الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا استئناف وقع كالبيان والتقرير لما قبله، والمراد بالموصول إما الذين كفروا برسول الله- صلى الله عليه وسلم - وإما ما يعمهم وغيرهم ممن كفر بسائر الأنبياء عليهم السلام، ويدخل أولئك دخولا أوليا، وعلى الأول فالمراد بالآيات إما القرآن أو ما يعم كله وبعضه، أو ما يعم سائر معجزاته عليه الصلاة والسلام، وعلى الثاني فالمراد بها ما يعم المذكورات وسائر الشواهد التي أتى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على مدعاهم، و(سوف) كما قال سيبويه: كلمة تذكر للتهديد والوعيد، وتنوب عنها السين، كما في قوله تعالى: سأصليه سقر وقد تذكر للوعد، كما في قوله سبحانه: ولسوف يعطيك ربك فترضى ، " وسوف أستغفر لكم ربي " وكثيرا ما تفيد هي والسين توكيد الوعيد، وتنكير (نارا) للتفخيم، أي: يدخلون - ولا بد - نارا هائلة.

                                                                                                                                                                                                                                      كلما نضجت جلودهم أي احترقت وتهرت وتلاشت، من نضج الثمر واللحم نضجا ونضجا إذا أدرك، و(كلما) ظرف زمان، والعامل فيه بدلناهم جلودا غيرها أي أعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلدا جديدا مغايرا للمحترق صورة وإن كانت مادته الأصلية موجودة، بأن يزال عنه الإحراق، فلا يرد أن الجلد الثاني لم يعص فكيف يعذب؟! وذلك لأنه هو العاصي باعتبار أصله، فإنه لم يبدل إلا صفته، وعندي أن هذا السؤال مما لا يكاد يسأله عاقل فضلا عن فاضل؛ وذلك لأن عصيان الجلد وطاعته وتألمه وتلذذه غير معقول؛ لأنه من حيث ذاته لا فرق بينه وبين سائر الجمادات من جهة عدم الإدراك والشعور، وهو أشبه الأشياء بالآلة، فيد قاتل النفس ظلما - مثلا - آلة له كالسيف الذي قتل به، ولا فرق بينهما إلا بأن اليد حاملة للروح والسيف ليس كذلك، وهذا لا يصلح وحده سببا لإعادة اليد بذاتها وإحراقها دون إعادة السيف وإحراقه؛ لأن ذلك [ ص: 59 ] الحمل غير اختياري، فالحق أن العذاب على النفس الحساسة بأي بدن حلت، وفي أي جلد كانت، وكذا يقال في النعيم، ويؤيد هذا أن من أهل النار من يملأ زاوية من زوايا جهنم، وأن سن الجهنمي كجبل أحد، وأن أهل الجنة يدخلونها على طول آدم عليه السلام، ستين ذراعا في عرض سبعة أذرع، ولا شك أن الفريقين لم يباشروا الشر والخير بتلك الأجسام، بل من أنصف رأى أن أجزاء الأبدان في الدنيا لا تبقى على كميتها كهولة وشيوخة، وكون الماهية واحدة لا يفيد؛ لأنا لم ندع فيما نحن فيه أن الجلد الثاني يغاير الجلد الأول كمغايرة العرض للجوهر أو الإنسان للحجر، بل كمغايرة زيد المطيع لعمرو العاصي مثلا، على أنه لو قيل: إن الكافر يعذب أولا ببدن من حديد تحله الروح وثانيا ببدن من غيره، كذلك لم يسغ لأحد أن يقول: إن الحديد لم يعص فكيف أحرق بالنار؟! ولولا ما علم من الدين بالضرورة من المعاد الجسماني بحيث صار إنكاره كفرا لم يبعد عقلا القول بالنعيم والعذاب الروحانيين فقط.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما توقف الأمر عقلا على إثبات الأجسام أصلا، ولا يتوهم من هذا أني أقول باستحالة إعادة المعدوم - معاذ الله تعالى - ولكني أقول بعدم الحاجة إلى إعادته وإن أمكنت.

                                                                                                                                                                                                                                      والنصوص في هذا الباب متعارضة، فمنها ما يدل على إعادة الأجسام بعينها بعد إعدامها، ومنها ما يدل على خلق مثلها وفناء الأولى، ولا أرى بأسا بعد القول بالمعاد الجسماني في اعتقاد أي الأمرين كان، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - الكلام في الآيات التي يدل ظاهرها على إعادة العين، مثل قوله سبحانه: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وما في شرح البخاري للسفيري من أنه لا تزال الخصومة بين الناس حتى تختصم الروح والجسد يوم القيامة، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت، وإني كنت ريحا، ولولاك لم أستطع أن أعمل شيئا، ويقول الجسد للروح: أنت أمرت وأنت سولت ولولاك لكنت بمنزلة الجذع الملقى، لا أحرك يدا ولا رجلا، فيبعث الله تعالى ملكا يقضي بينهما، فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير وآخر ضرير، دخلا بستانا، فقال المقعد للضرير: إني أرى ها هنا ثمارا لكن لا أصل إليها، فقال له الضرير: اركبني فتناولها، فأيهما المتعدي؟ فيقولان: كلاهما، فيقول لهما الملك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما، لا أراه صحيحا لظهور الفرق بين المثال والممثل له، فإن الحامل فيما نحن فيه لا اختيار له ولا شعور بوجه من الوجوه، اللهم إلا أن يكون هناك شعور لكن لا شعور لنا به، ولعل لنا عودة إن شاء الله تعالى لتحقيق هذا المقام، ثم إن هذا التبديل كيفما كان يكون في الساعة الواحدة مرات كثيرة.

                                                                                                                                                                                                                                      فقد أخرج ابن مردويه، وأبو نعيم في (الحلية) عن ابن عمر قال: «قرئ عند عمر هذه الآية فقال كعب: عندي تفسيرها، قرأتها قبل الإسلام، فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها سمعت كما سمعت من رسول الله- صلى الله عليه وسلم –صدقناك، قال: إني قرأتها قبل: (كلما نضجت جلودهم بدلناها جلودا غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة) فقال عمر: هكذا سمعته من رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم».

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة وغيره، عن الحسن قال: بلغني أنه يحرق أحدهم في اليوم سبعين ألف مرة، كلما نضجتهم النار وأكلت لحومهم، قيل لهم: عودوا فعادوا.

                                                                                                                                                                                                                                      ليذوقوا العذاب أي: ليدوم ذوقه ولا ينقطع، كقولك للعزيز: أعزك الله، والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث أنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة، أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه، أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث أن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيرا، أو على سرايته للباطن، ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه أن [ ص: 60 ] النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق، ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب صيانة بدنها عن الاحتراق، قاله مولانا شيخ الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: السر في ذلك أن في النضج والتبديل نوع إياس لهم، وتجديد حزن على حزن، وأنكر بعضهم نضج الجلود بالمعنى المتبادر وتبديلها زاعما أن التبديل إنما هو للسرابيل التي ذكرها الله سبحانه وتعالى: سرابيلهم من قطران وسميت السرابيل جلودا للمجاورة، وفيه أنه ترك للظاهر، ويوشك أن يكون خلاف المعلوم ضرورة، وأن السرابيل لا توصف بالنضج، وكأنه ما دعاه إلى هذا الزعم سوى استبعاد القول بالظاهر، وليس هو بالبعيد عن قدرة الله سبحانه وتعالى إن الله كان عزيزا أي: لم يزل منيعا لا يدافع ولا يمانع، وقيل: إنه قادر لا يمتنع عليه ما يريده مما تواعد أو وعد به حكيما في تدبيره وتقديره وتعذيب من يعذبه، والجملة تعليل لما قبلها من الإصلاء والتبديل، وإظهار الاسم الجليل لتعليل الحكم مع ما مر مرارا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية