[ ص: 285 ] فصل السكر
قال صاحب المنازل : ( باب السكر ) قال الله تعالى حاكيا عن
موسى كليمه :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=143رب أرني أنظر إليك .
وجه استدلاله بإشارة الآية أن
موسى لما استقر في قلبه وروحه ، وسمعه وبصره الاستلذاذ بكلام ربه له ، فحصل له من سماع ذلك الكلام ، وطيب ذلك الخطاب ، ولذة ذلك التكليم ما يجل ويعظم ويكبر أن يسمى سكرا ، أو يشبه بالسكر جرى على لسانه أن طلب الرؤية له سبحانه في تلك الحال .
قال : السكر في هذا الباب اسم يشار به إلى سقوط التمالك في الطرب ، وهذا من مقامات المحبين خاصة ، فإن عيون الفناء لا تقبله ، ومنازل العلم لا تبلغه .
قوله : " يشار به إلى سقوط التمالك " يعني : عدم الصبر ، تقول : ما تمالكت أن أفعل كذا ؛ أي : ما قدرت أن أصبر عنه ، فكأنه قال : هو اسم لقوة الطرب الذي لا يدفعه الصبر .
وهذا المعنى لم يعبر عنه في القرآن ولا في السنة ، ولا العارفون من السلف بالسكر أصلا ، وإنما ذلك من اصطلاح المتأخرين ، وهو بئس الاصطلاح ؛ فإن لفظ
[ ص: 286 ] السكر والمسكر من الألفاظ المذمومة شرعا وعقلا ، وعامة ما يستعمل في السكر المذموم الذي يمقته الله ورسوله قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43nindex.php?page=treesubj&link=1587_28975يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وعبر به سبحانه عن الهول الشديد الذي يحصل للناس عند قيام الساعة فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=2وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ويقال : فلان أسكره حب الدنيا ، وكذلك يستعمل في سكر الهوى المذموم ، فأين أطلق الله سبحانه أو رسوله عن الصحابة أو أئمة الطريق المتقدمون على هذا المعنى الشريف الذي هو من أشرف أحوال محبيه وعابديه اسم السكر المستعمل في سكر الخمر ، وسكر الفواحش ؟ كما قال عن
قوم لوط nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=72لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فوصف بالسكر أرباب الفواحش ، وأرباب الشراب المسكر ، فلا يليق استعماله في أشرف الأحوال والمقامات ، ولا سيما في قسم الحقائق ، ولا يطلق على كليم الرحمن اسم السكر في تلك الحال ، والاصطلاحات لا مشاحة فيها إذا لم تتضمن مفسدة .
وأيضا فمن المعلوم أن هذا الحال يحصل في الجنة عند رؤية الرب تعالى ، وسماع كلامه على أتم الوجوه ، ولا يسمى سكرا ، ونحن لا ننكر المعنى المشار إليه بهذا الاسم ، وإنما المنكر تسميته بهذا الاسم ، ولا سيما إذا انضاف إلى ذلك اسم الشراب أو تسمية المعارف بالخمر ، والواردات بالكؤوس ، والله جل جلاله بالساقي ، فهذه الاستعارات والتسمية هي التي فتحت هذا الباب .
وأما قوله : " وهو من مقامات المحبين خاصة " فلا بد من بيان
nindex.php?page=treesubj&link=10091_17222_29416حقيقة السكر وسببه وتولده ، وهل هو مقدور أو غير مقدور ، وبيان انقسامه باعتبار ذاته وأسبابه ومحله ، لتكون الفائدة بذلك أتم .
[ ص: 287 ] فنقول وبالله التوفيق : السكر لذة ونشوة يغيب معها العقل الذي يحصل به التمييز ، فلا يعلم صاحبه ما يقول ، قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فجعل الغاية التي يزول بها حكم السكر أن يعلم ما يقول ، فإذا علم ما يقول خرج عن حد السكر ، قال الإمام
أحمد : السكران من لم يعرف ثوبه من ثوب غيره ، ونعله من نعل غيره ، ويذكر عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : أنه قال : إذا اختلط كلامه المنظوم ، وأفشى سره المكتوم .
فالسكر يجمع معنيين : وجود لذة ، وعدم تمييز ، وقاصد السكر قد يقصدهما جميعا ، وقد يقصد أحدهما ، فإن النفس لها هوى وشهوات تلتذ بإدراكها ، والعلم بما في تلك اللذات من المفاسد العاجلة والآجلة يمنعها من تناولها ، والعقل يأمرها بأن لا تفعل ، فإذا زال العلم الكاشف المميز والعقل الآمر الناهي انبسطت النفس في هواها ، وصادفت مجالا واسعا .
nindex.php?page=treesubj&link=17195_17196_17222وحرم الله سبحانه السكر لشيئين ، ذكرهما في كتابه ، وهما إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين ، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وذلك يتضمن حصول المفسدة الناشئة من النفوس بواسطة زوال العقل ، وانتفاء المصلحة التي لا تتم إلا بالعقل ، وإيقاع العداوة من الأول ، والصد عن ذكر الله من الثاني .
وقد يكون سبب السكر غير تناول المسكر : إما ألم شديد يغيب به العقل ، حتى يكون كالسكران ، وقد يكون سببه مخوف عظيم هجم عليه وهلة واحدة حتى يغيب عقل من هجم عليه ، ومن هذا قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=2وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد فهم سكارى من الدهش والخوف ، وليسوا بسكارى من الشراب ، فسكرهم سكر خوف ودهش ، لا سكر لذة وطرب .
وقد يكون سببه قوة الفرح بإدراك المحبوب ، بحيث يختلط كلامه ، وتتغير أفعاله ، بحيث يزول عقله ، ويعربد أعظم من عربدة شارب الخمر ، وربما قتله سكر هذا الفرح لسبب طبيعي ، وهو انبساط دم القلب وهلة واحدة انبساطا غير معتاد ، والدم حامل الحار الغريزي ، فيبرد القلب بسبب انبساط الدم عنه ، فيحدث الموت ، ومن هذا
[ ص: 288 ] قول سكران الفرح بوجد راحلته في المفازة ، بعد أن استشعر الموت " اللهم أنت عبدي وأنا ربك " أخطأ من شدة فرحه ، وسكرة الفرح فوق سكرة الشراب ، فصور في نفسك حال فقير معدوم ، عاشق للدنيا أشد العشق ، ظفر بكنز عظيم ، فاستولى عليه آمنا مطمئنا ، كيف تكون سكرته ؟ أو من غاب عنه غلامه بمال له عظيم مدة سنين ، حتى أضر به العدم ، فقدم عليه من غير انتظار له بماله كله ، وقد كسب أضعافه ؟
وقد يوجبه غضب شديد ، يحول بين الغضبان وبين تمييزه ، بل قد يكون سكر الغضب أقوى من سكر الطرب ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=980668لا يقض القاضي بين اثنين وهو غضبان ولا يستريب من شم رائحة الفقه أن الغضب إذا وصل بصاحبه إلى هذه الحال ، فطلق لم يقع طلاقه ، وقد نص الإمام
أحمد على أن الإغلاق الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=980669لا طلاق ولا عتاق في إغلاق أنه الغضب ، وقال
أبو داود : أظنه الغضب ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي سمى
nindex.php?page=treesubj&link=4206نذر اللجاج والغضب نذر الغلق ؛ وذلك لأن الغضبان قد انغلق عليه باب القصد والتمييز بشدة غضبه ، وإذا كان الإكراه غلقا فالغضب الشديد أولى أن يكون غلقا ، وكذلك السكر غلق ، والجنون غلق . فالغلق والإغلاق أيضا كلمة جامعة لمن انغلق عليه باب القصد والتمييز بسبب من الأسباب . وقد أشبعنا الكلام في هذا في كتابنا المسمى إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان .
[ ص: 285 ] فَصْلُ السُّكْرِ
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ : ( بَابُ السُّكْرِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ
مُوسَى كَلِيمِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=143رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ .
وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ أَنَّ
مُوسَى لَمَّا اسْتَقَرَّ فِي قَلْبِهِ وَرُوحِهِ ، وَسَمِعِهِ وَبَصَرِهِ الِاسْتِلْذَاذُ بِكَلَامِ رَبِّهِ لَهُ ، فَحَصَلَ لَهُ مِنْ سَمَاعِ ذَلِكَ الْكَلَامِ ، وَطِيبِ ذَلِكَ الْخِطَابِ ، وَلَذَّةِ ذَلِكَ التَّكْلِيمِ مَا يَجِلُّ وَيَعْظُمُ وَيَكْبُرُ أَنْ يُسَمَّى سُكْرًا ، أَوْ يُشَبَّهَ بِالسُّكْرِ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَنْ طَلَبَ الرُّؤْيَةَ لَهُ سُبْحَانَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ .
قَالَ : السُّكْرُ فِي هَذَا الْبَابِ اسْمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى سُقُوطِ التَّمَالُكِ فِي الطَّرَبِ ، وَهَذَا مِنْ مَقَامَاتِ الْمُحِبِّينَ خَاصَّةً ، فَإِنَّ عُيُونَ الْفَنَاءِ لَا تَقْبَلُهُ ، وَمَنَازِلَ الْعِلْمِ لَا تَبْلُغُهُ .
قَوْلُهُ : " يُشَارُ بِهِ إِلَى سُقُوطِ التَّمَالُكِ " يَعْنِي : عَدَمَ الصَّبْرِ ، تَقُولُ : مَا تَمَالَكْتُ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا ؛ أَيْ : مَا قَدِرْتُ أَنْ أَصْبِرَ عَنْهُ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : هُوَ اسْمٌ لِقُوَّةِ الطَّرَبِ الَّذِي لَا يَدْفَعُهُ الصَّبْرُ .
وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُعَبَّرْ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ ، وَلَا الْعَارِفُونَ مِنَ السَّلَفِ بِالسُّكْرِ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَهُوَ بِئْسَ الِاصْطِلَاحُ ؛ فَإِنَّ لَفْظَ
[ ص: 286 ] السُّكْرِ وَالْمُسْكِرِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا ، وَعَامَّةُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي السُّكْرِ الْمَذْمُومِ الَّذِي يَمْقُتُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43nindex.php?page=treesubj&link=1587_28975يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى وَعَبَّرَ بِهِ سُبْحَانَهُ عَنِ الْهَوْلِ الشَّدِيدِ الَّذِي يَحْصُلُ لِلنَّاسِ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=2وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وَيُقَالُ : فُلَانٌ أَسْكَرَهُ حُبُّ الدُّنْيَا ، وَكَذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ فِي سُكْرِ الْهَوَى الْمَذْمُومِ ، فَأَيْنَ أَطْلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْ رَسُولُهُ عَنِ الصَّحَابَةِ أَوْ أَئِمَّةُ الطَّرِيقِ الْمُتَقَدِّمُونَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الشَّرِيفِ الَّذِي هُوَ مَنْ أَشْرَفِ أَحْوَالِ مُحِبِّيهِ وَعَابِدِيهِ اسْمَ السُّكْرِ الْمُسْتَعْمَلَ فِي سُكْرِ الْخَمْرِ ، وَسُكْرِ الْفَوَاحِشِ ؟ كَمَا قَالَ عَنْ
قَوْمِ لُوطٍ nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=72لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَوَصَفَ بِالسُّكْرِ أَرْبَابَ الْفَوَاحِشِ ، وَأَرْبَابَ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ ، فَلَا يَلِيقُ اسْتِعْمَالُهُ فِي أَشْرَفِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ ، وَلَا سِيَّمَا فِي قِسْمِ الْحَقَائِقِ ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى كَلِيمِ الرَّحْمَنِ اسْمُ السُّكْرِ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، وَالِاصْطِلَاحَاتُ لَا مُشَاحَّةَ فِيهَا إِذَا لَمْ تَتَضَمَّنْ مَفْسَدَةً .
وَأَيْضًا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الْحَالَ يَحْصُلُ فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الرَّبِّ تَعَالَى ، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ ، وَلَا يُسَمَّى سُكْرًا ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ الْمَعْنَى الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِهَذَا الِاسْمِ ، وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ تَسْمِيَتُهُ بِهَذَا الِاسْمِ ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ اسْمُ الشَّرَابِ أَوْ تَسْمِيَةُ الْمَعَارِفِ بِالْخَمْرِ ، وَالْوَارِدَاتِ بِالْكُؤُوسِ ، وَاللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ بِالسَّاقِي ، فَهَذِهِ الِاسْتِعَارَاتُ وَالتَّسْمِيَةُ هِيَ الَّتِي فَتَحَتْ هَذَا الْبَابَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الْمُحِبِّينَ خَاصَّةً " فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ
nindex.php?page=treesubj&link=10091_17222_29416حَقِيقَةِ السُّكْرِ وَسَبَبِهِ وَتَوَلُّدِهِ ، وَهَلْ هُوَ مَقْدُورٌ أَوْ غَيْرُ مَقْدُورٍ ، وَبَيَانُ انْقِسَامِهِ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ وَأَسْبَابِهِ وَمَحَلِّهِ ، لِتَكُونَ الْفَائِدَةُ بِذَلِكَ أَتَمَّ .
[ ص: 287 ] فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ : السُّكْرُ لَذَّةٌ وَنَشْوَةٌ يَغِيبُ مَعَهَا الْعَقْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّمْيِيزُ ، فَلَا يَعْلَمُ صَاحِبُهُ مَا يَقُولُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=43يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ فَجَعَلَ الْغَايَةَ الَّتِي يَزُولُ بِهَا حُكْمُ السُّكْرِ أَنْ يَعْلَمَ مَا يَقُولُ ، فَإِذَا عَلِمَ مَا يَقُولُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ السُّكْرِ ، قَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ : السَّكْرَانُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ثَوْبَهُ مِنْ ثَوْبِ غَيْرِهِ ، وَنَعْلَهُ مِنْ نَعْلِ غَيْرِهِ ، وَيُذْكَرُ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ قَالَ : إِذَا اخْتَلَطَ كَلَامُهُ الْمَنْظُومُ ، وَأَفْشَى سِرَّهُ الْمَكْتُومَ .
فَالسُّكْرُ يَجْمَعُ مَعْنَيَيْنِ : وُجُودُ لَذَّةٍ ، وَعَدَمُ تَمْيِيزٍ ، وَقَاصِدُ السُّكْرِ قَدْ يَقْصِدُهُمَا جَمِيعًا ، وَقَدْ يَقْصِدُ أَحَدَهُمَا ، فَإِنَّ النَّفْسَ لَهَا هَوًى وَشَهَوَاتٌ تَلْتَذُّ بِإِدْرَاكِهَا ، وَالْعِلْمُ بِمَا فِي تِلْكَ اللَّذَّاتِ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ يَمْنَعُهَا مِنْ تَنَاوُلِهَا ، وَالْعَقْلُ يَأْمُرُهَا بِأَنْ لَا تَفْعَلَ ، فَإِذَا زَالَ الْعِلْمُ الْكَاشِفُ الْمُمَيِّزُ وَالْعَقْلُ الْآمِرُ النَّاهِي انْبَسَطَتِ النَّفْسُ فِي هَوَاهَا ، وَصَادَفَتْ مَجَالًا وَاسِعًا .
nindex.php?page=treesubj&link=17195_17196_17222وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ السُّكْرَ لِشَيْئَيْنِ ، ذَكَرَهُمَا فِي كِتَابِهِ ، وَهُمَا إِيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ حُصُولَ الْمَفْسَدَةِ النَّاشِئَةِ مِنَ النُّفُوسِ بِوَاسِطَةِ زَوَالِ الْعَقْلِ ، وَانْتِفَاءِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْعَقْلِ ، وَإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ مِنَ الْأَوَّلِ ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مِنَ الثَّانِي .
وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ السُّكْرِ غَيْرَ تَنَاوُلِ الْمُسْكِرِ : إِمَّا أَلَمٌ شَدِيدٌ يَغِيبُ بِهِ الْعَقْلُ ، حَتَّى يَكُونَ كَالسَّكْرَانِ ، وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ مَخُوفٌ عَظِيمٌ هَجَمَ عَلَيْهِ وَهْلَةً وَاحِدَةً حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُ مَنْ هَجَمَ عَلَيْهِ ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=2وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ فَهُمْ سُكَارَى مِنَ الدَّهَشِ وَالْخَوْفِ ، وَلَيْسُوا بِسُكَارَى مِنَ الشَّرَابِ ، فَسُكْرُهُمْ سُكْرُ خَوْفٍ وَدَهَشٍ ، لَا سُكْرُ لَذَّةٍ وَطَرَبٍ .
وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ قُوَّةُ الْفَرَحِ بِإِدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ ، بِحَيْثُ يَخْتَلِطُ كَلَامُهُ ، وَتَتَغَيَّرُ أَفْعَالُهُ ، بِحَيْثُ يَزُولُ عَقْلُهُ ، وَيُعَرْبِدُ أَعْظَمَ مِنْ عَرْبَدَةِ شَارِبِ الْخَمْرِ ، وَرُبَّمَا قَتَلَهُ سُكْرُ هَذَا الْفَرَحِ لِسَبَبٍ طَبِيعِيٍّ ، وَهُوَ انْبِسَاطُ دَمِ الْقَلْبِ وَهْلَةً وَاحِدَةً انْبِسَاطًا غَيْرَ مُعْتَادٍ ، وَالدَّمُ حَامِلُ الْحَارِّ الْغَرِيزِيِّ ، فَيَبْرُدُ الْقَلْبُ بِسَبَبِ انْبِسَاطِ الدَّمِ عَنْهُ ، فَيَحْدُثُ الْمَوْتُ ، وَمِنْ هَذَا
[ ص: 288 ] قَوْلُ سَكْرَانِ الْفَرَحِ بِوَجْدِ رَاحِلَتِهِ فِي الْمَفَازَةِ ، بَعْدَ أَنِ اسْتَشْعَرَ الْمَوْتَ " اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ " أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ ، وَسَكْرَةُ الْفَرَحِ فَوْقَ سَكْرَةِ الشَّرَابِ ، فَصَوِّرْ فِي نَفْسِكَ حَالَ فَقِيرٍ مَعْدُومٍ ، عَاشِقٍ لِلدُّنْيَا أَشَدَّ الْعِشْقِ ، ظَفِرَ بِكَنْزٍ عَظِيمٍ ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ آمِنًا مُطْمَئِنًّا ، كَيْفَ تَكُونُ سَكْرَتُهُ ؟ أَوْ مَنْ غَابَ عَنْهُ غُلَامُهُ بِمَالٍ لَهُ عَظِيمٍ مُدَّةَ سِنِينَ ، حَتَّى أَضَرَّ بِهِ الْعَدَمُ ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارٍ لَهُ بِمَالِهِ كُلِّهِ ، وَقَدْ كَسَبَ أَضْعَافَهُ ؟
وَقَدْ يُوجِبُهُ غَضَبٌ شَدِيدٌ ، يَحُولُ بَيْنَ الْغَضْبَانِ وَبَيْنَ تَمْيِيزِهِ ، بَلْ قَدْ يَكُونُ سُكْرُ الْغَضَبِ أَقْوَى مِنْ سُكْرِ الطَّرَبِ ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980668لَا يَقْضِ الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ وَلَا يَسْتَرِيبُ مَنْ شَمَّ رَائِحَةَ الْفِقْهِ أَنَّ الْغَضَبَ إِذَا وَصَلَ بِصَاحِبِهِ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ ، فَطَلَّقَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الْإِغْلَاقَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980669لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ أَنَّهُ الْغَضَبُ ، وَقَالَ
أَبُو دَاوُدَ : أَظُنُّهُ الْغَضَبَ ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيُّ سَمَّى
nindex.php?page=treesubj&link=4206نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ نَذْرَ الْغَلْقِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَضْبَانَ قَدِ انْغَلَقَ عَلَيْهِ بَابُ الْقَصْدِ وَالتَّمْيِيزِ بِشِدَّةِ غَضَبِهِ ، وَإِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ غَلْقًا فَالْغَضَبُ الشَّدِيدُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ غَلْقًا ، وَكَذَلِكَ السُّكْرُ غَلْقٌ ، وَالْجُنُونُ غَلْقٌ . فَالْغَلْقُ وَالْإِغْلَاقُ أَيْضًا كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَنِ انْغَلَقَ عَلَيْهِ بَابُ الْقَصْدِ وَالتَّمْيِيزِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ . وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى إِغَاثَةَ اللَّهْفَانِ فِي طَلَاقِ الْغَضْبَانِ .