الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 395 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى : ( واختلف أصحابنا في بيع العسل المصفى بالنار بعضه ببعض ، فمنهم من قال : لا يجوز ; لأن النار تعقد أجزاءه فلا يعلم تساويهما ، ومنهم من قال : يجوز ، وهو المذهب ; لأن نار التصفية نار لينة لا تعقد الأجزاء إنما تميزه من الشمع ، فصار كالعسل المصفى بالشمس ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) العسل إذا أطلقه فالمراد به عسل النحل لا غير ، فكل ما يتخذ من تمر أو قصب أو حب جنس آخر يجوز بيعه بعسل النحل متماثلا ومتفاضلا ، قال ابن سيده : العسل لعاب النحل يذكر ويؤنث ، الواحدة عسلة ، وجمعه أعسال وعسل وعسول وعسلان إذا أردت أنواعه ، قال الشافعي رحمه الله - في المختصر تلو الكلام السابق : ولا يباع عسل نحل بعسل نحل إلا مصفيين من الشمع ; لأنهما لو بيعا وزنا وفي أحدهما شمع وهو غير العسل كان العسل بالعسل غير معلوم ، وكذلك لو بيعا كيلا . وكذلك ذكر في الأم ، وقال : وكذلك لو باعه وفي كل واحد منهما شمع ، وقال الشافعي في الأم : فعسل النحل المنفرد بالاسم دون ما سواه من الحلو ، وقال : فلا بأس بالعسل بعصير قصب السكر ، منه لا يسمى عسلا إلا على ما وصفت ، يعني من جهة كونه حلوا كالعسل ، وكذلك قال الشيخ أبو حامد في عسل الطبرزد .

                                      وقال : وهو ما يبقى من السكر ثخينا كالعكر فيجوز بيعه بعسل النحل متفاضلا ، وقال القاضي أبو الطيب عسل الطبرزد أن يطبخ السكر ثم يطرح في إجانة فإذا جمد أميلت الإجانة على جانبها ، فخرج منها العسل ، فيجوز بيعه بعسل النحل متفاضلا ، ولا يجوز بيع عسل الطبرزد بعسل القصب متفاضلا ; لأنهما جنس واحد ، وهل يجوز متماثلا ؟ فيه وجهان لأجل الطبخ ، كما في السكر بالسكر حكاهما القاضي أبو الطيب وغيره ، ووجه الجواز أن ناره خفيفة .

                                      وحمل القول في بيع عسل النحل بعضه ببعض أنه إما أن يباع بشمعه أو لا ، فإن بيع بشمعه فلا يجوز بمثله ولا بالصافي ، وقد تقدم ذلك في قاعدة ( مد عجوة ) وتقدم الفرق بينه وبين اللحم وفيه العظم ، وبين التمر وفيه النوى من وجهين : أن بقاء ذلك من مصلحته بخلاف الشمع . و ( الثاني ) أن الشمع له قيمة ، وأن بيع العسل المصفى بمثله ، فإما أن تكون التصفية [ ص: 396 ] بالشمس أو بالنار ، فإن صفي بالشمس فإن ترك فيها حتى ذاب وتميز الشمع من العسل جاز بيع بعضه ببعض ، قاله الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والمحاملي وغيرهم ، ولا خلاف في ذلك ، وإن صفي بالنار فإما أن تكون النار كثيرة بحيث تأخذ منه وينعقد بها ، وإما أن تكون خفيفة بحيث يحميه بها ويصفيه من غير كثرة ، فإن كانت كثيرة أو ترك حتى انعقدت أجزاؤه وثخن لم يجز بيع بعضه ببعض كما تقدم في الدبس والزيت وشبههما ، وإن كانت خفيفة بحيث أذيب وأخذ أول ما ذاب قبل أن تنعقد أجزاؤه - جزم الشيخ أبو حامد والمحاملي والجرجاني بالجواز : هذه طريقة الشيخ أبي حامد وتبعه المحاملي والجرجاني عليها ، وأما القاضي أبو الطيب فإنه قال : إن صفي بالنار اختلف أصحابنا فيه كما قال المصنف سواء حكما وتعليلا وأطلق القول في ذلك ، وكذلك الماوردي والبغوي والرافعي .

                                      وقال القاضي حسين : إن قول المنع مخرج من قول الشافعي : لا يجوز السلم في العسل المصفى بالنار ، ورد القاضي ذلك بأن السلم امتنع ; لأنه تعيب بدخول النار فيه ، والسلم في المعيب لا يجوز ، وكذلك الفوراني رد ذلك بمثل ما قال القاضي حسين ، ( وأظهر ) الوجهين عند الرافعي الجواز ، ونسبه الماوردي إلى سائر أصحابنا وهو الأصح عند ابن الصباغ والقاضي حسين .

                                      ( وقال ) الروياني : إنه المذهب ; لأن المقصود من عصره تميز الشمع عنه ، ونار التمييز لينة لا تؤثر في التعقيد ، فأشبه المصفى بالشمس ، وممن صحح الجواز ابن أبي عصرون وصاحب التتمة ، وهو الذي يقتضيه كلام الفوراني ، فإنه أطلق الجواز ، ثم ذكر عن بعض الأصحاب أنه فصل بين المصفى بالشمس والمصفى بالنار قال : وهذا ليس بشيء ، كما رجحه الفوراني وحكاهما : الوجهان اللذان في الكتاب ، ويشبه أن يكون هذان الوجهان منزلين على ما ذكره الشيخ أبو حامد من التفصيل . ويكون ذلك تحقيق مناط ، هل حصل نقص أو لا ؟ والله أعلم .

                                      وفرق الماوردي بين العسل والزيت المغلي - حيث لا يجوز بيع الزيت المغلي بعضه ببعض - بأن النار دخلت في العسل بالصلاح وتمييزه من شمعه فلم تأخذ [ ص: 397 ] من أجزاء العسل شيئا ، وكذلك السمن ، وإنما تأخذ النار فيما يدخل فيه الانعقاد واجتماع أجزائه ، قال : حتى لو أن العسل المصفى أغلي بالنار لم يجز بيع بعضه ببعض ; لأن النار إذن لم تميزه من غيره .



                                      ( واعلم ) أن المصنف تكلم أولا في المعروض على النار عرض عقد وطبخ كاللحم والدبس ، وما أشبه ذلك ، وقد تقدم شرحه ، وهذا القسم في المعروض على النار للتمييز والتصفية ، وذكر من أمثلة ذلك ما هو مختلف فيه ، وهو العسل الذي غاب شوبه وبقي السكر ، وسيأتي ، وقد يكون منه ما لا خلاف فيه ، فلم يتعرض المصنف له كالذهب والفضة يعرضان على النار لتمييز الغش ولا خلاف في جواز بيع بعضها ببعض ، وقال ابن الرفعة الذهب والفضة إذا دخلا النار لا يمتنع بيع بعضهما ببعض ; لأنها لا تؤثر في حرمتها ، نعم لو خالطهما غش فأدخلا النار لتخلصه ، فقد يقال بامتناع بيع البعض بالبعض ; لأنها قد تؤثر في إخراجه في أحدهما أكثر مما تؤثر في الآخر ، وقد يقال بأنه يجوز ; لأن لأهل الصناعة في ذلك خبرة لا تحرقه ، ولا تغلبهم النار عليها بخلافها في السكر ونحوه .

                                      ( قلت ) : وإطلاق الأصحاب يقتضي الجواز وإن لم يفصلوا هذا التفصيل بل في تصريحهم بالعرض لتميز الغش ما يدل لما قاله من النظر . والله أعلم .



                                      وتقييد المصنف المصفى بالنار وقياسه على المصفى بالشمس يدل على أن المصفى بالشمس يجوز بيع بعضه ببعض ، والأمر كذلك بلا خلاف ، قال الإمام : فإن قيل : إذا صفي العسل بشمس الحجاز فقد يكون أثر الشمس في تلك البلاد بالغا مبلغ النار ، فإنا نرى شرائح اللحم تعرض على رمضاء الحجارة فتنش نشيشا على الجمر ، قلنا : هذا فيه احتمال ، ( والأظهر ) جواز البيع ، وأن أثر الشمس فيما أظن لا يتفاوت ، وإنما يتفاوت أثر النار لاضطرامها وقوتها وبعدها من المرجل ، والتعويل على تفاوت الأثر ، بدليل أنه لو أغلى ما على النار أو خل ثقيف لم يمتنع بيع بعضها ببعض ، فإن النار لا تؤثر [ ص: 398 ] في هذه الأجناس بتعقيد حتى يعرض فيها التفاوت فيزيل بعض الأجزاء ويبقى الباقي على استواء ، وقد قال ابن الرفعة في الكفاية : ذهب بعض أصحابنا إلى أنه إن صفي بها يعني الشمس في البلاد المعتدلة الحر لا يجوز بيعه بما صفي بها في البلاد الشديدة الحر ، قال : محكي وليس بشيء .



                                      ( فرع ) إن منعنا بيع المصفى بالنار بمثله فلا شك أنه يمتنع بيعه بغيره من أنواع العسل ، وممن صرح به الجرجاني ; لأن النار إذا عقدت أجزاء أحدهما أدى إلى التفاضل ، أما إذا قلنا بجواز بيع العسل المصفى بالنار بمثله فهل يجوز بيعه بالمصفى بالشمس ؟ : قال ابن الرفعة : فيه نظر ; لأن النار قد يتقارب تفاوتها ويتباعد ما بينه وبين الشمس . ( قلت : ) والذي يظهر الجواز ; لأنا إنما نجوزه بناء على أن النار لطيفة تميز ولا تعقد الأجزاء وإذا كان كذلك فلا أثر لها في التماثل ، فلا فرق بين ذلك وبين المصفى بالشمس .



                                      ( التفريع ) حيث قلنا بجواز بيع العسل بالعسل ، إما أن يكون مصفى بالشمس ، وإما بالنار اللطيفة على الصحيح فيما تعتبر المماثلة فيه ، قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الصرف : والعسل بالعسل كيلا بكيل إن كان يباع كيلا ، أو وزنا بوزن إن كان يباع وزنا ، وقال في موضع آخر : العسل والسمن والسكر الوزن فيهما أحوط ، فالظاهر في هذا أنه موزون وعده في الرسالة في باب الاجتهاد مع الزيت والسمن والسكر من الموزونات ، فلذلك قال أبو الطيب : إنه المنصوص عليه ، وقد تقدم في أول الكلام قوله في المختصر ; لأنهما لو بيعا وزنا إلى آخره .

                                      وقال أبو إسحاق : لا يباع إلا كيلا بكيل ، وقد تقدم التعرض لشيء من ذلك ، وقال الرافعي : هو كالسمن ، والأمر كما قال وهما جميعا موزونان خلافا لأبي إسحاق كما تقدم ، وقد حمل الروياني قول الشافعي المذكور في الصرف على التوقف فيه ، قال : وقيل : أراد الشافعي بقوله : أنهما لو بيعا وزنا إذا انعقد ببرد الهواء وغلظ لا يمكن كيله ، فيباع حينئذ وزنا ، فأما إذا أمكن كيله فلا يباع إلا كيلا ، قال : وهو قريب من قول أبي إسحاق . ( والمذهب ) المنصوص ما تقدم .

                                      [ ص: 399 ] واعترض الأصحاب على المزني في قوله : لأنهما لو بيعا وزنا وفي أحدهما شمع ، وهو غير العسل ، كان العسل تارة غير معلوم ، قالوا : لأنه والحالة هذه معلوم المفاضلة ، فلا معنى لقوله : غير معلوم .

                                      وإنما يستقيم هذا التعليل في الشهد بالشهد ; لأنهما بما فيهما من الشمع غير معلومي المماثلة ، قالوا : والشافعي ذكر هذا التعليل هناك فاشتبهت إحدى المسألتين بالأخرى .

                                      وذكر الروياني أيضا أن قوله في المختصر يدل على تصحيح أحد الوجوه فيما لم يعلم معياره ، يعني الوجه القائل بالتخير ، وقد تقدم . وقال ابن داود لما ذكر كلام الشافعي : فيه كالدليل على أنه يجوز كيلا تارة ، ووزنا أخرى ، قال : وهذا غريب قلما يوجد له نظير . ( قلت : ) وليس الأمر كما زعم بل المراد التوقف كما تقدم ، والله سبحانه وتعالى أعلم .



                                      ( فرع ) قال صاحب التهذيب : عسل الرطب وهو رب يسيل منه يجوز بيع بعضه ببعض متساويين في الكيل ، ويجوز بيعه بعسل النحل متفاضلا ، وجزافا ، يدا بيد ; لأنهما جنسان مختلفان كما يجوز بيع العسل بالدبس .




                                      الخدمات العلمية