الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا .

انتقال إلى تشريع آخر بمناسبة ذكر السفر للخروج من سلطة الكفر ، على عادة القرآن في تفنين أغراضه ، والتماس مناسباتها . والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها . والضرب في الأرض : السفر .

وإذا مضمنة معنى الشرط كما هو غالب استعمالها ، فلذلك دخلت الفاء على الفعل الذي هو كجواب الشرط . وإذا منصوبة بفعل الجواب .

وقصر الصلاة : النقص منها ، وقد علم أن أجزاء الصلاة هي الركعات بسجداتها وقراءاتها ، فلا جرم أن يعلم أن القصر من الصلاة هو نقص الركعات . وقد بينه فعل [ ص: 183 ] النبيء - صلى الله عليه وسلم - إذ صير الصلاة ذات الأربع الركعات ذات ركعتين . وأجملت الآية فلم تعين الصلوات التي يعتريها القصر ، فبينته السنة بأنها الظهر والعصر والعشاء . ولم تقصر الصبح لأنها تصير ركعة واحدة فتكون غير صلاة ، ولم تقصر المغرب لئلا تصير شفعا فإنها وتر النهار ، ولئلا تصير ركعة واحدة كما قلنا في الصبح .

وهذه الآية أشارت إلى قصر الصلاة الرباعية في السفر ، ويظهر من أسلوبها أنها نزلت في ذلك ، وقد قيل : إن قصر الصلاة في السفر شرع في سنة أربع من الهجرة وهو الأصح ، وقيل : في ربيع الآخر من سنة اثنتين ، وقيل : بعد الهجرة بأربعين يوما .

وقد روى أهل الصحيح قول عائشة - رضي الله عنها - : فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيدت صلاة الحضر ، وهو حديث بين واضح . ومحمل الآية على مقتضاه : أن الله تعالى لما فرض الصلاة ركعتين فتقررت كذلك فلما صارت الظهر والعصر والعشاء أربعا نسخ ما كان من عددها .

وكان ذلك في مبدأ الهجرة ، وإذ قد كان أمر الناس مقاما على حالة الحضر وهي الغالب عليهم ، بطل إيقاع الصلوات المذكورات ركعتين ، فلما غزوا خفف الله عنهم فأذنهم أن يصلوا تلك الصلوات ركعتين ركعتين ، فلذلك قال تعالى فليس عليكم جناح وقال أن تقصروا من الصلاة وإنما قالت عائشة أقرت صلاة السفر حيث لم تتغير عن الحالة الأولى ، وهذا يدل على أنهم لم يصلوها تامة في السفر بعد الهجرة ، فلا تعارض بين قولها وبين الآية .

وقوله إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا شرط دل على تخصيص الإذن بالقصر بحال الخوف من تمكن المشركين منهم وإبطالهم عليهم صلاتهم ، وأن الله أذن في القصر لتقع الصلاة عن اطمئنان .

فالآية هذه خاصة بقصر الصلاة عند الخوف ، وهو القصر الذي له هيئة خاصة في صلاة الجماعة ، وهذا رأي مالك ، يدل عليه ما أخرجه في الموطأ : أن رجلا من آل خالد بن أسيد سأل عبد الله بن عمر إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر ، فقال ابن عمر يا ابن أخي إن الله بعث إلينا محمدا ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأيناه يفعل .

يعني أن ابن عمر أقر السائل وأشعره بأن صلاة السفر ثبتت بالسنة ، وكذلك كانت ترى عائشة وسعد بن أبي وقاص أن هذه الآية خاصة بالخوف ، فكانا يكملان الصلاة في السفر .

وهذا [ ص: 184 ] التأويل هو البين في محمل هذه الآية ، فيكون ثبوت القصر في السفر بدون الخوف وقصر الصلاة في الحضر عند الخوف ثابتين بالسنة ، وأحدهما أسبق من الآخر ، كما قال ابن عمر .

وعن يعلى بن أمية أنه قال : قلت لعمر بن الخطاب : إن الله تعالى يقول إن خفتم وقد أمن الناس . فقال : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله عن ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته .

ولا شك أن محمل هذا الخبر أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أقر عمر على فهمه تخصيص هذه الآية بالقصر لأجل الخوف ، فكان القصر لأجل الخوف رخصة لدفع المشقة . وقوله : له " صدقة " إلخ ، معناه أن القصر في السفر لغير الخوف صدقة من الله ، أي تخفيف ، وهو دون الرخصة فلا تردوا رخصته .

فلا حاجة إلى ما تمحلوا به في تأويل القيد الذي في قوله إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وتقتصر الآية على صلاة الخوف ، ويستغني القائلون بوجوب القصر في السفر مثل ابن عباس ، وأبي حنيفة ، ومحمد بن سحنون ، وإسماعيل بن إسحاق من المالكية ; والقائلون بتأكيد سنة القصر مثل مالك بن أنس وعامة أصحابه ، عن تأويل قوله فليس عليكم جناح بما لا يلائم إطلاق مثل هذا اللفظ .

ويكون قوله وإذا ضربتم في الأرض إعادة لتشريع رخصة القصر في السفر لقصد التمهيد لقوله وإذا كنت فيهم الآيات .

أما قصر الصلاة في السفر فقد دلت عليه السنة الفعلية ، واتبعه جمهور الصحابة إلا عائشة وسعد بن أبي وقاص ، حتى بالغ من قال بوجوبه من أجل حديث عائشة في الموطأ والصحيحين لدلالته على أن صلاة السفر بقيت على فرضها ، فلو صلاها رباعية لكانت زيادة في الصلاة .

ولقول عمر فيما رواه النسائي وابن ماجه : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر . وإنما قال مالك بأنه سنة لأنه لم يرو عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - في صلاة السفر إلا القصر ، وكذلك الخلفاء من بعده .

وإنما أتم عثمان بن عفان الصلاة في الحج خشية أن يتوهم الأعراب أن الصلوات كلها ركعتان . غير أن مالكا لم يقل بوجوبه من أجل قوله تعالى فليس عليكم جناح لمنافاته لصيغ الوجوب . ولقد أجاد محامل الأدلة .

وأخبر عن الكافرين وهو جمع بقوله عدوا وهو مفرد . وقد قدمنا ذلك عند قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم .

[ ص: 185 ] وقوله تعالى وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة هذه صفة صلاة الخوف في الجماعة لقوله فأقمت لهم الصلاة . واتفق العلماء على أن هذه الآية شرعت صلاة الخوف . وأكثر الآثار تدل على أن مشروعيتها كانت في غزوة ذات الرقاع بموضع يقال له : نخلة بين عسفان وضجنان من نجد ، حين لقوا جموع غطفان : محارب وأنمار وثعلبة . وكانت بين سنة ست وسنة سبع من الهجرة ، وأن أول صلاة صليت بها هي صلاة العصر .

وأن سببها أن المشركين لما رأوا حرص المسلمين على الصلاة قالوا : هذه الصلاة فرصة لنا لو أغرنا عليهم لأصبناهم على غرة ، فأنبأ الله بذلك نبيئه - صلى الله عليه وسلم - ونزلت الآية .

غير أن الله تعالى صدر حكم الصلاة بقوله وإذا كنت فيهم فاقتضى ببادئ الرأي أن صلاة الخوف لا تقع على هذه الصفة إلا إذا كانت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي خصوصية لإقامته .

وبهذا قال إسماعيل ابن علية ، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة في أحد أقواله ، وعللوا الخصوصية بأنها لحرص الناس على فضل الجماعة مع الرسول ، بخلاف غيره من الأيمة ، فيمكن أن تأتم كل طائفة بإمام .

وهذا قول ضعيف : لمخالفته فعل الصحابة ، ولأن مقصد شرع الجماعة هو اجتماع المسلمين في الموطن الواحد ، فيؤخذ بهذا المقصد بقدر الإمكان . على أن أبا يوسف لا يرى دلالة مفهوم المخالفة فلا تدل الآية على الاختصاص بإمامة الرسول ، ولذلك جزم جمهور العلماء بأن هذه الآية شرعت صلاة الخوف للمسلمين أبدا .

ومحمل هذا الشرط عندهم جار على غالب أحوالهم يومئذ من ملازمة النبيء - صلى الله عليه وسلم - لغزواتهم وسراياهم إلا للضرورة ، كما في الحديث لولا أن قوما لا يتخلفون بعدي ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية سارت في سبيل الله .

فليس المراد الاحتراز عن كون غيره فيهم ولكن التنويه بكون النبيء فيهم . وإذ قد كان الأمراء قائمين مقامه في الغزوات فالذي رخص الله للمسلمين معه يرخصه لهم مع أمرائه ، وهذا كقوله خذ من أموالهم صدقة .

وفي نظم الآية إيجاز بديع فإنه لما قال فلتقم طائفة منهم معك علم أن ثمة طائفة أخرى ، فالضمير في قوله وليأخذوا أسلحتهم للطائفة باعتبار أفرادها ، وكذلك ضمير قوله فإذا سجدوا للطائفة التي مع النبيء ، لأن المعية معية الصلاة ، وقد قال [ ص: 186 ] فإذا سجدوا . وضمير قوله فليكونوا للطائفة الأخرى المفهومة من المقابلة ، لظهور أن الجواب وهو فليكونوا من ورائكم متعين لفعل الطائفة المواجهة العدو .

وقوله ولتأت طائفة أخرى هذه هي المقابلة لقوله فلتقم طائفة منهم معك .

وقد أجملت الآية ما تصنعه كل طائفة في بقية الصلاة ، ولكنها أشارت إلى أن صلاة النبيء - صلى الله عليه وسلم - واحدة لأنه قال فليصلوا معك . فجعلهم تابعين لصلاته ، وذلك مؤذن بأن صلاته واحدة ، ولو كان يصلي بكل طائفة صلاة مستقلة لقال تعالى فلتصل بهم . وبهذا يبطل قول الحسن البصري : بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين بكل طائفة ، لأنه يصير متما للصلاة غير مقصر ، أو يكون صلى بإحدى الطائفتين الصلاة المفروضة وبالطائفة الثانية صلاة : نافلة له ، فريضة للمؤمنين ، إلا أن يلتزم الحسن ذلك ، ويرى جواز ائتمام المفترض بالمتنفل . ويظهر أن ذلك الائتمام لا يصح ، وإن لم يكن في السنة دليل على بطلانه .

وذهب جمهور العلماء إلى أن الإمام يصلي بكل طائفة ركعة ، وإنما اختلفوا في كيفية تقسيم الصلاة : بالنسبة للمأمومين . والقول الفصل في ذلك هو ما رواه مالك في الموطأ ، عن سهل بن أبي حثمة : أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف يوم ذات الرقاع ، فصفت طائفة معه وطائفة وجاه العدو ، فصلى بالذين معه ركعة ثم قام ، وأتموا ركعة لأنفسهم ، ثم انصرفوا فوقفوا وجاه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت له ، ثم سلم ، ثم قضوا الركعة التي فاتتهم وسلموا . وهذه الصفة أوفق بلفظ الآية . والروايات غير هذه كثيرة .

والطائفة : الجماعة من الناس ذات الكثرة . والحق أنها لا تطلق على الواحد والاثنين ، وإن قال بذلك بعض المفسرين من السلف . وقد تزيد على الألف كما في قوله تعالى على طائفتين من قبلنا . وأصلها منقولة من طائفة الشيء وهي الجزء منه .

وقوله وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم استعمل الأخذ في حقيقته ومجازه : لأن أخذ الحذر مجاز ، إذ حقيقة الأخذ التناول ، وهو مجاز في التلبس بالشيء والثبات عليه . وأخذ الأسلحة حقيقة ، ونظيره قوله تعالى والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ، [ ص: 187 ] فإن تبوأ الإيمان الدخول فيه والاتصاف به بعد الخروج من الكفر . وجاء بصيغة الأمر دون أن يقول : ولا جناح عليكم أن تأخذوا أسلحتكم ، لأن أخذ السلاح فيه مصلحة شرعية .

وقوله ود الذين كفروا إلخ ، ودهم هذا معروف إذ هو شأن كل محارب ، فليس ذلك المعنى المعروف هو المقصود من الآية ، إنما المقصود أنهم ودوا ودا مستقربا عندهم ، لظنهم أن اشتغال المسلمين بأمور دينهم يباعد بينهم وبين مصالح دنياهم جهلا من المشركين لحقيقة الدين ، فطمعوا أن تلهيهم الصلاة عن الاستعداد لأعدائهم ، فنبه الله المؤمنين إلى ذلك كيلا يكونوا عند ظن المشركين ، وليعودهم بالأخذ بالحزم في كل الأمور ، وليريهم أن صلاح الدين والدنيا صنوان .

والأسلحة جمع سلاح ، وهو اسم جنس لآلة الحرب كلها من الحديد ، وهي السيف والرمح والنبل والحربة ، وليس الدرع ولا الخوذة ولا الترس بسلاح . وهو يذكر ويؤنث ، والتذكير أفصح ، ولذلك جمعوه على أسلحة وهو من زنات جمع المذكر .

والأمتعة جمع متاع وهو كل ما ينتفع به من عروض وأثاث ، ويدخل في ذلك ما له عون في الحرب كالسروج ولأمة الحرب كالدروع والخوذات . فيميلون مفرع عن قوله لو تغفلون إلخ ، وهو محل الود ، أي ودوا غفلتكم ليميلوا عليكم . والميل : العدول عن الوسط إلى الطرف ، ويطلق على العدول عن شيء كان معه إلى شيء آخر ، كما هنا ، أي فيعدلون عن معسكرهم إلى جيشكم . ولما كان المقصود من الميل هنا الكر والشد ، عدي بـ ( على ) ، أي فيشدون عليكم في حال غفلتكم .

وانتصب ميلة على المفعولية المطلقة لبيان العدد ، أي شدة مفردة . واستعملت صيغة المرة هنا كناية عن القوة والشدة ، وذلك أن الفعل الشديد القوي يأتي بالغرض منه سريعا دون معاودة علاج ، فلا يتكرر الفعل لتحصيل الغرض ، وأكد معنى المرة المستفاد من صيغة فعلة بقوله واحدة تنبيها على قصد معنى الكناية لئلا يتوهم أن المصدر لمجرد التأكيد لقوله فيميلون .

[ ص: 188 ] وقوله ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر إلخ . رخصة لهم في وضع الأسلحة عند المشقة ، وقد صار ما هو أكمل في أداء الصلاة رخصة هنا ، لأن الأمور بمقاصدها وما يحصل عنها من المصالح والمفاسد ، ولذلك قيد الرخصة مع أخذ الحذر . وسبب الرخصة أن في المطر شاغلا للفريقين كليهما ، وأما المرض فموجب للرخصة لخصوص المريض .

وقوله إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا تذييل لتشجيع المسلمين; لأنه لما كرر الأمر بأخذ السلاح والحذر ، خيف أن تثور في نفوس المسلمين مخافة من العدو من شدة التحذير منه ، فعقب ذلك بأن الله أعد لهم عذابا مهينا ، وهو عذاب الهزيمة والقتل والأسر ، كالذي في قوله قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ، فليس الأمر بأخذ الحذر والسلاح إلا لتحقيق أسباب ما أعد الله لهم ، لأن الله إذا أراد أمرا هيأ أسبابه . وفيه تعليم المسلمين أن يطلبوا المسببات من أسبابها ، أي إن أخذتم حذركم أمنتم من عدوكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية