الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          العود إلى القول في " إنما " وما يقع فيه الاختصاص بعدها

                          404- وإذا استبنت هذه الجملة عرفت منها أن الذي صنعه الفرزدق في قوله :


                          وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي



                          [ ص: 341 ]

                          شيء لو لم يصنعه لم يصح له المعنى . ذاك لأن غرضه أن يخص [ ص: 342 ] المدافع لا المدافع عنه .

                          ولو قال: " إنما أدافع عن أحسابهم " لصار المعنى أنه يخص المدافع عنه ، وأنه يزعم أن المدافعة منه تكون عن أحسابهم لا عن أحساب غيرهم كما يكون إذا قال : " وما أدافع إلا عن أحسابهم " . وليس ذلك معناه إنما معناه أن يزعم أن المدافع هو لا غيره، فاعرف ذلك فإن الغلط كما أظن يدخل على كثير ممن تسمعهم يقولون : " إنه فصل الضمير للحمل على المعنى " . فيرى أنه لو لم يفصله لكان يكون معناه مثله الآن .

                          هذا ولا يجوز أن ينسب فيه إلى الضرورة، فيجعل مثلا نظير قول الآخر :


                          كأنا يوم قرى إنما نقتل إيانا !



                          لأنه ليس به ضرورة إلى ذلك، من حيث أن " أدافع " و " يدافع " واحد في الوزن فاعرف هذا أيضا .

                          [ ص: 343 ]

                          405- وجملة الأمر أن الواجب أن يكون اللفظ على وجه يجعل الاختصاص فيه للفرزدق ، وذلك لا يكون إلا بأن يقدم " الأحساب " على ضميره وهو لو قال : وإنما أدافع عن أحسابهم استكن ضميره في الفعل فلم يتصور تقديم " الأحساب " عليه ولم يقع " الأحساب " إلا مؤخرا عن ضمير الفرزدق . وإذا تأخرت انصرف الاختصاص إليها لا محالة .

                          فإن قلت : إنه كان يمكنه أن يقول : " وإنما أدافع عن أحسابهم أنا " فيقدم " الأحساب " على " أنا " .

                          قيل: إنه إذا قال : " أدافع " كان الفاعل الضمير المستكن في الفعل، وكان " أنا " الظاهر تأكيدا له أعني للمستكن . والحكم يتعلق بالمؤكد دون التأكيد لأن التأكيد كالتكرير فهو يجيء من بعد نفوذ الحكم، ولا يكون تقديم الجار مع المجرور الذي هو قوله " عن أحسابهم " على الضمير الذي هو تأكيد تقديما له على الفاعل، لأن تقديم المفعول على الفاعل إنما يكون إذا ذكرت المفعول قبل أن تذكر الفاعل . ولا يكون لك إذا قلت : " وإنما أدافع عن أحسابهم " سبيل إلى أن تذكر المفعول قبل أن تذكر الفاعل، لأن ذكر الفاعل [ ص: 344 ] هاهنا هو ذكر الفعل، من حيث إن الفاعل مستكن في الفعل، فكيف يتصور تقديم شيء عليه فاعرفه .

                          الاختصاص يقع في الذي بعد " إلا " من فاعل أو مفعول، أو جار ومجرور يكون بدل أحد المفعولين .

                          406- واعلم أنك إن عمدت إلى الفاعل والمفعول فأخرتهما جميعا إلى ما بعد " إلا " فإن الاختصاص يقع حينئذ في الذي يلي " إلا " منهما . فإذا قلت : " ما ضرب إلا عمرو زيدا " كان الاختصاص في الفاعل وكان المعنى أنك قلت : " إن الضارب عمرو لا غيره " . وإن قلت : " ما ضرب إلا زيدا عمرو " كان الاختصاص في المفعول، وكان المعنى أنك قلت : " إن المضروب زيد لا من سواه " .

                          وحكم المفعولين حكم الفاعل والمفعول فيما ذكرت لك . تقول : " لم يكس إلا زيدا جبة " . فيكون المعنى أنه خص " زيدا " من بين الناس بكسوة الجبة، فإن قلت : “ لم يكس إلا جبة زيدا " كان المعنى أنه خص الجبة من أصناف الكسوة .

                          وكذلك الحكم حيث يكون بدل أحد المفعولين جار ومجرور، كقول السيد الحميري :


                          لو خير المنبر فرسانه     ما اختار إلا منكم فارسا



                          [ ص: 345 ]

                          الاختصاص في " منكم " دون " فارسا " . ولو قلت : “ ما اختار إلا فارسا منكم " صار الاختصاص في " فارسا " .

                          حكم المبتدأ والخبر إذا جاء بعد " إنما "

                          407- واعلم أن الأمر في المبتدأ والخبر إن كانا بعد " إنما " على العبرة التي ذكرت لك في الفاعل والمفعول، إذا أنت قدمت أحدهما على الآخر .

                          معنى ذلك: أنك إن تركت الخبر في موضعه فلم تقدمه على المبتدأ، كان الاختصاص فيه . وإن قدمته على المبتدأ صار الاختصاص الذي كان فيه في المبتدأ .

                          تفسير هذا أنك تقول : " إنما هذا لك " . فيكون الاختصاص في " لك " بدلالة أنك تقول : " إنما هذا لك لا لغيرك " . وتقول : " إنما لك هذا " . فيكون الاختصاص في " هذا " بدلالة أنك تقول : " إنما لك هذا لا ذاك " : والاختصاص يكون أبدا في الذي إذا جئت " بلا " العاطفة كان العطف عليه .

                          وإن أردت أن يزداد ذلك عندك وضوحا فانظر إلى قوله تعالى : « فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب » [ سورة الرعد : 40 ] وقوله عز وعلا : « إنما السبيل على الذين يستأذنونك » [ سورة التوبة : 93 ] . فإنك ترى الأمر ظاهرا أن الاختصاص في الآية الأولى في المبتدأ الذي هو " البلاغ " و " الحساب " دون الخبر الذي هو " عليك " و " علينا " وأنه في الآية الثانية في الخبر الذي هو " على الذين " دون المبتدأ الذي هو " السبيل " .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية