الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                                                                                        وإذا كان القرآن بهذه المنزلة من الإعجاز في نظمه ومعانيه، احتاجت ألفاظه [ ص: 34 ]

                                                                                                                                                                                                                                        في استخراج معانيها إلى زيادة التأمل لها وفضل الروية فيها، ولا يقتصر فيها على أوائل البديهة، ولا يقنع فيها بمبادئ الفكرة، ليصل بمبالغة الاجتهاد وإمعان النظر إلى جميع ما تضمنته ألفاظه من المعاني واحتملته من التأويل، لأن للكلام الجامع وجوها، قد تظهر تارة، وتغمض أخرى، وإن كان كلام الله منزها من الآفتين: الفكر والروية، ليعمل فيما احتملته ألفاظه من المعاني المختلفة، غير ما سنصفه من الأصل المعتبر في اختلاف التأويل عند احتمال وجوده.

                                                                                                                                                                                                                                        وقد روى سهل بن مهران الضبعي عن أبي عمران الجوني، عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ " فتمسك فيه بعض المتورعة ممن قلت في العلم طبقته، وضعفت فيه خبرته، واستعمل هذا الحديث على ظاهره وامتنع أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده، عند وضوح شواهده، إلا أن يرد بها نقل صحيح، ويدل عليها [ ص: 35 ]

                                                                                                                                                                                                                                        نص صريح، وهذا عدول عما تعبد الله تعالى به خلقه في خطابهم بلسان عربي مبين، قد نبه على معانيه ما صرح من اللغز والتعمية، التي لا يوقف عليها إلا بالمواضعة إلى كلام حكيم، أبان عن مراده، وقطع أعذار عباده، وجعل لهم سبلا إلى استنباط أحكامه، كما قال الله تعالى: لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولو كان ما قالوه صحيحا، لكان كلام الله غير مفهوم، ومراده بخطابه غير معلوم، ولصار كاللغز المعمى، فبطل الاحتجاج به، وكان ورود النص على تأويله، مغنيا عن الاحتجاج بتنزيله، وأعوذ بالله من قول في القرآن يؤدي إلى التوقف عنه، ويؤول إلى ترك الاحتجاج به.

                                                                                                                                                                                                                                        ولهذا الحديث - إن صح - تأويل، معناه: أن من حمل القرآن على رأيه، ولم يعمل على شواهد ألفاظه، فأصاب الحق، فقد أخطأ الدليل.

                                                                                                                                                                                                                                        وقد روى محمد بن عثمان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه ". وفي قوله: " ذلول " تأويلان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أنه مطيع لحامليه، حتى تنطلق فيه جميع الألسنة.

                                                                                                                                                                                                                                        والثاني: أنه موضح لمعانيه، حتى لا تقصر [عنه] أفهام المجتهدين فيه.

                                                                                                                                                                                                                                        وفي قوله: " ذو وجوه " تأويلان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أن ألفاظه تحمل من التأويل وجوها لإعجازه.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه قد جمع من الأوامر، والنواهي، والترغيب، والتحليل، والتحريم.

                                                                                                                                                                                                                                        وفي قوله: " فاحملوه على أحسن وجوهه " تأويلان: [ ص: 36 ]

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أن تحمل تأويله على أحسن معانيه.

                                                                                                                                                                                                                                        والثاني: أن يعمل بأحسن ما فيه، من العزائم دون الرخص، والعفو دون الانتقام، وهذا دليل على أن تأويل القرآن مستنبط منه.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية