الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الباب الثالث: هبة الأقارب، والزوجات

        وفيه فصول:

        الفصل الأول: هبة الأقارب.

        الفصل الثاني: هبة الزوجات.

        الفصل الثالث: تملك الوالد من مال ولده.

        [ ص: 454 ] [ ص: 455 ] الفصل الأول: هبة الأقارب

        وفيه مبحثان:

        المبحث الأول: هبة الأولاد.

        المبحث الثاني: هبة بقية الأقارب.

        [ ص: 456 ] [ ص: 457 ] المبحث الأول: هبة الأولاد

        وفيه مطالب:

        المطلب الأول: هبة الأب

        وفيه مسألتان:

        المسألة الأولى: حكمها من حيث المشروعية، والجواز

        تحرير محل النزاع:

        أولا: يشرع للأب أن يهب أولاده; لما في ذلك من البر، والإحسان، وصلة الرحم، وغير ذلك مما تقدم في حكم الهبة.

        ثانيا: اتفق الفقهاء - رحمهم الله تعالى - على استحباب التسوية بين الأولاد في الهبة في حال الصحة، وأن التفضيل أو التخصيص لبعضهم على بعض خلاف السنة.

        [ ص: 458 ] ثالثا: اتفقوا على أن للأب أن يحابي بعض أولاده في الهبة حال صحته برضا بقية الإخوة، وذلك لأن المنع من التفضيل إنما هو من أجل المفضولين، فإذا أذنوا زال المحذور.

        رابعا: اتفقوا أيضا على أن الأب إذا وهب لبعضهم في مرض موته، فإن الهبة تأخذ حكم الوصية، فلا تصح إلا بإجازة بقية الورثة.

        خامسا: اختلفوا في هبة الأب لبعض أولاده في الهبة حال صحته من غير رضا البقية، بأن فضل بعضهم على بعض فيها، أو أعطى البعض، وحرم البعض الآخر، وذلك على أقوال:

        القول الأول: تحريم هبة أو تفضيل الأب لبعض الأولاد دون بعض.

        وبه قال بعض المالكية، وبعض الشافعية، وهو المذهب عند الحنابلة.

        وبه قال الظاهرية، وعطاء، ومجاهد، وطاووس، وشريح، والشعبي، والنخعي، وابن شبرمة، والبخاري.

        وهو قول جمهور السلف، واختاره ابن تيمية.

        [ ص: 459 ] وقال في الإنصاف: "اعلم أن الإمام أحمد رحمه الله نص على أنه يعفى عن الشيء التافه، وقال القاضي أبو يعلى الصغير: يعفى عن الشيء اليسير، وعنه: يجب التسوية أيضا فيه إذا تساووا في الفقر أو الغنى".

        القول الثاني: جواز هبة الأب لبعض أولاده على اختلاف بينهم في الكراهة وعدمها.

        فالمشهور عند الحنفية: جواز ذلك مطلقا.

        ومنهم من كرهها إلا لزيادة فضل في الدين، فلا بأس بها حينئذ، هو مروي عن أبي حنيفة، وهو قول متأخري الحنفية، وبه قال بعض [ ص: 460 ] المالكية، وهو مذهب الشافعية.

        ومنهم من كرهها إذا كانت بجميع المال أو أكثره بأن وهب الأب ماله كله أو جله لبعض ولده، فإن كانت المحاباة ببعض ماله جازت.

        وهو المشهور عند المالكية.

        القول الثالث: تحرم هبة الأب لبعض أولاده إذا كانت بجميع المال، فإن كانت ببعضه جازت.

        وهو مروي عن الإمام مالك.

        القول الرابع: تحرم هبة الأب لبعض أولاده إذا قصد الإضرار، فإن لم يقصده فلا بأس بها.

        وبه قال أبو يوسف.

        الأدلة:

        أدلة الرأي الأول: (عدم جواز التفضيل، أو التخصيص ) :

        (200 ) 1 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق الشعبي قال: سمعت [ ص: 461 ] النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: "أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا. قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم. قال: فرجع أبي فرد عطيته".

        (201 ) وروى البخاري ومسلم من طريق الشعبي، عن النعمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فأرجعه".

        (202 ) وروى مسلم من طريق حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن النعمان، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: "أتى بي أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما، فقال: "أكل بنيك نحلت؟ قال: لا. قال: "فاردده".

        وروى مسلم من طريق الشعبي، حدثني النعمان بن بشير رضي الله عنهما، وفيه قوله: "فلا تشهدني إذا، فإني لا أشهد على جور".

        وروى مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنهما، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق".

        [ ص: 462 ] وروى مسلم من طريق الشعبي، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، وفيه قوله: "أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذا".

        وجه الدلالة:

        الوجه الأول: قال ابن قدامة: "وهو دليل على التحريم; لأنه صلى الله عليه وسلم سماه جورا، وأمر برده، وامتنع من الشهادة عليه، والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب".

        الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بتقوى الله المؤذن بأن ما فعله ليس من تقوى الله عز وجل.

        الوجه الثالث: أن الحديث دل على أن التعديل طريق للبر، فيفهم منه أن التفضيل طريق للقطع والعقوق، فيكون محرما، كما حرم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها للمعنى نفسه.

        وقال ابن حزم: "فكانت هذه الآثار متواترة متظاهرة، الشعبي، وعروة، ومحمد بن النعمان، وحميد كلهم سمعه من النعمان، ورواه عن هؤلاء - الحفلاء من الأئمة - كلهم متفق على أمر رسول الله رضي الله عنه بفسخ تلك الصدقة والعطية وردها، وبين بعضهم أنها ردت - وأنه - عليه الصلاة والسلام - أخبر أنها جور، والجور لا يحل إمضاؤه في دين الله تعالى، ولو جاز ذلك لجاز إمضاء كل جور وكل ظلم، وهذا هدم الإسلام جهارا".

        [ ص: 463 ] ونوقش الاستدلال من أوجه:

        الوجه الأول: أن الموهوب للنعمان كان جميع مال ولده، ولذلك منعه، فليس فيه حجة على منع التفضيل.

        ونوقش: بأن كثيرا من طرق حديث النعمان رضي الله عنهما صرح بالبعضية، ففي بعضها: "بعض ماله"، وفي بعضها: "بعض الموهبة من ماله"، وفي بعضها: "أن الموهوب كان غلاما، وأنه وهبه لما سألته الأم الهبة من بعض ماله"، وهذا يعلم منه على القطع أنه كان له مال غيره.

        الوجه الثاني: اضطرب متن الحديث اضطرابا شديدا، فلا حجة فيه على الوجوب "ففي حديث جابر أن بشيرا شاور النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهبة فدله على الأولى به"، وروى الطحاوي نحوه عن النعمان، وهو خلاف جميع ما روي عن النعمان أنه نحله قبل أن يجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

        كما اختلفت الروايات في هذه الهبة، فجاء في أكثرها أنها غلام، وروي أنها حديقة.

        واختلف في وقتها، ففي رواية: "أنه وهب حين نفست امرأته [ ص: 464 ] بالنعمان"، وفي رواية: "أنه التوى بها سنة"، وفي رواية: "بعد حولين"، وفي رواية: "فأخذ بيدي وأنا غلام"، وفي أخرى: "انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".

        وأجيب: بأن هذه الروايات وإن اختلفت ألفاظها لكنها متحدة معنى، فجابر رضي الله عنه لم ينف الهبة، وإنما اختصر الرواية.

        وأما أنه جاء في رواية أنه "التوى بها سنة"، وفي أخرى "بعد حولين"، فيجمع بينهما بأن المدة كانت سنة وشيئا، فجبر الكسر تارة وألغاه أخرى.

        ويجمع بين قوله: "فأخذ بيدي وأنا غلام"، وقوله: "انطلق بي أبي يحملني" بأنه أخذ بيده فمشى معه بعض الطريق، وحمله في بعضها لصغر سنه، أو عبر عن استتباعه إياه بالحمل.

        وجمع بعضهم بين كون العطية غلاما وبين كونها حديقة بالحمل على واقعتين: إحداهما عند ولادة النعمان، وكانت العطية حديقة، والأخرى: بعد أن كبر، وكانت العطية غلاما.

        إلا أنه يعكر عليه أنه يبعد أن ينسى بشير بن سعد رضي الله عنه - مع جلالته - الحكم في المسألة حتى يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيستشهد على العطية الثانية.

        وجمع بينهما ابن حجر رحمه الله - بأن عمرة لما امتنعت من تربية النعمان رضي الله عنه إلا أن يهب له شيئا يخصه به; وهبه الحديقة المذكورة تطييبا لخاطرها، فارتجعها، ولم يقبضها منه أحد غيره، فعاودته عمرة في ذلك فمطلها سنة أو سنتين، ثم طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلاما، ورضيت عمرة بذلك; [ ص: 465 ] إلا أنها خشيت أن يرتجعه أيضا، فقالت له: "أشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم" تريد تثبيت العطية، وأن تأمن من رجوعه فيها، ويكون مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم للإشهاد مرة واحدة، وهو الأخيرة.

        وغاية ما فيه أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعض، أو كان النعمان يقص بعض القصة تارة، وبعضها أخرى، فسمع كل ما رواه فاقتصر عليه.

        الوجه الثالث: أن العطية المذكورة لم تنجز، وإنما جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم، (203 ) فقد روى النسائي: أخبرنا عمرو بن عثمان بن سعيد قال: حدثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن الزهري أن محمد بن النعمان وحميد بن عبد الرحمن حدثاه عن بشير بن سعد رضي الله عنهما، وفيه: "إني نحلت ابني هذا غلاما فإن رأيت أن تنفذه أنفذته...".

        ونوقش هذا الاستدلال بأمرين:

        الأمر الأول: بأن أكثر طرق الحديث ينابذ ما في هذه الرواية.

        ثم إن في أول الحديث: "نحلني أبي غلاما"، وفي وسطه: "إني نحلت ابني هذا غلاما"... فكيف يقال: لم يتم النحل، وأما قوله: "فإن [ ص: 466 ] أذنت لي..." فلعله نمي إلى علمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجيز هذا النوع من العطايا، وما لا يجيزه رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معتبر، فلذلك جاء مستفسرا.

        الأمر الثاني: قول بشير: "فإن أذنت لي أن أجيزه أجزته" قول صحيح، وقول مؤمن لا يعمل إلا ما أباحه له رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظاهره بلا تأويل، نعم إن أجازه النبي صلى الله عليه وسلم أجازه بشير، وإن لم يجزه عليه الصلاة والسلام رده بشير ولم يجزه كما فعل (1 ) .

        الوجه الرابع: أن النعمان كان كبيرا، ولم يكن قبض النحل، فجاز لأبيه الرجوع.

        وأجيب: بأن هذا خلاف أكثر طرق الحديث خصوصا قوله:

        "أرجعه"، فإنه يدل على تقدم وقوع القبض.

        ثم إن صغر النعمان أشهر من الشمس; لأنه ولد بعد الهجرة بلا خلاف بين أحد من أهل العلم.

        وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: "وأنا يومئذ غلام" ولا تطلق هذه اللفظة على رجل بالغ أصلا.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية