الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 39 ] 5 - باب بيان مشكل ما روي عن النبي عليه السلام في نهيه أبا ذر أن يتولى قضاء بين اثنين وأن يؤوي أمانة

46 - حدثنا يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه ، عن أبي المثنى { ، عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله عليه السلام ستة أيام : اعقل يا أبا ذر ما أقول لك ، ثم لما كان في اليوم السابع ، قال : أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيتك ، وإذا أسأت ؛ فأحسن ، ولا تسلن أحدا ، وإن سقط سوطك ، ولا تؤوين أمانة ، ولا تؤوين يتيما ، ولا تقضين بين اثنين } .

فكان في هذا الحديث نهيه أبا ذر عما نهاه عنه ، وقد كان عليه السلام استعمل على القضاء علي بن أبي طالب .

[ ص: 40 ] فعقلنا بذلك أنه لم يستعمله على عمل مكروه ، وأنه لم يدخله في معنى ينقص به رتبته عما هي عليه ، بل ما أدخله إلا في معنى يكون زائدا في رتبته ، وفي معنى يكون سببا لما يقربه من ربه تعالى .

وروي مما كان منه إلى علي في ذلك لما بعثه على ما ولاه عليه ، منه .

47 - ما قد حدثنا أبو أمية ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا شيبان النحوي ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن حبشي { عن علي ، قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فقلت : يا رسول الله ، إنك تبعثني إلى قوم شيوخ ذوي سن ، وإني أخاف أن لا أصيب ، فقال : إن الله يثبت لسانك ، ويهدي قلبك } .

48 - وما قد حدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا شريك ، وزائدة ، وسليمان بن معاذ ، كلهم عن سماك بن حرب ، عن حنش - وهو ابن المعتمر - عن علي قال : قال لي رسول الله عليه السلام : { إذا تقاضى إليك الرجلان ، فلا تقض للأول حتى تسمع ما يقول الآخر ، فإنك إذا سمعت ذلك عرفت كيف تقضي } ، قال علي : فما زلت قاضيا بعد .

[ ص: 41 ] وزاد سليمان أن النبي عليه السلام قال لعلي في هذا الحديث : { إن الله يثبت لسانك ، ويهدي قلبك } .

49 - وما قد حدثنا فهد ، حدثنا أبو غسان النهدي ، حدثنا إسرائيل بن يونس ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب { عن علي قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فقلت : إنك بعثتني إلى قوم أسن مني ، فكيف أقضي ؟ قال : اذهب فإن الله يهدي قلبك ، ويثبت لسانك } .

50 - وما حدثنا فهد ، حدثنا ابن الأصبهاني محمد بن سعيد ، حدثنا شريك ، عن سماك ، عن حنش قال : { قال علي : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، وأنا حديث السن ، فقلت : بعثتني وأنا حديث السن ، ولا علم لي بالقضاء ، فقال : إن الله هادي قلبك ولسانك ، فإذا جلس إليك الخصمان ، فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر ، قال : فما شككت في قضاء بعد } .

قال أبو جعفر : فاستحال عندنا - والله أعلم - أن يكون [ ص: 42 ] رسول الله عليه السلام أدخل عليا إلا فيما زاد في رتبته ، وفي جلالة مقداره ، وفيما يقربه من ربه تعالى .

ومما يدخل في توكيد ما ذكرنا :

51 - ما حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري ، وبكر بن إدريس الأزدي ، قالا : حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، حدثنا حيوة بن شريح ، حدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، عن عمرو أن رسول الله عليه السلام قال : { إذا حكم الحاكم ، واجتهد ، ثم أصاب ، فله أجران ، وإذا حكم ، واجتهد ، ثم أخطأ ، فله أجر } ، قال : فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن حزم ، فقال : هكذا حدثني أبو سلمة ، عن أبي هريرة .

[ ص: 43 ]

52 - وما حدثنا محمد بن خزيمة ، وفهد ، قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني أبو الزناد ، ثم ذكر بإسناده مثله .

53 - وما قد أخبرنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا إسحاق بن منصور - يعني الكوسج - أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي عليه السلام مثله .

54 - وما حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، حدثنا أصبغ بن الفرج ، حدثنا حاتم بن إسماعيل ، حدثني شريك ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن ابن بريدة عن أبيه ، عن رسول الله عليه السلام ، قال : { القضاة ثلاثة : فقاضيان في النار ، وقاض في الجنة : قاض ترك الحق وهو يعلم ، وقاض قضى بغير الحق وهو لا يعلم ، فأهلك حقوق الناس ، فهذان في النار ، وقاض قضى بالحق فهو في الجنة } .

[ ص: 44 ]

55 - وما قد حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، حدثنا سعيد بن منصور ، وما حدثنا محمد بن علي بن داود ، حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي ، قالا : حدثنا خلف بن خليفة ، حدثنا أبو هاشم ، قال : لولا حديث ابن بريدة ، عن أبيه ، عن رسول الله عليه السلام أنه قال : { القضاة ثلاثة : اثنان في النار ، وواحد في الجنة : رجل عرف الحق ، وقضى به ، فهو في الجنة ، ورجل عرف الحق ، فلم يقض به ، وجار في الحكم ، فهو في النار ، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل ، فهو في النار } .

[ لقلنا : إن القاضي إذا اجتهد ، فليس عليه شيء ]
.

[ ص: 45 ] قال أبو جعفر : أفلا ترى ما في القضاء مما يكون سببا للجنة ، فذلك دليل على جلالة مقداره ، وعلى أن النبي عليه السلام لم يمنع أبا ذر منه للقضاء بعينه ، ولكن لمعنى سواه .

فالتمسنا ذلك المعنى ما هو . ؟

56 - فوجدنا يزيد بن سنان ، وعلي بن شيبة ، وإبراهيم بن منقذ العصفري ، وموسى بن النعمان المكي قد حدثونا عن المقرئ ، عن سعيد بن أبي أيوب حدثني ، عن عبيد الله بن أبي جعفر القرشي ، عن سالم بن أبي سالم الجيشاني ، عن أبيه ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يا أبا ذر ، إني أحب لك ما أحب لنفسي ، وإني أراك ضعيفا ، فلا تأمرن على اثنين ، ولا تلين مال يتيم } .

فوقفنا بهذا الحديث على المعنى الذي به نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر عما نهاه عنه في الحديث الأول ، وإنه لمعنى فيه نقص به عن رتبة القضاء مما كان ضده في علي بن أبي طالب مما استحق به ولاية القضاء .

57 - ووجدنا يوسف بن يزيد بن كامل القرشي قد حدثنا ، قال : حدثنا أبو صالح ، حدثني الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن بكر بن عمرو ، عن الحارث بن يزيد الحضرمي ، عن ابن حجيرة الأكبر ، [ ص: 46 ] عن أبي ذر ، قال : { قلت : يا رسول الله ، ألا تستعملني ؟ قال : فضرب بيده على منكبي ، ثم قال : يا أبا ذر ، إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها } .

فوقفنا بهذا أيضا أنها على المعنى الذي من أجله كره رسول الله عليه السلام لأبي ذر ما كرهه له في الحديث الأول .

ووقفنا بقول رسول الله عليه السلام الذي ذكرناه عنه في هذا الحديث ، وهو : { إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها } ، أن من كان كذلك ، فليس ممن لحقه في ذلك نهي ، ولا لحقته فيه كراهة ، وأن الكراهة لذلك إنما تلحق المتعرضين له ، الطالبين لولايته .

ومما قد روي في توكيد هذا المعنى :

58 - ما قد حدثنا أبو بكرة ، حدثنا حسين بن حفص الأصبهاني ، حدثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل - وهو ابن أبي خالد - عن أخيه ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى قال : قدم على النبي عليه السلام رجلان من [ ص: 47 ] الأشعريين ، فخطبا ، ثم تعرضا للعمل ، فقال : « إن أخونكم عندي من طلبه ، فعليكما بتقوى الله تعالى » .

59 - وما قد حدثنا أحمد بن الحسن بن القاسم الكوفي أبو الحسين ، حدثنا إسماعيل ابن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن عبد الرحمن بن سمرة ، قال : قال لي رسول الله عليه السلام : « يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة ؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها » .

[ ص: 48 ] قال أبو جعفر : وفيما قد ذكرت ما قد وضح به جميع ما رويناه عن رسول الله عليه السلام في هذا الباب بالحديث الأول الذي رويناه عنه فيه نهيه أبا ذر عما نهاه عنه ، وفي الأحاديث التي رويناها بعده مما فيه نفي ذلك النهي عن سواه ممن به القوة على ما يتولاه من ذلك .

فبان بما ذكرنا أن لا تضاد في شيء مما ذكرناه في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن معانيه قد اتضحت ملتئمة باينة لمعاينها على ما ذكرناه فيه . والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية