الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 319 ] يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير

الأظهر أن تكون جملة يجعلون حالا اتضح بها المقصود من الهيئة المشبه بها ؛ لأنها كانت مجملة ، وأما جملة يكاد البرق فيجوز كونها حالا من ضمير " يجعلون " لأن بها كمال إيضاح الهيئة المشبه بها ، ويجوز كونها استئنافا لبيان حال الفريق عند البرق نشأ عن بيان حالهم عند الرعد . وجملة كلما أضاء لهم مشوا فيه حال من البرق أو من ضمير أبصارهم لا غير ، وفي هذا تشبيه لجزع المنافقين من آيات الوعيد بما يعتري القائم تحت السماء حين الرعد والبرق والظلمات فهو يخشى استكاك سمعه ويخشى الصواعق حذر الموت ويعشيه البرق حين يلمع بإضاءة شديدة ويعمي عليه الطريق بعد انقطاع لمعانه . وقوله كلما أضاء لهم تمثيل لحال حيرة المنافقين بحال حيرة السائرين في الليل المظلم المرعد المبرق .

وقوله والله محيط بالكافرين اعتراض للتذكير بأن المقصود التمثيل لحال المنافقين في كفرهم لا لمجرد التفنن في التمثيل . وقوله ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم رجوع إلى وعيد المنافقين الذين هم المقصود من التمثيل ، فالضمائر التي في جملة ولو شاء الله راجعة إلى أصل الكلام ، وتوزيع الضمائر دل عليه السياق .

فعبر عن زواجر القرآن بالصواعق وعن انحطاط قلوب المنافقين وهي البصائر عن قرار نور الإيمان فيها بخطف البرق للأبصار ، وإلى نحو من هذا يشير كلام ابن عطية نقلا عن جمهور المفسرين ، وهو مجاز شائع ، يقال : فلان يرعد ويبرق ، على أن بناءه هنا على المجاز السابق يزيده قبولا ، وعبر عما يحصل للمنافقين من الشك في صحة اعتقادهم بمشي الساري في ظلمة إذا أضاء له البرق ، وعن إقلاعهم عن ذلك الشك حين رجوعهم إلى كفرهم بوقوف الماشي عند انقطاع البرق على طريقة التمثيل ، وخلل ذلك كله بتهديد لا يناسب إلا المشبهين وهو [ ص: 320 ] ما أفاده الاعتراض بقوله والله محيط بالكافرين وقوله ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم فجاء بهذه الجمل الحالية والمستأنفة تنبيها على وجه الشبه وتقريرا لقوة مشابهة الزواجر وآيات الهدى والإيمان بالرعد والبرق في حصول أثري النفع والضر عنهما مع تفنن في البلاغة وطرائق الحقيقة والمجاز .

وجعل في الكشاف الجمل الثلاث مستأنفا بعضها عن بعض بأن تكون الأولى استئنافا عن جملة أو كصيب والثانية وهي يكاد البرق مستأنفة عن جملة ( يجعلون ) لأن الصواعق تستلزم البرق ، والثالثة وهي كلما أضاء لهم مشوا مستأنفة عن قوله يكاد البرق والمعنى عليه ضعيف وهو في بعضها أضعف منه في بعض كما أشرنا إليه آنفا .

والجعل والأصابع مستعملان في حقيقتهما على قول بعض المفسرين لأن الجعل هو هنا بمعنى النوط ، والظرفية لا تقتضي الإحاطة فجعل بعض الإصبع في الأذن هو جعل للإصبع ، فتمثل بعض علماء البيان بهذه الآية للمجاز الذي علاقته الجزئية تسامح ، ولذلك عبر عنه صاحب الكشاف بقوله : هذا من الاتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها كقوله فاغسلوا وجوهكم فاقطعوا أيديهما ومنه قولك مسحت بالمنديل ، ودخلت البلد ، وقيل : ذلك مجاز في الأصابع ، وقيل : مجاز في الجعل : ولمن شاء أن يجعله مجازا في الظرفية فتكون تبعية لكلمة " في " . و ( من ) في قوله من الصواعق للتعليل أي لأجل الصواعق إذ الصواعق هي علة جعل الأصابع في الآذان ولا ضير في كون الجعل لاتقائها حتى يقال يلزم تقدير مضاف نحو ترك واتقاء إذ لا داعي إليه ، ونظير هذا قولهم : " سقاه من العيمة " بفتح العين وسكون الياء وهي شهوة اللبن لأن العيمة سبب السقي والمقصود زوالها إذ المفعول لأجله هو الباعث وجوده على الفعل سواء كان مع ذلك غاية للفعل وهو الغالب أم لم يكن كما هنا .

والصواعق جمع صاعقة وهي نار تندفع من كهربائية الأسحبة كما تقدم آنفا . وقوله حذر الموت مفعول لأجله وهو هنا علة وغاية معا .

ومن بديع هذا التمثيل أنه مع ما احتوى عليه من مجموع الهيئة المركبة المشبه بها حال المنافقين حين منازعة الجواذب لنفوسهم من جواذب الاهتداء وترقبها ما يفاض على نفوسهم من قبول دعوة النبيء وإرشاده مع جواذب الإصرار على الكفر وذبهم عن أنفسهم أن يعلق بها ذلك الإرشاد حينما يخلون إلى شياطينهم ، هو مع ذلك قابل لتفريق التشبيه في [ ص: 321 ] مفرداته إلى تشابيه مفردة بأن يشبه كل جزء من مجموع الهيئة المشبهة لجزء من مجموع هيئة قوم أصابهم صيب معه ظلمات ورعد وصواعق لا يطيقون سماع قصفها ويخشون الموت منها وبرق شديد يكاد يذهب بأبصارهم ، وهم في حيرة بين السير وتركه . وقوله والله محيط بالكافرين اعتراض راجع للمنافقين إذ قد حق عليهم التمثل واتضح منه حالهم فآن أن ينبه على وعيدهم وتهديدهم ، وفي هذا رجوع إلى أصل الغرض كالرجوع في قوله تعالى ذهب الله بنورهم وتركهم إلخ كما تقدم ، إلا أنه هنا وقع بطريق الاعتراض .

والإحاطة استعارة للقدرة الكاملة شبهت القدرة التي لا يفوتها المقدور بإحاطة المحيط بالمحاط على طريقة التبعية أو التمثيلية ، وإن لم يذكر جميع ما يدل على جميع المركب الدال على الهيئة المشبهة بها ، وقد استعمل هذا الخبر في لازمه وهو أنه لا يفلتهم وأنه يجازيهم على سوء صنعهم .

والخطف الأخذ بسرعة . و " كلما " كلمة تفيد عموم مدخولها ، وما كافة لكل عن الإضافة أو هي مصدرية ظرفية أو نكرة موصوفة ، فالعموم فيها مستفاد من كلمة كل .

وذكر " كلما " في جانب الإضاءة و " إذا " في جانب الإظلام لدلالة كلما على حرصهم على المشي وأنهم يترصدون الإضاءة ، فلا يفيتون زمنا من أزمان حصولها ليتبينوا الطريق في سيرهم لشدة الظلمة . وأضاء فعل يستعمل قاصرا ومتعديا باختلاف المعنى كما تقدم في قوله فلما أضاءت ما حوله وأظلم يستعمل قاصرا كثيرا ويستعمل متعديا قليلا والظاهر أن أضاء هنا متعد ، فمفعول أضاء محذوف لدلالة مشوا عليه ، وتقديره الممشى أو الطريق ؛ أي أضاء لهم البرق الطريق وكذلك أظلم أي وإذا أظلم عليهم البرق الطريق بأن أمسك وميضه فإسناد الإظلام إلى البرق مجاز لأنه تسبب في الإظلام . ومعنى القيام عدم المشي أي الوقوف في الموضع .

وقوله تعالى ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم مفعول شاء محذوف لدلالة الجواب عليه ، وذلك شأن فعل المشيئة والإرادة ونحوهما إذا وقع متصلا بما يصلح لأن يدل على مفعوله مثل وقوعه صلة لموصول يحتاج إلى خبر نحو : ما شاء الله كان أي : ما شاء كونه كان ، ومثل وقوعه شرطا للو لظهور أن الجواب هو دليل المفعول . وكذلك إذا كان في الكلام السابق قبل فعل المشيئة ما يدل على مفعول الفعل نحو قوله تعالى سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله [ ص: 322 ] قال الشيخ في دلائل الإعجاز : إن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفا وقد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن ، وذلك نحو قول الشاعر هو إسحاق الخريمي مولى بني خريم من شعراء عصر الرشيد يرثي أبا الهيذام الخريمي حفيده ابن ابن عمارة .


ولو شئت أن أبكي دما لبكيته عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

وسبب حسنه أنه كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دما ، فلما كان كذلك كان الأولى أن يصرح بذكره ليقرره في نفس السامع إلخ كلامه . وتبعه صاحب الكشاف ، وزاد عليه أنهم لا يحذفون في الشيء المستغرب إذ قال : لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب إلخ . وهو مؤول بأن مراده أن عدم الحذف حينئذ يكون كثيرا .

وعندي أن الحذف هو الأصل لأجل الإيجاز فالبليغ تارة يستغني بالجواب فيقصد البيان بعد الإبهام ، وهذا هو الغالب في كلام العرب ، قال طرفة :

وإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت

وتارة يبين بذكر الشرط أساس الإضمار في الجواب نحو البيت وقوله تعالى لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه ويحسن ذلك إذا كان في المفعول غرابة فيكون ذكره لابتداء تقريره كما في بيت الخريمي والإيجاز حاصل على كل حال لأن فيه حذفا إما من الأول أو من الثاني . وقد يوهم كلام أئمة المعاني أن المفعول الغريب يجب ذكره وليس كذلك ، فقد قال الله تعالى قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإن إنزال الملائكة أمر غريب قال أبو العلاء المعري .

وإن شئت فازعم أن من فوق ظهرها     عبيدك واستشهد إلهك يشهد

فإن زعم ذلك زعم غريب .

والضمير في قوله بسمعهم وأبصارهم ظاهره أن يعودوا إلى أصحاب الصيب المشبه بحالهم حال المنافقين ؛ لأن الإخبار بإمكان إتلاف الأسماع والأبصار يناسب أهل الصيب المشبه بحالهم بمقتضى قوله يكاد البرق يخطف أبصارهم وقوله يجعلون أصابعهم في آذانهم والمقصود أن الرعد والبرق الواقعين في الهيئة المشبه بها هما رعد وبرق بلغا منتهى قوة جنسيهما بحيث لا يمنع قصيف الرعد من إتلاف أسماع سامعيه ولا يمنع وميض البرق من إتلاف أبصار ناظريه إلا مشيئة الله عدم وقوع ذلك لحكمة . وفائدة ذكر هذا في الحالة المشبهة بها أن يسري نظيره في الحالة المشبهة وهي حالة المنافقين فهم على وشك انعدام الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم انعداما تاما من كثرة عنادهم وإعراضهم عن الحق ، إلا أن الله لم يشأ ذلك استدراجا لهم وإملاء ليزدادوا [ ص: 323 ] إثما أو تلوما لهم وإعذارا لعل منهم من يثوب إلى الهدى ، وقد صيغ هذا المعنى في هذا الأسلوب لما فيه من التوجيه بالتهديد لهم أن يذهب الله سمعهم وأبصارهم من نفاقهم إن لم يبتدروا الإقلاع عن النفاق ، وذلك يكون له وقع الرعب في قلوبهم كما وقع لعتبة بن ربيعة لما قرأ عليه النبيء صلى الله عليه وسلم فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فليس المقصود من اجتلاب " لو " في هذا الشرط إفادة ما تقتضيه " لو " من الامتناع لأنه ليس المقصود الإعلام بقدرة الله على ذلك بل المقصود إفادة لازم الامتناع وهو أن أسباب إذهاب البرق والرعد أبصارهم الواقعين في التمثيل متوفرة وهي كفران النعمة الحاصلة منهما إذ إنما رزقوهما للتبصر في الآيات الكونية وسماع الآيات الشرعية ، فلما أعرضوا عن الأمرين كانوا أحرياء بسلب النعمة ، إلا أن الله لم يشأ ذلك إمهالا لهم وإقامة للحجة عليهم ، فكانت لو مستعملة مجازا مرسلا في مجرد التعليق إظهارا لتوفر الأسباب لولا وجود المانع على حد قول أبي بن سلمى بن ربيعة من شعراء الحماسة يصف فرسه .

ولو طار ذو حافر قبلها     لطارت ولكنه لم يطر

أي توفر فيها سبب الطيران . فالمعنى : لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم بزيادة ما في البرق والرعد من القوة فيفيد بلوغ الرعد والبرق قرب غاية القوة .

ويكون لقوله إن الله على كل شيء قدير موقع عجيب . وقوله إن الله على كل شيء قدير تذييل ، وفيه ترشيح للتوجيه المقصود للتهديد زيادة في تذكيرهم وإبلاغا لهم وقطعا لمعذرتهم في الدنيا والآخرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية