر عثمان رضي الله عنه عن إتمامه بأنه تأهل بمكة، وعن الزهري أنه إنما أتم لأنه أزمع الإقامة بمكة، وعن عائشة رضي الله عنها: أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر، وفي صحيح البخاري أنها قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر، وأما ما روي عنها من الإتمام فقد اعتذرت عنه وقالت: أنا أم المؤمنين فحيث حللت فهي داري وإنما ورد ذلك بنفي الجناح لما أنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة أن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فصرح بنفي الجناح عنهم لتطيب به نفوسهم ويطمئنوا إليه كما في قوله تعالى: فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما مع أن ذلك الطواف واجب عندنا ركن عند الشافعي. وقوله تعالى: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أي: إن خفتم أن يتعرضوا لكم بما تكرهونه من القتال وغيره فليس عليكم جناح إلخ وهو شرط معتبر في شرعية ما يذكر بعده من صلاة الخوف المؤداة بالجماعة، وأما في حق مطلق القصر فلا اعتبار له اتفاقا لتظاهر السنن على مشروعيته حسبما وقفت على تفصيلها، وقد ذكر الطحاوي في شرح الآثار مسندا إلى يعلى بن أمية أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما قال الله فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وقد [ ص: 226 ] أمن الناس فقال عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" وفيه دليل على عدم جواز الإكمال لأن التصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد كما حقق في موضعه ولا يتوهمن أنه مخالف للكتاب لأن التقييد بالشرط عندنا إنما يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط وأما عدمه عند عدمه فساكت عنه فإن وجد له دليل ثبت عنده أيضا وإلا يبقى على حاله لعدم تحقق دليله لا لتحقق دليل عدمه وناهيك بما سمعت من الأدلة الواضحة، وأما عند القائلين بالمفهوم فلأنه إنما يدل على نفي الحكم عند عدم الشرط إذا لم يكن له فائدة أخرى، وقد خرج الشرط ههنا مخرج الأغلب كما في قوله تعالى: ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا بل نقول إن الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته، وفي حق ما يتعلق به من الصلوات وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر ، فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من القصر في حال الأمن ، وتخصيصه بالرباعيات على وجه التصنيف وبالضرب في المدة المعينة بيان لإجمال الكتاب ، وقد قيل: إن قوله تعالى إن خفتم إلخ متعلق بما بعده من صلاة الخوف منفصل عما قبله، فإنه روي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: نزل قوله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حول فنزل إن خفتم إلخ أي: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح إلخ، وقد قرئ من الصلاة أن يفتنكم بغير إن خفتم على أنه مفعول له لما دل عليه الكلام كأنه قيل: شرع لكم ذلك كراهة أن يفتنكم إلخ فإن استمرار الاشتغال بالصلاة مظنة لاقتدارهم على إيقاع الفتنة. وقوله تعالى: إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا تعليل لذلك باعتبار تعلله بما ذكر أو لما يفهم من الكلام من كون فتنتهم متوقعة فإن كمال عداوتهم للمؤمنين من موجبات التعرض لهم بسوء.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية