الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        في الحد أيضا معنى آخر مما ينظر فيه ، وهو أن البدعة من حيث قيل فيها : " إنها طريقة في الدين مخترعة " إلى آخره ، يدخل في عموم لفظها البدعة التركية ، كما يدخل فيه البدعة غير التركية .

                        فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريما للمتروك أو غير تحريم ، فإن الفعل مثلا يكون حلالا بالشرع ، فيحرمه الإنسان على نفسه أو يقصد تركه قصدا .

                        فبهذا الترك; إما أن يكون لأمر يعتبر مثله شرعا أو لا .

                        فإن كان لأمر يعتبر ، فلا حرج فيه ، إذ معناه أنه ترك ما يجوز تركه أو ما يطلب بتركه ، كالذي يحرم على نفسه الطعام الفلاني من جهة أنه يضره في جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك ، فلا مانع هنا من الترك ، بل إن قلنا بطلب التداوي للمريض; فإن الترك هنا مطلوب ، وإن قلنا بإباحة التداوي; فالترك مباح .

                        فهذا راجع إلى العزم على الحمية من المضرات ، وأصله قوله عليه [ ص: 58 ] الصلاة والسلام : يا معشر الشباب ! من استطاع منكم الباءة فليتزوج إلى أن قال : ومن لم يستطع فعليه بالصوم الذي يكسر من شهوة الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة ، فيصير إلى العنت .

                        وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس; فذلك من أوصاف المتقين ، وكتارك المتشابه حذرا من الوقوع في الحرام ، واستبراء للدين والعرض .

                        وإن كان الترك لغير ذلك; فإما أن يكون تدينا أو لا .

                        فإن لم يكن تدينا; فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك ، ولا يسمى هذا الترك بدعة ، إذ لا يدخل تحت لفظ الحد; إلا على الطريقة الثانية القائلة : إن البدعة تدخل في العادات ، وأما على الطريقة الأولى; فلا تدخل ، لكن هذا التارك يصير عاصيا بتركه أو باعتقاده التحريم فيما أحل الله .

                        وأما إن كان الترك تدينا ، فهو الابتداع في الدين على كلتا الطريقتين ، إذ قد فرضنا الفعل جائزا شرعا ، فصار الترك المقصود معارضة للشارع في شرع التحليل .

                        وفي مثله نزل قول الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) ، [ ص: 59 ] فنهى أولا عن تحريم الحلال ، ثم جاءت الآية تشعر بأن ذلك اعتداء ، لا يحبه الله .

                        وسيأتي للآية تقرير إن شاء الله .

                        لأن بعض الصحابة هم أن يحرم على نفسه النوم بالليل ، وآخر الأكل بالنهار ، وآخر إتيان النساء ، وبعضهم هم بالاختصاء ، مبالغة في ترك شأن النساء ، وفي أمثال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : من رغب عن سنتي فليس مني .

                        فإذا كل من منع نفسه من تناول ما أحل الله من غير عذر شرعي ، فهو خارج عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم . والعامل بغير السنة تدينا ، هو المبتدع بعينه .

                        فإن قيل : فتارك المطلوبات الشرعية ندبا أو وجوبا ، هل يسمى مبتدعا أم لا ؟ .

                        فالجواب : أن التارك للمطلوبات على ضربين :

                        أحدهما : أن يتركها لغير التدين : إما كسلا ، أو تضييعا ، أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية; فهذا الضرب راجع إلى المخالفة للأمر ، فإن كان في واجب فمعصية; وإن كان في ندب ، فليس بمعصية إذا كان الترك جزئيا ، وإن كان كليا فمعصية حسبما تبين في الأصول .

                        والثاني : أن يتركها تدينا; فهذا الضرب من قبيل البدع ، حيث تدين [ ص: 60 ] بضد ما شرع الله ، ومثاله أهل الإباحة القائلون بإسقاط التكاليف إذا بلغ السالك عندهم المبلغ الذي حدوه .

                        فإذا قوله في الحد : " طريقة مخترعة تضاهي الشرعية " ; يشمل البدعة التركية ، كما يشمل غيرها; لأن الطريقة الشرعية أيضا تنقسم إلى ترك وغيره .

                        وسواء علينا قلنا : إن الترك فعل ، أم قلنا : إنه نفي الفعل ، على الطريقتين المذكورتين في أصول الفقه .

                        وكما يشمل الحد الترك يشمل أيضا ضد ذلك .

                        وهو ثلاثة أقسام : قسم الاعتقاد ، وقسم القول ، وقسم الفعل ، فالجميع أربعة أقسام .

                        وبالجملة ، فكل ما يتعلق به الخطاب الشرعي ، يتعلق به الابتداع .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية