الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر الذي دل به على حفظ القرآن عن التلبيس وعلى حفظ الإنسان، ذكر جوابه في حفظ النفوس التي جعل فيها قابلية لحفظ القرآن في الصدور، ودل على حفظ ما خلق لأجلها من هذه الأشياء المقسم بها على حفظ الإنسان لأنها إذا كانت محفوظة عن أدنى زيغ وهي مخلوقة لتدبير مصالحه فما الظن به؟ فقال مؤكدا غاية [التأكيد - ] لما للكفرة من إنكار ذلك والطعن [فيه- ] [ ص: 373 ] إن بالتخفيف من الثقيلة في قراءة الجمهور [أي - ] أن الشأن كل نفس أي من الأنفس مطلقا لا سيما نفوس الناس لما عليها أي بخصوصها لا مشارك لها في ذاتها حافظ أي رقيب عتيد لا يفارقها، والمراد به الجنس من الملائكة، فبعضهم لحفظها من الآفات، وبعضهم لحفظها من الوساوس، وبعضهم لحفظ أعمالها وإحصائها بالكتابة، وبعضهم لحفظ ما كتب لها من رزق وأجل وشقاوة أو سعادة ومشي(؟) ونكاح وسفر وإقامة، فلا يتعدى شيئا من ذلك نحن قسمنا نحن قدرنا، فإن قلت: إن الحافظ الملائكة، صدقت، وإن قلت: إنه الله، صدقت، لأنه الآمر لهم والمقدر على الحفظ، والحافظ [لهم - ] من الوهن والزيغ، فهو الحافظ الحقيقي، واللام في هذه القراءة هي الفارقة بين المخففة والنافية "وما" مؤكدة بنفي [صدر - ] ما أثبتته الجملة، "وحافظ" خبر "إن" ويجوز أن يكون الظرف الخبر، و "حافظ" مرتفع به، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد "لما" على أنها بمعنى "إلا" و "إن" نافية بمعنى "ما" ، والمستثنى منه "كل نفس" وخبر النافية محذوف تقديره: كائنة أو موجودة [أو نحوهما-] ، والمستثنى "نفس" موصوفة ب "عليها حافظ" ويحتمل أن يكون حالا فمحله يحتمل [ ص: 374 ] الرفع بأنه خبر النافي [في - ] هذا الاستثناء المفرغ عند بني تميم، والنصب بأنه خبر عند غيرهم، أو حال من "نفس" ، لأنها عامة، والتقدير: ما كل نفس موجودة إلا نفس كائنا أو كائن عليها حافظ، والنسبة بين مفهومي القراءتين أن المشدد أخص لأنها دائمة مطلقة، والمخففة مطلقة عامة، ولا يظن أن المشددة غير مساوية للمخففة، فضلا عن أن تكون أخص لأن حرف النفي دخل على "كل" وهو من أسوار السلب الجزئي كما تقرر في موضعه فينحل إلى أن بعض النفوس ليس إلا عليها حافظ [وإنما - ] كان لا يظن ذلك لأنها تنحل لما فيها من الحصر المتضمن للنفي والإثبات إلى جملتين، إحداهما إثبات [الحفظ - ] للنفس الموصوفة والأخرى سلب نقيضه عنها، لأنه من قصر الموصوف على الصفة. ونقيض الكلية الموجبة الجزئية السالبة أي ليس كل نفس عليها حافظ [ والسالبة الجزئية أعم من السالبة الكلية، فإذا نفيتها قلت: ليس ليس كل نفس عليها حافظ - ] فهو سلب السلب الجزئي، وإذا سلب السلب الجزئي [سلب الكلي -] لما تبين أنه أخف. وإذا انتفى الأعم انتفى الأخص فلا شيء من الأنفس ليس عليها حافظ، فانحل الكلام إلى: لا نفس [ ص: 375 ] كائنة إلا نفس عليها حافظ، وإن كان لفظ "ليس كل" من أسوار الجزئية لما مضى، فصارت الآية على قراءة التشديد مركبة من مطلقة عامة هي "كل نفس عليها حافظ" بالفعل. ومن سلب نقيضها وهو الدائمة [المطلقة - ] الذي هو "دائما ليس كل نفس عليها [حافظ" - ] ورفعه بأن يقال: ليس دائما ليس كل نفس ليس عليها حافظ، [ أي ليس دائما كل نفس ليس عليها حافظ، وذلك على سبيل الحصر وقصر الموصوف على الصفة، معناه أن الموصوف لا يتعدى صفته التي قصر عليها، فأقل الأمور أن لا يتجاوزها إلى عدم الحفظ، وذلك معنى الدائمة المطلقة وهو الحكم بثبوت المحمول للموضوع ما دام ذات الموضوع موجودة، وهي على قراءة التخفيف مطلقة عامة أي حكم فيها بثبوت المحمول للموضوع بالفعل وهو الجزء الأول مما انحلت إليه قراءة التشديد، فمفهوم الآية في قراءة التشديد أخص منه في قراءة التخفيف، لأن كل دائم كائن بالفعل، ولا ينعكس - هذا إذا نظرنا إلى نفس المفهوم من اللفظ مع قطع النظر عن الدلالة الخارجية، وأما بالنظر إلى نفس الأمر فالجهة الدوام فلا فرق، غير أنه دل عليها باللفظ في قراءة التشديد دون قراءة التخفيف والله تعالى أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى: لما قال الله [ ص: 376 ] سبحانه وتعالى في سورة البروج والله على كل شيء شهيد والله من ورائهم محيط وكان في ذلك تعريف العباد بأنه سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء ولا يفوته شيء ولا ينجو منه هارب، أردف ذلك بتفصيل يزيد إيضاح ذلك التعريف الجملي من شهادته سبحانه وتعالى على كل شيء وإحاطته به فقال تعالى إن كل نفس لما عليها حافظ فأعلم الله سبحانه وتعالى بخصوص كل نفس ممن يحفظ أنفاسها ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ليعلم العبد أنه ليس بمهمل ولا مضيع، وهو سبحانه وتعالى الغني عن كتب الحفظة وإحصائهم وشهادة الشهود من الأعضاء وغيرهم، وإنما كان ذلك لإظهار عدله سبحانه وتعالى إن الله لا يظلم مثقال ذرة ولا أقل من المثقال، ولكن هي سنته حتى لا يبقى لأحد حجة ولا تعلق، وأقسم سبحانه وتعالى على ذلك تحقيقا وتأكيدا يناسب القصد المذكور - انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية