[ ص: 24 ] - 3 - الوحي
nindex.php?page=treesubj&link=28857إمكانية الوحي ووقوعه
ازدهرت الحياة العلمية وبددت أشعتها كل ريبة كانت تساور الناس إلى عهد قريب فيما وراء المادة من روح ، وآمن العلم المادي الذي وضع جل الكائنات.
تحت التجربة والاختبار بأن هناك عالما غيبيا وراء هذا العالم المشاهد ، وأن عالم الغيب أدق وأعمق من عالم الشهادة ، وأكثر المخترعات الحديثة التي أخذت بألباب الناس تحجب وراءها هذا السر الخفي الذي عجز العلم عن إدراك كنهه وإن لاحظ آثاره ومظاهره ، وقرب هذا بعد الشقة بين التنكر للأديان والإيمان بها مصداقا لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=53سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=85وما أوتيتم من العلم إلا قليلا . .
فالبحوث النفسية الروحية لها في مضمار العلم الآن مكانتها ، ويساندها ويقربها إلى الأفهام تفاوت الناس في مداركهم وميولهم وغرائزهم ، فمن العقول العبقري الفذ الذي يبتكر كل جديد ، ومنها الغبي الذي يستعصي عليه إدراك بديهي الأمور ، وبين المنزلتين درجات . والنفوس كذلك ، منها الصافي المشرق ، والخبيث المعتم .
وجسم الإنسان يطوي وراءه روحا هي سر حياته ، وإذا كان الجسم تبلى ذراته وتفنى أنسجته وخلاياه ما لم يتناول قسطه من الغذاء ، فجدير بالروح أن يكون لها غذاء يمدها بالطاقة الروحية كي تحتفظ بمقوماتها وقيمها .
وليس ببعيد على الله تعالى أن يختار من عباده نفوسا لها من نقاء الجوهر وسلامة الفطرة ما يعدها للفيض الإلهي ، والوحي السماوي ، والاتصال بالملأ الأعلى ، ليلقي إليها برسالاته التي تسد حاجة البشر في رقي وجدانه ، وسمو أخلاقه ، واستقامة نظامه ، وهؤلاء هم رسله وأنبياؤه .
ولا غرابة في أن يكون هذا الاتصال بالوحي السماوي .
[ ص: 25 ] فالناس اليوم يشاهدون التنويم المغناطيسي ، وهو يوضح لهم أن اتصال النفس الإنسانية بقوة أعلى منها يحدث أثرا يقرب إلى الأفهام ظاهرة الوحي ; حيث يستطيع الرجل القوي الإرادة أن يتسلط بإرادته على من هو أضعف منه فينام نوما عميقا ، ويكون رهن إشارته ، ويلقنه ما يريد فيجري على قلبه ولسانه ، وإذا كان هذا فعل الإنسان بالإنسان فما ظنك بمن هو أشد منه قوة ؟ .
ويسمع الناس الأحاديث المسجلة التي تحملها اليوم موجات الأثير ، عابرة الوهاد والنجاد ، والسهول والبحار ، دون رؤية ذويها ، بل بعد وفاتهم .
وأصبح الرجلان يتخاطبان في الهاتف ، أحدهما في أقصى المشرق ، والآخر في أقصى المغرب ، وقد يتراءيان مع هذا التخاطب ، ولا يسمع الجالسون بجانبهما شيئا سوى أزيز كدوي النحل الذي في صفة الوحي .
ومن منا ليس له حديث نفس في يقظته أو منامه يدور في خلده دون أن يرى متكلما أمامه ؟
هذه وغيرها أمثلة تفسر لعقولنا
nindex.php?page=treesubj&link=29565حقيقة الوحي .
وقد شاهد الوحي معاصروه ، ونقل بالتواتر المستوفي لشروطه بما يفيد العلم القطعي إلى الأجيال اللاحقة ، ولمست الإنسانية أثره في حضارة أمته ، وقوة أتباعه ، وعزتهم ما استمسكوا به وانهيار كيانهم وخذلانهم ما فرطوا في جنبه ، مما لا يدع مجالا للشك في إمكان الوحي وثبوته ، وضرورة العودة إلى الاهتداء به إطفاء للظمأ النفسي بمثله العليا ، وقيمه الروحية .
ولم يكن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أول رسول أوحي إليه ، بل أوحى الله تعالى إلى الرسل قبله بمثل ما أوحى إليه :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=163إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=164ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما . .
[ ص: 26 ] فليس هناك في نزول الوحي على
محمد -صلى الله عليه وسلم- ما يدعو إلى العجب ، ولذا أنكر الله على العقلاء هذا في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=2أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين . .
[ ص: 24 ] - 3 - الْوَحْيُ
nindex.php?page=treesubj&link=28857إِمْكَانِيَّةُ الْوَحْيِ وَوُقُوعُهُ
ازْدَهَرَتِ الْحَيَاةُ الْعِلْمِيَّةُ وَبَدَّدَتْ أَشِعَّتُهَا كُلَّ رِيبَةٍ كَانَتْ تُسَاوِرُ النَّاسَ إِلَى عَهْدٍ قَرِيبٍ فِيمَا وَرَاءَ الْمَادَّةِ مِنْ رَوْحٍ ، وَآمَنَ الْعِلْمُ الْمَادِّيُّ الَّذِي وَضَعَ جُلَّ الْكَائِنَاتِ.
تَحْتَ التَّجْرِبَةِ وَالِاخْتِبَارِ بِأَنَّ هُنَاكَ عَالَمًا غَيْبِيًّا وَرَاءَ هَذَا الْعَالَمِ الْمُشَاهَدِ ، وَأَنَّ عَالَمَ الْغَيْبِ أَدَقُّ وَأَعْمَقُ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ ، وَأَكْثَرُ الْمُخْتَرَعَاتِ الْحَدِيثَةِ الَّتِي أَخَذَتْ بِأَلْبَابِ النَّاسِ تَحْجُبُ وَرَاءَهَا هَذَا السِّرَّ الْخَفِيَّ الَّذِي عَجَزَ الْعِلْمُ عَنْ إِدْرَاكِ كُنْهِهِ وَإِنْ لَاحَظَ آثَارَهُ وَمَظَاهِرَهُ ، وَقَرَّبَ هَذَا بُعْدُ الشَّقَّةِ بَيْنَ التَّنَكُّرِ لِلْأَدْيَانِ وَالْإِيمَانِ بِهَا مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=53سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=85وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا . .
فَالْبُحُوثُ النَّفْسِيَّةُ الرُّوحِيَّةُ لَهَا فِي مِضْمَارِ الْعِلْمِ الْآنَ مَكَانَتُهَا ، وَيُسَانِدُهَا وَيُقَرِّبُهَا إِلَى الْأَفْهَامِ تَفَاوُتُ النَّاسِ فِي مَدَارِكِهِمْ وَمُيُولِهِمْ وَغَرَائِزِهِمْ ، فَمِنَ الْعُقُولِ الْعَبْقَرِيُّ الْفَذُّ الَّذِي يَبْتَكِرُ كُلَّ جَدِيدٍ ، وَمِنْهَا الْغَبِيُّ الَّذِي يَسْتَعْصِي عَلَيْهِ إِدْرَاكُ بَدِيهِيِّ الْأُمُورِ ، وَبَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ دَرَجَاتٌ . وَالنُّفُوسُ كَذَلِكَ ، مِنْهَا الصَّافِي الْمُشْرِقُ ، وَالْخَبِيثُ الْمُعْتِمُ .
وَجِسْمُ الْإِنْسَانِ يَطْوِي وَرَاءَهُ رُوحًا هِيَ سِرُّ حَيَاتِهِ ، وَإِذَا كَانَ الْجِسْمُ تَبْلَى ذَرَّاتُهُ وَتَفْنَى أَنْسِجَتُهُ وَخَلَايَاهُ مَا لَمْ يَتَنَاوَلْ قِسْطَهُ مِنَ الْغِذَاءِ ، فَجَدِيرٌ بِالرُّوحِ أَنْ يَكُونَ لَهَا غِذَاءٌ يَمُدُّهَا بِالطَّاقَةِ الرُّوحِيَّةِ كَيْ تَحْتَفِظَ بِمُقَوِّمَاتِهَا وَقِيَمِهَا .
وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَخْتَارَ مِنْ عِبَادِهِ نُفُوسًا لَهَا مِنْ نَقَاءِ الْجَوْهَرِ وَسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ مَا يُعِدُّهَا لِلْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ ، وَالْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ ، وَالِاتِّصَالِ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى ، لِيُلْقِيَ إِلَيْهَا بِرِسَالَاتِهِ الَّتِي تَسُدُّ حَاجَةَ الْبَشَرِ فِي رُقِيِّ وِجْدَانِهِ ، وَسُمُوِّ أَخْلَاقِهِ ، وَاسْتِقَامَةِ نِظَامِهِ ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ رُسُلُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ .
وَلَا غَرَابَةَ فِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاتِّصَالُ بِالْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ .
[ ص: 25 ] فَالنَّاسُ الْيَوْمَ يُشَاهِدُونَ التَّنْوِيمَ الْمِغْنَاطِيسِيَّ ، وَهُوَ يُوَضِّحُ لَهُمْ أَنَّ اتِّصَالَ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِقُوَّةٍ أَعْلَى مِنْهَا يُحْدِثُ أَثَرًا يُقَرِّبُ إِلَى الْأَفْهَامِ ظَاهِرَةَ الْوَحْيِ ; حَيْثُ يَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ الْقَوِيُّ الْإِرَادَةِ أَنْ يَتَسَلَّطَ بِإِرَادَتِهِ عَلَى مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ فَيَنَامُ نَوْمًا عَمِيقًا ، وَيَكُونُ رَهْنَ إِشَارَتِهِ ، وَيُلَقِّنُهُ مَا يُرِيدُ فَيَجْرِي عَلَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِعْلَ الْإِنْسَانِ بِالْإِنْسَانِ فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً ؟ .
وَيَسْمَعُ النَّاسُ الْأَحَادِيثَ الْمُسَجَّلَةَ الَّتِي تَحْمِلُهَا الْيَوْمَ مَوْجَاتُ الْأَثِيرِ ، عَابِرَةُ الْوِهَادِ وَالنِّجَادِ ، وَالسُّهُولِ وَالْبِحَارِ ، دُونَ رُؤْيَةِ ذَوِيهَا ، بَلْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ .
وَأَصْبَحَ الرَّجُلَانِ يَتَخَاطَبَانِ فِي الْهَاتِفِ ، أَحَدُهُمَا فِي أَقْصَى الْمَشْرِقِ ، وَالْآخَرُ فِي أَقْصَى الْمَغْرِبِ ، وَقَدْ يَتَرَاءَيَانِ مَعَ هَذَا التَّخَاطُبِ ، وَلَا يَسْمَعُ الْجَالِسُونَ بِجَانِبِهِمَا شَيْئًا سِوَى أَزِيزٍ كَدَوِيِّ النَّحْلِ الَّذِي فِي صِفَةِ الْوَحْيِ .
وَمَنْ مِنَّا لَيْسَ لَهُ حَدِيثُ نَفْسٍ فِي يَقَظَتِهِ أَوْ مَنَامِهِ يَدُورُ فِي خَلَدِهِ دُونَ أَنْ يَرَى مُتَكَلِّمًا أَمَامَهُ ؟
هَذِهِ وَغَيْرُهَا أَمْثِلَةٌ تُفَسِّرُ لِعُقُولِنَا
nindex.php?page=treesubj&link=29565حَقِيقَةَ الْوَحْيِ .
وَقَدْ شَاهَدَ الْوَحْيَ مُعَاصِرُوهُ ، وَنُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ الْمُسْتَوْفِي لِشُرُوطِهِ بِمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ إِلَى الْأَجْيَالِ اللَّاحِقَةِ ، وَلَمَسَتِ الْإِنْسَانِيَّةُ أَثَرَهُ فِي حَضَارَةِ أُمَّتِهِ ، وَقُوَّةِ أَتْبَاعِهِ ، وَعِزَّتِهِمْ مَا اسْتَمْسَكُوا بِهِ وَانْهِيَارِ كِيَانِهِمْ وَخِذْلَانِهِمْ مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِهِ ، مِمَّا لَا يَدَعُ مَجَالًا لِلشَّكِّ فِي إِمْكَانِ الْوَحْيِ وَثُبُوتِهِ ، وَضَرُورَةِ الْعَوْدَةِ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ إِطْفَاءً لِلظَّمَأِ النَّفْسِيِّ بِمُثُلِهِ الْعُلْيَا ، وَقِيَمِهِ الرُّوحِيَّةِ .
وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوَّلَ رَسُولٍ أُوحِيَ إِلَيْهِ ، بَلْ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الرُّسُلِ قَبْلَهُ بِمِثْلِ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=163إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=164وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . .
[ ص: 26 ] فَلَيْسَ هُنَاكَ فِي نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى
مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يَدْعُو إِلَى الْعَجَبِ ، وَلِذَا أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَى الْعُقَلَاءِ هَذَا فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=2أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ . .