الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الأجوبة عما رمي به:

قلت: أما ما رمي به من التدليس والقدر والتشيع فلا يوجب رد روايته ولا يوقع فيها كبير وهن. أما التدليس فمنه القادح في العدالة وغيره ولا يحمل ما وقع ها هنا من مطلق التدليس على التدليس المقيد بالقادح في العدالة. وكذلك القدر والتشيع لا يقتضي الرد إلا بضميمة أخرى ولم نجدها ها هنا.

وأما قول مكي بن إبراهيم أنه ترك حديثه ولم يعد إليه، فقد علل ذلك بأنه سمعه يحدث أحاديث في الصفات فنفر منه، وليس في ذلك كبير أمر، فقد ترخص قوم من السلف في رواية المشكل من ذلك وما يحتاج إلى تأويله، لا سيما إذا تضمن الحديث حكما أو أمرا آخر، وقد تكون هذه الأحاديث من هذا القبيل.

وأما الخبر عن يزيد بن هارون أنه حدث أهل المدينة عن قوم فلما حدثهم عنه أمسكوا، فليس فيه ذكر ما يقتضي الإمساك، وإذا لم يذكر لم يبق إلا أن يحول الظن فيه، وليس لنا أن نعارض عدالة مقبولة بما قد نظنه جرحا.

وأما ترك يحيى القطان حديثه; فقد ذكرنا السبب في ذلك وتكذيبه إياه: روايته عن وهيب بن خالد ، عن مالك ، عن هشام، فهو ومن فوقه في هذا الإسناد تبع لهشام، وليس ببعيد من أن يكون ذلك هو المنفر لأهل المدينة عنه في الخبر السابق عن يزيد بن هارون، وقد تقدم الجواب عن قول هاشم فيه عن أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني بما فيه مغنى.

وأما قول ابن نمير أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة; فلو لم ينقل توثيقه وتعديله لتردد الأمر في التهمة بها بينه وبين من نقلها عنه، وأما مع التوثيق والتعديل فالحمل فيها على المجهولين المشار إليهم لا عليه، وأما الطعن على العالم بروايته عن المجهولين فغريب، [ ص: 64 ] قد حكي ذلك عن سفيان الثوري وغيره، وأكثر ما فيه التفرقة بين بعض حديثه وبعض، فيرد ما رواه عن المجهولين ويقبل ما حمله على المعروفين. وقد روينا عن أبي عيسى الترمذي: سمعت محمد بن بشار يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ألا تعجبون من سفيان بن عيينة: لقد تركت لجابر الجعفي - لما حكى عنه - أكثر من ألف حديث. ثم هو يحدث عنه؟! قال الترمذي: وقد حدث شعبة ، عن جابر الجعفي ، وإبراهيم الهجري ، ومحمد بن عبيد الله العرزمي وغير واحد ممن يضعف في الحديث.

وأما قول أحمد يحدث عن جماعة بالحديث الواحد ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا. فقد تتحد ألفاظ الجماعة وإن تعددت أشخاصهم، وعلى تقدير أن لا يتحد اللفظ فقد يتحد المعنى. روينا عن واثلة بن الأسقع قال: إذا حدثتكم على المعنى فحسبكم. وروينا عن محمد بن سيرين قال: كنت أسمع الحديث من عشرة، اللفظ مختلف والمعنى واحد. وقد تقدم من كلام ابن المديني أن حديثه ليتبين فيه الصدق يروي مرة حدثني أبو الزناد ومرة ذكر أبو الزناد الفصل، إلى آخره: ما يصلح لمعارضة هذا الكلام. واختصاص ابن المديني ، بسفيان معلوم كما علم اختصاص سفيان ، بمحمد بن إسحاق. وأما قوله: كان يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه. فلا يتم الجرح بذلك حتى ينفي أن تكون مسموعة له، ويثبت أن يكون حدث بها. ثم ينظر بعد ذلك في كيفية الإخبار، فإن كان بألفاظ لا تقتضي السماع تصريحا فحكمه حكم المدلسين، ولا يحسن الكلام معه إلا بعد النظر في مدلول تلك الألفاظ. وإن كان يروي ذلك عنهم مصرحا بالسماع ولم يسمع، فهذا كذب صراح واختلاق محض لا يحسن الحمل عليه إلا إذا لم نجد للكلام مخرجا غيره. وأما قوله: لا يبالي عمن يحكي عن الكلبي وغيره. فهو أيضا إشارة إلى الطعن بالرواية عن الضعفاء; لمحل ابن الكلبي من التضعيف. والراوي عن الضعفاء لا [ ص: 65 ] يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يصرح باسم الضعيف أو يدلسه; فإن صرح به فليس فيه كبير أمر، يروي عن شخص ولم يعلم حاله، أو علم وصرح به ليبرأ من العهدة. وإن دلسه: فإما أن يكون عالما بضعفه أو لا، فإن لم يعلم فالأمر في ذلك قريب، وإن علم به وقصد بتدليس الضعيف وتغييره وإخفائه ترويج الخبر حتى يظن أنه من أخبار أهل الصدق وليس كذلك، فهذه جرحة من فاعلها وكبيرة من مرتكبها، وليس في أخبار أحمد ، عن ابن إسحاق ما يقتضي روايته عن الضعيف وتدليسه إياه مع العلم بضعفه حتى ينبني على ذلك قدح أصلا. وجواب ثان: محمد بن إسحاق مشهور بسعة العلم وكثرة الحفظ، فقد يميز من حديث الكلبي وغيره مما يجري مجراه: ما يقبل مما يرد; فيكتب ما يرضاه ويترك ما لا يرضاه. وقد قال يعلى بن عبيد: قال لنا سفيان الثوري: اتقوا الكلبي. فقيل له: فإنك تروي عنه؟ قال: أنا أعرف صدقه من كذبه. ثم غالب ما يروى عن الكلبي أنساب وأخبار من أحوال الناس وأيام العرب وسيرهم وما يجري مجرى ذلك مما سمح كثير من الناس في حمله عمن لا تحمل عنه الأحكام، وممن حكي عنه الترخص في ذلك الإمام أحمد، وممن حكى عنه التسوية في ذلك بين الأحكام وغيرها يحيى بن معين، وفي ذلك بحث ليس هذا موضعه.

التالي السابق


الخدمات العلمية