الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب الشهادة في النسب وغيره

( قال رحمه الله . وإذا شهد شاهدان على رجل أنه فلان ابن فلان الفلاني ، وإن الميت فلان ابن فلان ابن عمه وورثته لا يعلمون له وارثا غيره ولفلان ذلك الميت دار في يد رجل وهو مقر أنها له غير أنه لا يعرف له وارثا فأنا أجيز شهادة هؤلاء على النسب وأدفع إليه الدار ، وإن كانوا لم يذكروا أباه استحسانا ) وهذه فصول أربعة النسب والنكاح والقضاء والموت ، وفي القياس لا تجوز الشهادة في شيء منها بالتسامع ; لأن الشهادة لا تجوز إلا بعلم ، وإنما يستفيد العلم بمعاينة السبب ، أو بالخبر المتواتر . فأما بالتسامع لا يستفيد العلم . وقال الله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } وحكم المال أخف من حكم النكاح . فإذا كانت الشهادة على المال بالتسامع لا تجوز ففي النكاح أولى ، وفي التسامع القاضي والشاهد سواء ، ثم لا يجوز للقاضي أن يقضي بالتسامع . فكذلك لا يجوز للشاهد إلا أنا استحسنا جواز الشهادة على هذه الأشياء الأربعة لتعامل الناس في ذلك [ ص: 150 ] واستحسانهم .

( ألا ترى ) أنا نشهد أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ماتا ولم ندرك شيئا من ذلك ونشهد أن فاطمة رضي الله عنها زوجة علي رضي الله عنه ، وأن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه ونشهد أن شريحا رضي الله عنه كان قاضيا ونشهد أنهم قد ماتوا ولم ندرك شيئا من ذلك ، ثم هذه أسباب يقضون بها على ما يشتهر فإن النسب يشتهر فيها بالتهنئة والموت بالتعزية والنكاح بالشهود والوليمة والقضاء بقراءة المنشور فنزلت الشهرة منزلة العيان في إفادة العلم بخلاف الأموال وغيرها .

يوضحه أن هذه الأمور قل ما يعاين سببها حقيقة فسبب النسب الولاة ولا يحضرها إلا القابلة وسبب القضاء تقليد السلطان ولا يعاين ذلك إلا الخواص من الناس والميت أيضا قل ما يعاينه كل أحد والنكاح كذلك إنما يحضره الخواص من الناس فلو لم تجز الشهادة عليها بالتسامع أدى إلى الحرج بخلاف البيوع وغيرها فإنه كلام يسمعه كل واحد وسبب الملك هو اليد وهو ما يعاينه كل أحد والنكاح كذلك إنما يحضره الخواص ; فلهذا لا تجوز الشهادة عليها بالتسامع ، ثم الأحكام التي تتعلق بهذه الأشياء الأربعة تبقى بعد انقضاء قرون فلو لم تجز الشهادة عليها بالتسامع لتعطلت تلك الأحكام بانقضاء تلك القرون ; ولهذا قلنا في الصحيح من الجواب إن الشهادة على أصل الوقف بالتسامع جائزة ، ولكن على شرائط الوقف لا تجوز الشهادة بالتسامع ; لأن أصل الوقف يشتهر .

فأما شرائطه لا تشتهر ولا بد للشاهد من نوع علم ليشهد فإن كان الشاهد لا يعرف الرجل إلا أن المدعي أخبره بذلك ، أو شهد به عنده رجل ما ينبغي له أن يشهد حتى يكون النسب مشهورا ، أو شهد به عنده رجلان عدلان لئلا يقول المدعي بشهادة رجل واحد عنده لا يحصل الاشتهار ولا يتم شرعا ، وإنما ثبت له العلم هنا بالاشتهار عرفا أو شرعا فالاشتهار عرفا بأن يعلمه أكثر الناس والاشتهار شرعا بشهادة رجلين ( ألا ترى ) أن الإعلان في النكاح شرط ، ويكون ذلك شرعا بشهادة رجلين إلا أن فيما يتردد بين الصدق والكذب لا بد من عدالة الرجلين كما في الشهادة عند القاضي . فإذا شهد بذلك عنده رجلان فقد وجد الإشهاد عنده شرعا وولاية الشهادة دون ولاية القضاء . فإذا كان يجوز للقاضي أن يقضي بشهادة رجلين عنده فلأن لا يجوز له إذا شهد عنده به رجلان عدلان أولى ولو قدم عليه رجل من بلد آخر وانتسب له وأقام معه دهرا لم يسعه أن يشهد على نسبه حتى يلقى من أهل بلده رجلين عدلين ممن يعرفه يشهدان له على ذلك ، ثم يسعه الشهادة عليه ; لأنه يحصل له بذلك نوع علم ، وذلك كاف فيما لا يشترط [ ص: 151 ] عليه معاينة السبب ولو نظر إلى رجل مشهود باسمه ونسبه غير أنه لم يخالطه ولم يتكلم معه وسعه أن يشهد أنه فلان ابن فلان لحصول نوع علم له بالاشتهار ، وكذلك إذا رأى إنسانا في مجلس القضاء يقضي بين المسلمين فهو في سعة من الشهادة على أنه قاضيا لحصول العلم له بذلك الإشهاد والشهادة إنما تجب عليه بالعلم لا بالتكلم والمخالطة . فإذا حصل العلم له بالإشهاد حل له أداء الشهادة .

التالي السابق


الخدمات العلمية