الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                      76- وقال: تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان .

                                                                                                                                                                                                                      فجعلها من "تتظاهرون" وأدغم التاء في الظاء وبها نقرأ. وقد قرئت: "تظاهرون" مخففة بحذف التاء الآخرة؛ لأنها زائدة لغير معنى.

                                                                                                                                                                                                                      قال: وإن يأتوكم أسرى.

                                                                                                                                                                                                                      وقرئت: أسارى، وذلك لأن "أسيرا": فعيل وهو يشبه مريضا؛

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 136 ] لأن به عيبا كما بالمريض، وهذا فعيل مثله وقد قالوا في جماعة المريض مرضى، وقالوا: أسارى فجعلوها مثل سكارى وكسالى؛ لأن جمع فعلان الذي به علة قد يشارك جمع فعيل وجمع فعل نحو: حبط وحبطى وحباطى وحبج وحبجى وحباجى. وقد قالوا "أسارى" كما قالوا: "سكارى".

                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم :"تفدوهم".

                                                                                                                                                                                                                      من "تفدي" وبعضهم "تفادوهم" من "فادى" "يفادي" وبها نقرأ وكل ذلك صواب.

                                                                                                                                                                                                                      وقال: "فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي.

                                                                                                                                                                                                                      وقال: ما هذا إلا بشر مثلكم. "وما أمرنا إلا واحدة" رفع؛ لأن كل ما لا تحسن فيه الباء من خبر "ما" فهو رفع؛ لأن "ما" لا يشبه في ذلك الموضع بالفعل وإنما يشبه بالفعل في الموضع الذي تحسن فيه "الباء"؛ لأنها حينئذ تكون في معنى "ليس" لا يشركها معه شيء وذلك قول الله عز وجل : "ما هذا بشرا" وتميم ترفعه؛ لأنه ليس من لغتهم أن يشبهوا "ما" بالفعل.

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 137 ] وأما قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل) ثم قال: (وقولوا للناس حسنا) ثم قال: (ثم توليتم من بعد ذلك) فلأنه خاطبهم من بعدما حدث عنهم وذا في الكلام والشعر كثير. قال الشاعر: [ كثير عزة ]:


                                                                                                                                                                                                                      (113) أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت

                                                                                                                                                                                                                      وإنما يريدون "تقليت". وقال الآخر: [ عنترة ]:


                                                                                                                                                                                                                      (114) شطت مزار العاشقين فأصبحت     عسرا علي طلابك ابنة مخرم

                                                                                                                                                                                                                      إنما أراد "فأصبحت ابنة مخرم عسرا علي طلابها". وجاز أن يجعل الكلام كأنه خاطبها لأنه حين قال: "شطت مزار العاشقين" كأنه قال: "شططت مزار العاشقين" لأنه إياها يريد بهذا الكلام. ومثله مما يخرج من أوله قوله: [ المخيس بن أرطأة الأعرجي ]:


                                                                                                                                                                                                                      (115) إن تميما خلقت ملموما



                                                                                                                                                                                                                      فأراد القبيلة بقوله: "خلقت" ثم قال "ملموما" على الحي أو الرجل، ولذلك قال:

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 138 ]

                                                                                                                                                                                                                      مثل الصفا لا تشتكي الكلوما

                                                                                                                                                                                                                      ثم قال:


                                                                                                                                                                                                                      قوما ترى واحدهم صهميما

                                                                                                                                                                                                                      فجاء بالجماعة لأنه أراد القبيلة أو الحي ثم قال:


                                                                                                                                                                                                                      لا راحم الناس ولا مرحوما

                                                                                                                                                                                                                      وقال الشاعر [خفاف بن ندبة]:


                                                                                                                                                                                                                      (116) أقول له والرمح يأطر متنه     تأمل خفافا إنني أنا ذلكا

                                                                                                                                                                                                                      و"تبين خفافا"، يريد: "أنا هو". وفي كتاب الله عز وجل: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) فأخبر بلفظ الغائب وقد كان في المخاطبة لأن ذلك يدل على المعنى. وقال الأسود :


                                                                                                                                                                                                                      (117) وجفنة كإزاء الحوض مترعة     ترى جوانبها بالشحم مفتوقا

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 139 ] فيكون على أنه حمله على المعنى أي: يرى كل جانب منها، أو جعل صفة الجميع واحدا كنحو ما جاء في الكلام. وقوله يأطر متنه" يثني متنه. وكذلك: (الحمد لله رب العالمين) ثم قال: (إياك نعبد) لأن الذي أخبر عنه هو الذي خاطب. قال رؤبة :


                                                                                                                                                                                                                      (118 ) الحمد لله الأعز الأجلل     أنت مليك الناس ربا فاقبل

                                                                                                                                                                                                                      وقال زهير :


                                                                                                                                                                                                                      (119) فإني لو ألاقيك اجتهدنا     وكان لكل منكرة كفاء
                                                                                                                                                                                                                      فأبرئ موضحات الرأس منه     وقد يشفي من الجرب الهناء

                                                                                                                                                                                                                      وقال الله تبارك وتعالى: (ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون) فذكر بعد التأنيث كأنه أراد: هذا الأمر الذي كنتم به تستعجلون. ومثله: (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت) فيكون هذا على: الذي أرى ربي أي: هذا الشيء ربي. وهذا يشبه قول المفسرين: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) قال: إنما دخلت "إلى" لأن معنى "الرفث" و"الإفضاء" واحد، فكأنه قال: "الإفضاء إلى

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 140 ] نسائكم"، وإنما يقال: "رفث بامرأته" ولا يقال: "إلى امرأته" وذا عندي كنحو ما يجوز من "إلى" في مكان "الباء" في مكانها وفي مكان "على" في قوله: (فأثابكم غما بغم) إنما هو "غما على غم": (ومن أهل الكتاب.... من إن تأمنه بدينار) أي: "على دينار" كما تقول: "مررت به" و"مررت عليه" كما قال الشاعر: - [ القحيف العقيلي ] وأخبرني من أثق به أنه سمعه من العرب -:


                                                                                                                                                                                                                      (120) إذا رضيت علي بنو قشير     لعمر الله أعجبني رضاها

                                                                                                                                                                                                                      يريد: "عني". وذا يشبه: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) لأنك تقول: "خلوت إليه وصنعنا كذا وكذا" و"خلوت به". وإن شئت جعلتها في معنى قوله: (من أنصاري إلى الله) أي: "مع الله"، وكما قال: (ونصرناه من القوم) أي: "على القوم"

                                                                                                                                                                                                                      وقال: (ثم أنتم هؤلاء) وفي موضع آخر: (ها أنتم هؤلاء) كبعض ما ذكرنا وهو كثير في كلام العرب. ورد التنبيه توكيدا. وتقول: "ما أنا هذا" و"ما أنت هذا" فتجعل "هذا" للذي يخاطب، وتقول: "هذا أنت". وقد جاء أشد من ذا. قال الله عز وجل: (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) والعصبة هي التي تنوء بالمفاتيح. قال:

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 141 ] (121) تنوء بها فتثقلها عجيزتها

                                                                                                                                                                                                                      يريد: "تنوء بعجيزتها، أي: لا تقوم إلا جهدا بعد جهد" قال الشاعر [ الأخطل ]:


                                                                                                                                                                                                                      (122) مثل القنافذ هداجون قد بلغت     نجران أو بلغت سواتهم هجر

                                                                                                                                                                                                                      وهو يريد: إن السوءات بلغت هجرا، و "هجر" رفع لأن القصيدة مرفوعة ومثل ذا قول الشاعر: [ خداش بن زهير ]:


                                                                                                                                                                                                                      (123) وتلحق خيل لا هوادة بينها     وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر

                                                                                                                                                                                                                      والضياطرة هم يشقون بالرماح. و"الضياطرة" هم العظام وواحدهم "ضيطار" مثل "بيطار" ومثل ذلك قول الشاعر: [ النابغة الذبياني ]:


                                                                                                                                                                                                                      (124) لقد خفت حتى ما تزيد مخافتي     على وعل بذي الفقارة عاقل

                                                                                                                                                                                                                      يريد: حتى ما تزيد مخافة وعل على مخافتي.

                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية