الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 33 ] 607 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتحابين في الله عز وجل والمتباذلين فيه والمتزاورين فيه .

3890 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه ، عن أبي حازم بن دينار ، عن أبي إدريس الخولاني ، أنه قال : دخلت مسجد دمشق فإذا فتى براق الثنايا وإذا الناس معه إذا اختلفوا في شيء أسندوا إليه وصدروا عن رأيه ، فسألت عنه فقيل هذا معاذ بن جبل ، فلما كان الغد هجرت فوجدته قد سبقني بالتهجير ووجدته يصلي فانتظرته حتى قضى صلاته ، ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه ، ثم قلت : والله إني لأحبك لله عز وجل ، فقال : آلله ؟ فقلت : والله ، فقال : آلله ؟ فقلت : والله ، فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه ، وقال : أبشر ; فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله : وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في .

[ ص: 34 ]

3891 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ، قال : حدثنا مالك ، عن أبي حازم ، عن أبي إدريس .

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : وجبت محبتي للمتحابين في والمتزاورين في والمتباذلين في والمتجالسين في .

3892 - حدثنا علي بن زيد الفرائضي وفهد بن سليمان والحسن بن عبد الله بن منصور البالسي قالوا : حدثنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن يونس بن حلبس .

عن أبي إدريس عائذ الله قال : دخلت مسجد حمص فقعدت في حلقة فيها نيف وثلاثون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا وينصت الآخرون ، ويقول الرجل منهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وينصت الآخرون ، وفيهم فتى أدعج براق الثنايا إذا اختلفوا في شيء انتهوا إلى قوله ، فلما انصرفت إلى منزلي بت بأطول ليلة فقلت : جلست في حلقة فيها كذا وكذا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أعرف منازلهم ولا أسماءهم ، فلما أصبحت غدوت إلى المسجد فإذا الفتى الأدعج قاعد إلى سارية فجلست إليه فقلت : إني لأحبك لله عز وجل ، [ ص: 35 ] قال : آلله ، إنك لتحبني لله تبارك وتعالى ، فقلت : آلله إني لأحبك لله عز وجل ، فأخذ بحبوتي حتى مست ركبتي ركبته ، ثم قال : آلله إنك لتحبني لله عز وجل ؟ فقلت : آلله إني لأحبك لله عز وجل ، فقال : أفلا أخبرك بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت : بلى ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المتحابون في الله عز وجل يظلهم الله عز وجل بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ، قال : فبينا نحن كذلك إذ مر رجل ممن كان في الحلقة فقمت إليه فقلت : إن هذا حدثني بحديث ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهل سمعته منه ؟ قال : وما حدثك ما كان ليحدثك إلا حقا ، قال : فأخبرته ، فقال : سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو أفضل منه سمعته يقول يأثر عن الله عز وجل : حقت محبتي للمتحابين في وحقت للمتواصلين في وحقت محبتي للمتزاورين في وحقت محبتي للمتباذلين في قلت : من أنت يرحمك الله ؟ قال : أنا عبادة بن الصامت ، قلت : فمن الفتى ؟ قال : معاذ بن جبل .

3893 - وحدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال : حدثنا بشر بن بكر ، قال : حدثنا ابن جابر وهو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي ، قال : حدثنا عطاء الخراساني قال : سمعت أبا إدريس الخولاني يقول :

دخلت مسجد حمص فجلست في حلقة كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم فتى شاب إذا تكلم أنصت له القوم وإذا حدث رجل منهم أنصت له قال : فتفرقوا ولم أعلم من ذلك الفتى فانصرفت [ ص: 36 ] إلى منزلي فما قرت لي نفسي حتى رجعت إلى المسجد فجلست فيه فإذا أنا به فقمت إليه فجلست معه حتى أتى عمودا من عمد المسجد فركع ركعات حسانا ، ثم جلس فاستقبلته فطال سكوته لا يتكلم فقلت : حدثني رحمك الله فوالله إني لأحبك وأحب حديثك فقال لي : آلله ؟ قلت : آلله ، فجبذني بحبوتي حتى لصقت ركبتي بركبته ، ثم قال فيما أظن : الحمد لله ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المتحابون من جلال الله عز وجل في ظل الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله قلت : من أنت رحمك الله ؟ قال : معاذ بن جبل . فقمت من عنده فإذا أنا بعبادة بن الصامت فقلت : يا أبا الوليد إن معاذا حدثني حديثا قال : وما الذي حدثك ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المتحابون من جلال الله عز وجل في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله فقال لي عبادة : تعال أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه عز وجل قال : فأتيته ، فقال لي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال ربك عز وجل : حقت محبتي على المتحابين في وحقت محبتي على المتجالسين في ، وحقت محبتي على المتزاورين في وحقت محبتي على المتباذلين في .

[ ص: 37 ]

3894 - حدثنا خير بن عرفة أبو الطاهر ، قال : حدثنا عروة بن مروان المعروف بالرقي ، قال : حدثنا شعيب بن رزيق ، عن عطاء الخراساني ، عن أبي إدريس عائذ الله قال :

أتيت مسجد حمص فجلست إلى حلقة فيها ثلاثون رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم شاب آدم خفيف العارضين براق الثنايا فقلت : من هذا ؟ فقالوا : هذا معاذ بن جبل فلما تفرقوا دنوت منه فقلت : والله إني لأحبك في الله عز وجل ، فضرب بيده إلى حبوتي فاجترني حتى ألصق ركبتي وقال : أبشر إن كنت صادقا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المتحابون بجلال الله تحت ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله .

3895 - وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو داود ، عن شعبة ، عن يعلى بن عطاء قال : سمعت الوليد بن عبد الرحمن يحدث ، عن أبي إدريس العائذي قال :

[ ص: 38 ] ذكرت لعبادة بن الصامت حديث معاذ بن جبل في المتحابين فقال : لا أحدثكم إلا ما سمعت على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، حقت محبتي للمتحابين في وحقت محبتي للمتزاورين في وحقت محبتي للمتصافين في أو المتلاقين في .

قال أبو جعفر : فتأملنا هذا الحديث في إسناده فوجدنا فيه ذكر لقاء أبي إدريس معاذ بن جبل وسماعه منه بما ذكر من سماعه إياه منه في هذا الحديث ، وقد وجدنا عنه ما قد ظن بعض الناس أنه قد خالف ذلك ، ودفع أن يكون أبو إدريس لقي معاذا .

وهو ما قد حدثنا يونس ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أبي إدريس الخولاني قال : أدركت عبادة بن الصامت ووعيت عنه وأدركت شداد بن أوس ووعيت عنه ، وعد نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاتني معاذ فأخبرت أنه كان لا يجلس مجلسا إلا قال : الله عز وجل حكم قسط تبارك اسمه هلك المرتابون .

وما قد حدثنا عبيد بن رجال ، قال : حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، ثم ذكر بإسناده مثله غير أنه قال : وفاتني معاذ بن جبل فحدثني يزيد بن عميرة عنه ، ثم ذكر بقية الحديث .

[ ص: 39 ] قال أبو جعفر : فكان ما توهم من حكينا عنه ما حكينا من دفعه لقاء أبي إدريس معاذا بما في هذا الحديث لا يوجب ما توهم من ذلك ; لأن هذا الحديث إخبار أبي إدريس بلقائه عبادة ووعيه عنه ولقائه شداد بن أوس ووعيه عنه ، ثم قال : وفاتني معاذ فاحتمل أن يكون أراد بقوله فاتني أي فاتني أن أعي كما وعيت عن اللذين ذكرهما قبله لا أنه لم يلقه ، وكيف يجوز أن يظن ذلك به مع عدله رحمه الله في نفسه ومع ضبطه في روايته ومع جلالة من حدث بذلك عنه وهم أبو حازم بن دينار وعطاء بن عبد الله الخراساني ويونس بن ميسرة بن حلبس والوليد بن عبد الرحمن وهؤلاء جميعا أئمة مقبولة روايتهم غير مدفوعين عن العدل فيها والضبط لها والثبت فيها ، وإنه ليجب علينا أن نحمل رواية من هذه سبيله على ما ينفي عنها التضاد ما وجدنا إلى ذلك سبيلا .

ثم تأملنا متن هذا الحديث فوجدناه مما قد جاء على ضربين أحدهما وجبت محبتي والآخر حقت محبتي ، فأما وجبت محبتي فقد يكون ذلك الوجوب وهناك وجوب آخر من المحبة هو أعلى منه وفي مرتبة فوق مرتبته من المحبة كما يقول الرجل : أنا أحب فلانا لرجل يقصد بذلك إليه ، ثم يقول بعد ذلك : وأنا أحب فلانا لرجل غيره محبة فوق تلك المحبة فمثل ذلك قوله عز وجل وجبت محبتي للذين ذكرهم لا يمنع ذلك أن تكون محبته تجب لغيرهم وجوبا فوق ذلك الوجوب وفي مرتبة أعلى من مرتبته .

وأما حقت محبتي فعلى فوق ذلك وهو أعلى مراتب الوجوب ، وقد بين ذلك عبادة بن الصامت لأبي إدريس لما حدثه ، عن معاذ بن [ ص: 40 ] جبل بما حدثه به ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الله عز وجل وجبت محبتي بقوله له سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أفضل منه سمعته يأثر عن الله عز وجل : حقت محبتي فعقلنا بذلك أن الذي حدثه عبادة مما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فوق الذي حدثه به أبو إدريس ، عن معاذ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ومما يحقق ذلك أنا وجدنا الرجل يقول : فلان عالم فيوجب له العلم وقد يكون في العلماء من مرتبته فيه فوق مرتبته فيه ويقول : فلان عالم حقا فيرفعه بذلك إلى أعلى مراتب العلم فمثل ذلك حقت محبتي على الرفعة لمن حقت له إلى أعلى مراتب محبته ومثل ذلك ما قد روي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قد رويناه فيما تقدم منا في كتابنا هذا من قوله لأهل نجران لما سألوه أن يبعث معهم رجلا أمينا فقال : لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين حق أمين فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وكان ذلك إخبارا منه إياهم أنه قد بعث معهم من هو في أعلى مراتب الأمانة ، ثم وكد ذلك بقوله لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ، وقد ذكرنا ذلك أيضا بأسانيده فيما تقدم منا في كتابنا هذا . والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية