الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      بسم الله الرحمن الرحيم [ ص: 3 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن كان في الأرض معدن باطن كمعدن الذهب والفضة دخل في البيع ; لأنه من أجزاء الأرض وإن كان معدنا ظاهرا كالنفط والقار فهو كالماء مملوك في قول أبي علي بن أبي هريرة ، وغير مملوك في قول أبي إسحاق ، والحكم في دخوله في البيع على ما بيناه في الماء ، وإن باع أرضا وفيها ركاز أو حجارة مدفونة لم تدخل في البيع ; ; لأنها ليست من أجزاء الأرض ، ولا هي متصلة بها ، فلم تدخل في بيعها ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) والنفط والقار ( أما الأحكام ) ففيه مسألتان ( إحداهما ) المعدن على قسمين : باطن وظاهر ، وقال القاضي أبو الطيب والماوردي : جامد وذائب . ( القسم الأول ) الباطن قال صاحب الاستقصاء : أي غير متميز عن الأرض كالذهب والفضة والفيروزج والرصاص والنحاس وسماها القاضي أبو الطيب والماوردي : معادن الجامدات فيدخل في بيع الأرض جزما لما ذكره المصنف ، ولا فرق بين المعدن المذكور وبقية أجزاء الأرض ، إلا أن بعض الأجزاء أفخر عن بعض ، ولا يجوز بيع معدن الذهب بالذهب ، ولا معدن الفضة بالفضة ويجوز بغير الأثمان قولا واحدا ، وهل يجوز بيع معدن الذهب أو معدن الفضة بالذهب ؟ فيه قولا الجمع بين بيع وصرف قاله الروياني . [ ص: 4 ] والقسم الثاني ) المعدن الظاهر أي المتميز عن الأرض ، وهي أعين للمائع ، كالنفط والقار والموميا والملح والكبريت والزئبق ، والكلام فيه كالكلام المتقدم في الماء حرفا بحرف ، وممن ذكر المسألة كما ذكرها المصنف الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي والمحاملي والرافعي وغيرهم ، وجزم الغزالي في الوسيط بعدم الدخول فيه مع حكاية الخلاف في الماء ، قال ابن الرفعة : وحمله على ذلك قول الإمام : إذا باع الأرض وفيها معدن ، فما يتجدد بعد البيع للمشتري ، وما كان مجتمعا فهو للبائع ولا تردد فيه ، بخلاف الماء ، فإن من الناس من قال : لا يملك ( قلت : ) فإن أراد الإمام أن من الناس من لا يملك أصلا ولا بالحيازة كما هو وجه بعيد حكاه هو فصحيح ، أن ذلك الوجه لا جريان له في المعدن ، لكن لا أثر لذلك في مسألتنا ; لأن الكلام ما دام في مقره قبل الحوز ، وإن أراد به لا يملك ما دام في البئر ، فالمعدن كذلك عند أبي إسحاق القائل بذلك في الماء ، كما صرح به المصنف هنا وغيره ، وهذا الذي ذكرناه في بيع الأرض المشتملة على المعدن جار بعينه في بيع الدار المشتملة على المعدن ، وفي الدار فرض الغزالي المسألة في الوسيط .



                                      ( المسألة الثانية ) إذا باع أرضا فيها ركاز أي كنز مدفون من ذهب أو فضة أو خشب أو آجر أو حجارة مدفونة أو غير ذلك سواء كان من دفين الجاهلية أو من دفين الإسلام لا يدخل في البيع ، ولا يحل للمشتري أخذه إذا وجده ; لأن ذلك ليس من أجزاء الأرض ولا من نمائها ولا متصلا بها ، فلم يدخل كمتاع البيت والطعام الذي فيه ( والظاهر ) أنه لمن ملكت منه الدار ، فإذا ادعاه فهو له ، وإن لم يدعه فهو لمن ملكه البائع منه ، وعلى هذا أبدا ، هكذا ذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهم من الأصحاب .



                                      ( المسألة الثالثة ) الأحجار على ثلاثة أقسام : ( الأول ) أن تكون مخلوقة في الأرض ، فتدخل في بيع الأرض كما يدخل قرار الأرض وطينها ، ثم هي على ثلاثة أضرب : ( الأول ) أن يضر بالزرع والغرس جميعا فهو عيب إذا كانت مما يقصد لذلك ، وفيه وجه أنه ليس بعيب وإنما هو فوات فضيلة ، وشرط الماوردي والمتولي في كون ذلك عيبا أن تكون الأرض مبيعة بغير الغراس والزرع ، قال المتولي : فلو اشتراها للبناء فهي أصلح له [ ص: 5 ] فلا خيار ، وينبغي أن يحمل كلامهما على ما إذا لم يكن مقصوده الزرع ، وإلا فالبيع لا يعين جهة المنفعة فيه ، وليس كالإجارة . ( الضرب الثاني ) يضر بالغراس دون الزرع لوصول عروق الغراس إليها دون الزرع فوجهان : ( أحدهما ) أنه عيب ( والثاني ) : ويحكى عن أبي إسحاق المروزي - أنه ليس بعيب ولا خيار فيه ; لأن الأرض إذا كانت تصلح للغرس دون الزرع أو الزرع دون الغرس لم يكن ذلك عيبا لكمال المنفعة بأحدهما ، قال الروياني : وكذلك لو كانت تصلح للغرس دون الزرع ، قال الماوردي : ( والأصح ) عندي أن ينظر في أرض تلك الناحية ، فإن كانت مرصدة للزرع أو بعضها للغرس وبعضها للزرع فليس هذا بعيب ، وإن كانت مرصدة للغرس فهذا عيب ; لأن العرف المعتاد يجري مجرى الشرط ، قال : ولعل اختلاف الوجهين محمول على هذا التفصيل ، فلا يكون في الجواب اختلاف ، لكن ذكرت ما علي وبينت ما اقتضته الدلالة عندي .

                                      ( قلت : ) وهذا حسن ووافقه الغزالي فيه ، وهو يقتضي أنها إذا كانت في موضع غير معد للزرع ولا للغرس كالأراضي بين البنيان في كثير من المواضع ; فيكون فوات منفعة الزرع والغرس جميعا فيها ليس بعيب ، ولذلك شرطنا في أول الكلام تبعا للرافعي أن تكون مقصودة للغراس والزرع ، واستثنى هو أيضا أن تكون الأرض مبيعة لغير الغراس والزرع والله أعلم . ( الضرب الثالث ) أن لا تكون مضرة بالغراس ولا بالزرع لبعد ما بينهما وبين وجه الأرض فليس هذا بعيب ، ولا خيار للمشتري . ( القسم الثاني ) من أحوال الحجارة : أن تكون مبنية في الأرض كالتي تكون في أساسات الجدارات وما أشبهها ، فهي داخلة في البيع أيضا ; لأنها موضوعة للاستدامة ، وهذا على المذهب في أن بيع الأرض يستتبع البناء ، والطرق التي تقدمت في ذلك جارية فيه حرفا بحرف ، كما اقتضاه كلام الإمام وغيره ، قال في البحر : وكذلك إن كان البناء منهدما أو كانت في طي بئر خراب ، وهذا الكلام في الدخول ( وأما ) كونها عيبا فقد جعلها الرافعي من الشرط في كونها عيبا إذا كانت مضرة بالغراس والزرع كالمخلوفة .

                                      وأما الماوردي فإنه قال : [ ص: 6 ] إن الغالب فيما بني على الأرض من حجر أنه غير مضر بزرع ولا غرس ; لأن العروق جارية في مسناة الأرض ومشاربها ، قال : فإن كانت كذلك فلا خيار ، وإن كانت مبنية بخلاف العرف في موضع مضر بالزرع فللمشتري الخيار على ما مضى إلا أن يسهل قلعها لقصر المدة وقلة المؤنة فلا خيار . أما إذا أثبتنا الخيار فاختار إتمام البيع ، فإنه يمسك الأرض والحجارة بجميع الثمن . ( القسم الثالث ) : أن تكون مدفونة فيها كما فرضه المصنف ، وقيل : إن ذلك كان عادة أهل الحجاز ينحتون الأحجار ويدفنونها إلى وقت الحاجة إليها ولا خلاف أنها لا تدخل في بيع الأرض كالكنوز والأقمشة ، نص عليه الشافعي رضي الله عنه والأصحاب وقول المصنف : ليست من أجزاء الأرض احتراز من المعدن ( وقوله : ) ولا هي متصلة بها احتراز من البناء والغراس ، ثم لا يخلو المشتري : إما أن يكون عالما بالحال أو جاهلا ، إن كان عالما فلا خيار له في فسخ العقد ، وإن تضرر بقلع التابع سواء كانت الأرض خالية عن غراس وبناء أو غير خالية ، ودخل في العقد إما تبعا أو مع التصريح ، وللبائع النقل ، وإن أضر بالمشتري بأن كان تنقص قيمة الأرض أو الغراس أو الزرع الداخل في العقد أو الذي أحدثه المشتري بعده أو لم ينقص ، وإن أبى البائع القلع فللمشتري إجباره عليه ، سواء كان تبقيتها تضر أو لا وفي الوسيط حكاية وجه أنه إذا لم يتضرر لم يجبره على النقل ، وسيأتي مثله فيما إذا كان جاهلا ( والصحيح ) الأول ، وإن للمشتري إجبار البائع على القلع والنقل تفريغا لملكه بخلاف الزرع ، فإن له أمدا ينتظر ، ولا أجرة للمشتري في مدة القلع والنقل وإن طالت ، كما لو اشترى دارا فيها أقمشة وهو عالم بها لا أجرة له في مدة النقل والتفريغ ، ويجب على البائع إذا نقل تسوية الأرض .

                                      وإن كان المشتري جاهلا بالحجارة فللحجارة بالنسبة إلى الضرر في قلعها وتركها أحوال أربعة : ( أحدها ) أن يكون تركها غير مضر لبعدها عن عروق الغراس والزرع ، وقلعها غير مضر ; لأنه لم يحصل في الأرض غراس ولا زرع فالبيع لازم ، ولا خيار للمشتري ، وللبائع النقل ، وللمشتري إجباره عليه على المذهب ، وحكى الإمام وجها ضعيفا أنه لا يجبر والخيرة للبائع ، والمذهب الأول قال الأصحاب : فلو سمح بها للمشتري لم [ ص: 7 ] يلزمه القبول ; لأنها هبة محضة والرافعي أطلق تصوير المسألة في نفي الضرر فلم يحتج إلى زيادة على ذلك ، والماوردي أراد بالضرر الزرع والغراس ، فلذلك قال ما نذكره ملخصا من كلامه وكلام غيره ، وهو أنه إذا قلعها - فإن كان المشتري عالما بالحجارة - فلا أجرة له على البائع في مدة القلع ; لأن علمه بها يجعل قلعها مستثنى ، كتبقية ثمرة البائع على نخل المشتري ، وإن كان المشتري غير عالم بالحجارة فإن كان زمان القلع يسيرا لا يكون لمثله أجرة كيوم أو بعضه ، قاله الماوردي وغيره ، فلا أجرة على البائع وإن كان كثيرا كيومين وأكثر قاله البندنيجي فإن كان بعد قبض المشتري وجب على البائع أجرة المثل على الصحيح ، لتفويته على المشتري منفعة تلك المدة ، وهل يجب عليه تسوية الأرض وإصلاح حفرها بقلع الحجارة ؟ فيه طريقان : ( أحدهما ) القطع بالوجوب ، وهو قول الماوردي ( والثانية ) على وجهين في التتمة ، ولا خيار للمشتري ، كما لو قطع البائع يد العبد المبيع بعد القبض وجب الأرش ولا خيار .

                                      وإن كان قبل قبض المشتري ففي وجوب الأجرة على البائع وجهان : ( أحدهما ) نعم كما بعد القبض ( والثاني ) : ونسبه الماوردي إلى جمهور أصحابنا أنه لا أجرة عليه ; لأن منفعة الأرض قبل القبض مفوتة على المشتري بيد البائع على الأرض أخذا من أن جنايته كالآفة السماوية ( فأما ) تسوية الأرض وإصلاح حفرها ففيه طريقان ; قال الماوردي : فلا يجب على البائع وجها واحدا ، لكن يجب بذلك للمشتري خيار الفسخ ; لأنه عيب ، كما لو قطع البائع يد العبد المبيع قبل القبض وقال غيره : فيه وجهان .

                                      ( الحالة الثانية ) أن يكون تركها مضرا لقربها من عروق الغراس والزرع وقلعها مضر لما في الأرض من غراس وزرع ، فإن كان المشتري عالما بالحجارة وبضررها فلا خيار له في الفسخ ، ولا أجرة له في القلع ، وإن كان جاهلا إما بالحجارة وإما بضررها ، وإما في القلع وإما في الترك فله الخيار ، هكذا يقتضيه كلام الأصحاب وقال الرافعي : للمشتري الخيار سواء جهل أصل الأحجار أو كون قلعها مضرا فأغفل قسما آخر لم يشمله كلامه وهو ما إذا كان عالما بالأحجار ويكون قلعها مضرا ولكن جهل كون تركها مضرا فمفهوم كلامه أنه لا يثبت له [ ص: 8 ] الخيار ، وليس كذلك ; لأنه لا فرق بين ضرر الترك وضرر القلع في ذلك ، وقد يطمع في أن البائع يتركها فلا يحصل ضرر . إذا علم ذلك فإذا ثبت الخيار قال الأصحاب : لا يسقط خياره بأن يترك البائع الأحجار ، لما في بقائها من الضرر ، وهل يسقط الخيار بأن يقول للمشتري : لا تفسخ لأغرم لك أجرة مدة النقل ؟ فيه وجهان عن رواية صاحب التقريب ( أصحهما ) عند الإمام والرافعي لا ، كما لو قال البائع : لا تفسخ لأغرم لك الأرش ، ثم إن فسخ رجع بالثمن وإلا فعلى البائع النقل وتسوية الأرض ، سواء كان النقل قبل القبض أم بعده ، هكذا قال الرافعي ، وقد تقدم عن الماوردي أنه إذا كان قبل القبض لا تجب التسوية وجها واحدا بل يثبت به الخيار ، وكذلك صرح به ههنا هو والشيخ أبو حامد ، ورجحه الروياني ( أما ) بعد القبض فتجب التسوية على المشهور ، وقد تقدم ذكر وجهين في التتمة ، وفي أجرة النقل ثلاثة أوجه .

                                      ( ثالثها ) وهو الأظهر وهو قول أبي إسحاق المروزي على ما نقله أبو الطيب الفرق بين أن يكون النقل قبل القبض فلا يجب ، أو بعده فيجب ( والصحيح ) عند الشيخ أبي حامد أنها لا تجب مطلقا ، والكلام في وجوب الأجرة والتسوية في هذا القسم والذي قبله واحد وكذلك لم يتكلم الرافعي عليه إلا في هذا القسم .

                                      واعلم أن الرافعي - رحمه الله تعالى - أطلق الخلاف في وجوب الأجرة هكذا ومن جملة أقسام ما فرضه أن يكون عالما بالحجارة جاهلا بضررها ، مع أن الرافعي أطلق أولا أيضا أنه متى كان عالما بالحال فلا أجرة ، وقد يقع بين هذين الكلامين التباس ، فالصواب في بيان ذلك وتحرير حمل وجوب الأجرة ما قاله ، والقاضي أبو الطيب والماوردي جعلا محله إذا كان جاهلا بالحجارة وبضررها فإن كان عالما بالحجارة غير عالم بضررها فإنه يثبت له الفسخ لعدم علمه بالضرر ، ولا يستحق الأجرة ، وإن أقام لعلمه بالحجارة ، وإن العلم بها يجعل زمان قلعها مستثنى وكذلك قال في القسم الذي تقدم ، وينبغي أن ينزل كلام الرافعي على هذا التفصيل ، فإنه مع العلم [ ص: 9 ] بالحجارة يمنع إيجاب الأجرة كالثمرة المؤبرة وزمان تفريغ الدار من القماش وما أشبه ذلك قال الرافعي : ويجري مثل هذا الخلاف في وجوب الأرش لو بقي في الأرض بعد التسوية نقصان وعيب ، وكذا قاله القاضي حسين ، فسلكا بالأرش مسلك الأجرة ولم يسلكا ولا من وافقهما فيما تقدم بالتسوية مسلك الأجرة ، بل أوجبوها مطلقا ، وكذلك الشافعي رضي الله عنه في الأم أطلق وجوب التسوية وهو الذي قاله المحاملي والقاضي حسين والإمام ، وابن أبي هريرة أيضا أوجب التسوية قبل القبض ، ولم يوجب الأجرة كما فعل الرافعي ، وقد يقال في الفرق : إن المنافع والأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن ، فلذلك ثبت له الخيار فقط ; لأنه عيب ولم يضمن تخريجا على أن جناية البائع كالآفة السماوية .

                                      ( وأما ) الحفر في الأرض فإنه أذهب بعض أجزاء المبيع ; لأن التراب بعض الأرض فيجب عليه إعادتها ولذلك قال ابن الرفعة خيال ضعيف ، ثم هو غير مستمر ; لأن التراب الذي كان في موضع الحفر كان قد بان وسلك به مسلك الأجزاء ، فينبغي انفساخ العقد فيه وليس كذلك ، وإن كان باقيا قد أزاله عن ذلك الموضع عيب فرده من باب إزالة العيب ولا يلزمه ، وإيجاب عين أخرى يسوى بها الحفر أبعد - والله أعلم - وممن صرح بأن الأرش كالأجرة صاحب التقريب فيما حكاه عنه الإمام أنه حكى في الأرش الأوجه الثلاثة التي في الأجرة ، وقد جعل صاحب التتمة حكم التسوية قبل القبض مبنيا على جناية البائع ( إن قلنا ) كالآفة السماوية لم يجب ، وهذا يوافق ما ذكرناه عن الماوردي وهو الصواب وحكى صاحب التتمة وجهين في وجوب التسوية بعد القبض ; لأن التسليم في القدر المتصل بملكه لم يتم كما يقوله في وضع الجوائح ، والشافعي - رحمه الله تعالى - في الأم أطلق وجوب التسوية ، ولم يفصل بين ما قبل القبض وبعده ولذلك قال ابن الرفعة : إن الذي يقع في النفس صحته الجزم بوجوب التسوية ، والإجبار عليها [ ص: 10 ] كما هو ظاهر النص وقول الجمهور : ولا نظر إلى ما بعد القبض وقبله ، فإن التسوية عبارة عن الموضع الذي يجب تسليمه فيه إلى غيره وجب عليه إعادته إلى ذلك الموضع بلا خلاف وعقب الطلب ، انتهى .

                                      واعلم أن الشافعي والأصحاب رضي الله عنهم المطلقين وجوب التسوية لم يبينوا ما إذا كانت مواضع الأحجار تحتاج في تسويتها إلى تراب آخر هل يلزم البائع إحضاره من خارج ؟ أو تسويتها ببقية الأرض ؟ أو يعيد إلى تلك الحفر التراب الذي أخذ منها بالقلع خاصة ؟ وإن لم يحصل به سدها كما أشعر به كلام ابن الرفعة المتقدم ، لكن المفهوم من لفظ التسوية هذا القسم الآخر ، فإنه لا تسوية فيه لا سيما إذا كان مواضع الحجارة حفرا كبارا ، والتراب الذي فوق الحجارة يسير ، فإذا قلعت الحجارة بقي موضعها حفرا لا يسده ذلك التراب الذي فوقها ، ولا تتساوى ببقية الأرض ، فحمل التسوية على هذا المعنى فيه بعد وعلى تقدير إرادته يتجه الجزم بوجوب التسوية ، وفاء بمقتضى العقد ، وتسليم المعقود عليه على حاله ، وسواء في ذلك إذا لم يحصل بنقل التراب عن محله بالقلع عيب في الأرض أو حصل ولكن أجاز المشتري ، فإن الإجازة لا تمنع من المطالبة بتسليم عين أجزاء المبيع على حالها . وعلى هذا لو عدم ذلك التراب المنقول بالكلية وكان له قيمة ينبغي أن يكون كتلف بعض المعقود عليه .

                                      وإن كان المراد القسم الثاني ، وهو تسويته ببقية الأرض فبعيد ; لأنه لا يحصل بذلك إعادة المبيع إلى ما كان ، بل يتغير كله ، وإن كان المراد التسوية بالتراب المقلوع ، فإن لم يكف فبتراب جديد ، فحينئذ لا يتجه الجزم بوجوبه ; لأن إلزام البائع بتراب جديد لم يضع يده على مثله مع إجازة المشتري العقد بعيد ، بل الذي يتجه أن يقال : إن البائع يجب عليه كمال التسليم بمقتضى العقد ، ومن ضرورته قلع الأحجار وإزالة التراب اللازم ثم إعادته على ما كان فإن لم يحصل بذلك زيادة عيب فلا كلام ، وإن حصل عيب قبل القبض وكان المشتري قد أجبر البائع على القلع بعد اطلاعه على الأحجار ، وعلمه بالحال ، فلا شيء له غير رد التراب ; لأن إجباره على القلع رضا بما يحصل منه من العيب [ ص: 11 ] وإن جهل الحال - فإن حصل ذلك قبل القبض - ثبت له الخيار ، فإن فسخ فذاك ، وإن أجاز وجب التراب خاصة ، وإن كان بعد القبض وكان ذلك مع جهل المشتري بالحال ، فإن العقد لم يتضمنه ، وجهل المشتري أثبت له الخيار ، فإذا أسقطه بالإجازة لم يبق له شيء آخر ، ثم التعيب الحاصل من القلع إن فرض ، غايته أن يجعل لتقدم سببه كعيب حاصل في يد البائع ، والمشتري قد رضي به لما ألزم البائع بالقلع الذي ذلك التعيب من لوازمه ، فلا شيء له ، سواء كان قبل القبض أم بعده ، ولعل ذلك مأخذ الشيخ أبي حامد ومن وافقه في قولهم ، بأن التسوية لا تجب مطلقا قبل القبض وبعده ، ولكنه خلاف نص الشافعي رضي الله عنه ، وحينئذ اختار طريقة مفصلة وهي أن إعادة التراب الزائل بالقلع واجبة والزائدة على ذلك إن وقع ذلك قبل القبض وحصل به عيب خرج على جناية البائع ( والأصح ) أنها كالآفة السماوية فيقتصر على إثبات الخيار وإن كان بعد القبض فيتخرج على القطع في يد المشتري بالسرقة في يد البائع ( والأصح ) أنه من ضمان البائع فتجب التسوية إن وقع بغير مطالبة المشتري ، وإن وقع بمطالبة المشتري ففيه نظر ، وفي مأخذ الخلاف في الأرش ولزوم التسوية مزيد كلام مذكور في الغصب .

                                      هذا كله إذا كان لذلك الزمان أجرة ، وإلا فلا أجرة على ما تقدم قال الماوردي : وعلى جميع الأحوال ليس للبائع إقدام الحجارة في الأرض إن أقام المشتري على البيع ( والحالة الثانية ) أن لا يكون في قلعها ضرر ، ويكون في تركها ضرر ، فيؤمر البائع بالقلع والنقل ، ويجبر عليه ، ولا خيار للمشتري كما لو اشترى دارا فلحق سقفها خلل يسير يمكن تداركه في الحال ، أو كانت منسدة البالوعة فقال : أنا أصلحه وأنقيها ، لا خيار للمشتري ( قلت ) وههنا أولى بعدم الخيار ; لأن البائع مأخوذ بدفع الضرر عنه ، وهناك لا يلزم البائع الإصلاح وإزالة الخلل ، ثم إن الماوردي على عادته لما فسر الضرر بضرر الغراس والبناء قال : ثم القول في الأجرة وتسوية الأرض على ما مضى ، فإن أطلقت الكلام كما صنع الرافعي لم يحتج إلى ذلك ، وقد ذكر المصنف هذه الحالة في باب الرد بالعيب وسنشرحها هناك إن شاء الله تعالى . [ ص: 12 ]

                                      ( الحالة الرابعة ) : أن يكون في قلعها ضرر ولا يكون في تركها ضرر ، فللمشتري الخيار إذا كان جاهلا ، فإن أجاز ففي الأجرة والأرش ما مر ولا يسقط خياره بأن يقول : أقلع وأغرم الأجرة أو أرش النقص ، قال صاحب التهذيب : ويجيء فيه مثل الخلاف المذكور في الحالة الثالثة ، ولو رضي البائع بترك الأحجار في الأرض سقط خيار المشتري إبقاء للعقد ثم ينظر إن اقتصر على قوله : تركتها فهل هو تمليك أو مجرد إعراض لقطع الخصومة ؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي : وهما كالوجهين في ترك النعل على الدابة المردودة بالعيب ( أحدهما ) أنه تمليك ليكون في مقابلة ملك حاصل ( وأظهرها ) أنه قطع للخصومة لا غير ، وبالأول أجاب الماوردي وينبني على الوجهين ما لو قلعها المشتري يوما ما وأبدى للبائع في تركها هل يمكن من الرجوع ؟ والأكثرون أن له ذلك ، ويعود خيار المشتري ، وهو القياس ، وقال الماوردي والإمام : لا رجوع ، ويلزم الوفاء بالترك إلا إذا جرت حالة يزول فيها المعنى المقتضي للترك ، وقال الماوردي : لأنه يجري مجرى الإبراء الذي لا يجوز الرجوع فيه ، ولا يعتبر فيه القبول ، وادعى الإمام أنه لا خلاف فيه وإن قال : وهبتها منك فإن رآها قبل ووجدت شرائط الهبة حصل الملك ومنهم من طرد الخلاف لانتفاء حقيقة الهبة ، وإنما المقصود دفع الفسخ .

                                      وإن لم توجد شرائط الهبة ففي صحتها للضرورة ( وجهان ) إن صححناها ففي إفادة الملك ما ذكرنا في الترك ، قال أكثر هذا الكلام الإمام والرافعي رضي الله عنهما ، ولم يتعرض ; لأن المشتري يجبر على ذلك أولا وقد قال القاضي أبو الطيب : البائع إذا قال : وهبت الحجارة ففي إجبار المشتري على قبولها وجهان مبنيان على القولين فيما إذا باع ثمرة فحدثت ثمرة أخرى واختلطت بالأولى فوهبها هل يجبر على قبولها ؟ فيه قولان ( إن قلنا : ) لا يجبر فلأنها هبة مجهولة فلا تصح ، وأيضا فلا يجبر على قبول ملك غيره ( والثاني ) يجبر ; لأن بقبولها يزول الضرر . ( فإن قلنا ) لا يجبر ، فعلى البائع نقلها ، فإن لم يسمح البائع بترك الأحجار ثبت للمشتري الفسخ ، فإن فسخ رجع بالثمن ، وإن أقام فهل للبائع القطع ؟ نظر إن كانت الأرض بيضاء أو مغروسة [ ص: 13 ] بغرس متقدم على البيع أو متأخر فله ذلك ، ثم الحكم فيه يأتي إن شاء الله تعالى . وإن كانت مزروعة بزرع المشتري قال الماوردي : فعلى البائع ترك الأحجار إلى انقضاء مدة الزرع ; لأنه زرع غير متعد به قلما يقلع قبل حصاده ، فإذا حصد المشتري زرعه قلع البائع حينئذ حجارته ، ولزمه أجرة الحجارة بعد القبض وتسوية الأرض ، ووافقه صاحب التهذيب فقال : إذا كان فوق الأحجار زرع للبائع أو للمشتري فإنه يترك إلى أوان الحصاد ; لأن له غاية بخلاف الغراس ، قال الرافعي : ومنهم من سوى بينه وبين الغراس . ( فرع ) تقدم أنه إذا لم يكن في القلع ضرر أو كان فيه ضرر يسير يمكن تداركه عن قرب أنه لا خيار للمشتري ومحل ذلك على ما يقتضيه كلامه إذا بادر البائع إليه ، فلو تقاعد عنه كان للمشتري الخيار ، قال ابن الرفعة : وقد يقال : بل يجبر على ذلك كما يقتضيه كلام الغزالي وغيره ، تبعا لظاهر النص ، يعني في وجوب تسوية الأرض على البائع ; لأن في ذلك محافظة على إتمام العقد .



                                      ( فرع ) في هذه الحالة فأما الغراس الذي وعدت بذكر حكمه إذا أقام المشتري على البائع وليس فيها زرع وكان فيها غراس فإن للبائع قلع حجارته مطلقا ثم لا يخلو إما أن يكون ذلك الغرس متقدما على البيع قد دخل ، وإما أن يكون المشتري استجده ، فإن كان متقدما فإن قلعها بعد القبض فعليه الأجرة على الصحيح وأرش النقص وتسوية الأرض على ما تقدم ، وتعيب الأشجار بالأحجار كتعيب الأرض في إثبات الخيار وسائر الأحكام ، وإن كان قبل القبض لم يلزمه التسوية ولا أرش النقص على ما تقدم ، وقد مر في مثله كلام الرافعي ومن وافقه ، وفي الأجرة وجهان ( أصحهما ) لا ، ولو سمح البائع بترك الأحجار وكان القلع والترك يضران ، ففي ثبوت الخيار وجهان ، حكاهما المحاملي ( أصحهما ) الثبوت ; لأنه ابتاع أرضا على أن فيها غراسا ، فإذا خرجت على خلاف ذلك فقد لحقه نقص وضرر ، هكذا قال ، وفي نظيرها فيما إذا كانت الأرض بيضاء لم يتقدم لنا خلاف في سقوط الخيار ، وقال الإمام في الأرض المغروسة فيما إذا كان القلع يضر دون الترك ، وسمح البائع بالترك حتى لا يتعيب الغراس بالقلع ; لأن الأئمة أجمعوا على أن الخيار يبطل ، وإن كان [ ص: 14 ] الغراس أحدثه المشتري بعد الشراء فإن أحدثه عالما بالأحجار فللبائع جميع الأحجار ، وليس عليه ضمان قلع الغراس وسقط خيار المشتري ، وإن أحدثه جاهلا ففي ثبوت الخيار وجهان : ( وجه ) : الثبوت لأن الضرر ناشئ من إيداعه الأحجار في الأرض ( والأصح ) أنه لا يثبت لرجوع الضرر إلى غير المبيع ، وبناهما القاضي حسين على ما إذا باع شجرة عليها ثمرة بعد بدو الصلاح ثم حدثت ثمرة أخرى واختلطت بالمبيعة ، قال الروياني : فإن كان قلعها يضر وتركها لا يضر ، وسمح البائع بالحجارة للمشتري أجبر على قبولها ولا خيار له ، فإن كانت الأرض تنقص بالحجارة أيضا فإن لم يورث الغرس وقلع المغروس نقصانا في الأرض ، فله القلع والفسخ ، وإن أورث القلع أو الغرس نقصانا فلا خيار في الفسخ ، إذ لا يجوز له رد المبيع ناقصا ، ولكن يأخذ الأرش وإذا قلع البائع الأحجار فانتقص الغراس فعليه أرش النقص بلا خلاف . هذا ما قاله الرافعي .

                                      وقال المحاملي : لا فرق بين أن يغرس البائع ويبيع أو يبيع بلا غراس ثم يغرس المشتري ، وقال الماوردي : وإن كان الغراس استحدثه المشتري بعد البيع فهذا لا يكون إلا بعد القبض فيلزمه - يعني البائع - الأجرة ونقص الغرس وتسوية الأرض ، والتفصيل الذي قاله الرافعي أولى ، وما قاله الماوردي من أن ذلك لا يكون إلا بعد القبض وكذلك قال في الزرع ، فكان ذلك محمول على الغالب ، وإلا فيمكن أن يحصل للمشتري في الأرض المبيعة قبل قبضها غرس أو زرع ، وحينئذ يعود الكلام في وجوب الأجرة ، وجميع ما سبق من الأحكام التي تختلف قبل القبض وبعده . وأما أرش نقص الغراس هنا فإنه واجب على كل تقدير ; لأن الغراس ليس بمبيع حتى يخرج على جناية البائع قبل القبض . وهذه الأحكام التي ذكرتها في الغراس والزرع ذكرها الماوردي في هذه الحالة الرابعة ، والرافعي ذكرها ذكر ما لا اختصاص له بها ولا شك أنها قد تأتي في غيرها كما لو لم يجبر المشتري البائع على القلع في الحالة الأولى أو في الحالة الثالثة ، فإن القلع يكون جائزا للبائع ، ويأتي فيه من التفصيل ما ذكر ههنا ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) تكلم الإمام وقبله القاضي حسين في أنهم أوجبوا تسوية الحفر على البائع ؟ وعلى الغاصب إذا حفر في الأرض المغصوبة ؟ [ ص: 15 ] ولم يوجبوا على من هدم الجدار أن يعيده ؟ وإنما أوجبوا الأرش ؟ وأجابا عنه بأن طم الحفر لا يكاد يتفاوت ، وبنيان الأبنية يختلف ويتفاوت ، فشبه ذلك بذوات الأمثال وهذا بذوات القيم حتى لو رفع لبنة أو لبنتين من رأس الجدار وأمكن الرد من غير اختلاف في الهيئة كان ذلك كطم الحفر .



                                      ( فرع ) ذكره المحاملي هنا قال أبو إسحاق : إذا باع عبدا فقال المشتري : هو آبق ، وقال البائع : أنا أحضره الساعة وأحضره ; لم يكن للمشتري خيار ( قلت : ) وصورة ذلك كما صرح به غيره ما إذا اشترط البائع الإباق ثم أبق في يد البائع قبل القبض ، فإذا أمكنه رده عن قرب لم يثبت الخيار



                                      ( فرع ) ذكر الإمام في آخر كلامه كالضابط لما تقدم أنه مهما فرض ضرر لا يندفع فإن كان المشتري عالما فلا خيار ولا أرش ، فإن كان جاهلا ثبت الخيار ، فإن فسخ فذاك ، وإن أراد ، وأراد إلزام البائع أرش النقص وإن لم يتمكن البائع من دفع الضرر بترك الحجر ، وكان الضرر في تركه ونقله ، ففي الأرش الأوجه من جهة أن المشتري يجد خلاصها بالفسخ ، فهو كاطلاعه حالة العقد ، وأن النقص ظهر بعد العقد بفعل منشؤه البائع ، إما قبل القبض أو بعده مستندا إلى سبب متقدم كقتل العبد المرتد ، وإن تمكن من دفع الضرر بترك الحجر فلا يلزمه الترك ، ولكن لو فعل وظهر الضرر فمن أصحابنا من قال في تغريم البائع ما تقدم من الخلاف ، ومنهم من يقطع بتغريمه في هذا القسم ثم ينتظم على هذا تعطل المنافع من غير نقص في رقبة المبيع وقد ذكروا الخلاف في الأجرة فما وجه ترتبها ؟ والفرق لائح ؟ فإن المنافع ليست معقودا عليها ، ولو قيل : القدر الذي يفرغ البائع فيه المبيع غير داخل في استحقاق المشتري لم يكن بعيدا ، والمبيع كله مستحق للمشتري بأجزائه وصفاته .



                                      ( فرع ) تقدم أن الأصح في الأجرة أنها لا تجب قبل القبض ، وتجب بعده ، وأن ذلك قول أبي إسحاق المروزي على ما نقل أبو الطيب ، وفي البحر قال الماسرجسي : قال إسحاق في بغداد قبل خروجه [ ص: 16 ] إلى مصر : له الأجرة ، يعني قبل القبض ، قال القاضي الطبري : وهذا محتمل عندي ; لأنه نص في البويطي على أن البائع إذا قطع يد العبد المبيع فالمشتري بالخيار بين الفسخ والإجازة مع الأرش ، فإذا نص في الأرش فالأجرة مثله ، وبنى القفال ذلك على أن جناية البائع كالآفة السماوية أو كجناية الأجنبي .



                                      ( فرع ) تقدم الكلام في أن للمشتري الخيار عند وجود شروطه المتقدمة ، وأن الأجرة والأرش يفصل فيهما بين ما قبل القبض وبعده ، وهل يثبت خيار للمشتري بنقص الأرض بالقلع ؟ تقدم عن الماوردي فيما قبل القبض أنه يثبت ، وذلك ظاهر ; لأنه عيب حدث قبل القبض وقال الروياني : إنه إن كان بعد القبض فيثبت أيضا ; لأن سببه كان موجودا قبل القبض .



                                      ( فرع ) إذا اختار المشتري الإمساك فيما إذا كانت الأرض المذكورة مشتملة على شجر داخل في البيع وكان قلع الحجارة يضر وتركها يضر ، فالحكم في التسوية والأجرة على ما تقدم وفي أرش النقص طرق حكاها الروياني . ( أحدها ) لا أرش ; لأنه رضي بالنقص وقال أبو إسحاق : هو كالأجرة إن كان قبل القبض لم يلزم وإن كان بعده لزم وقال ابن سريج : بعد القبض يلزم قولا واحدا وقبله قولان . وقال بعض أصحابنا بخراسان : فيه وجهان قبل القبض وبعده والأصح أنه يجب .



                                      ( فرع ) قال الروياني : فلو كان قلع الأشجار يضر وتركها لا يضر ، واختار البائع الترك ، لا خيار للمشتري ، وهل تملك بالترك ؟ على ما تقدم وقال القفال : لو قلع المشتري تلك الأحجار بعد ذلك فهل للبائع قلع الأحجار ؟ وجهان مبنيان على ما لو أتلف حنطة فلم يوجد مثلها فغرم المثل ، ثم وجد المثل ، هل له رد القيمة ومطالبته بالمثل ؟ وجهان ، وإن اختار القلع فللمشتري الخيار ; لأنه يضر بالمبيع ، ولا فرق بين أن يقول له البائع : أنا أعطيك أرش النقص أو لم يقل وليس كما إذا اختار الترك ، فإنه لا نقص في الترك ، فإن اختار المشتري الإمساك فالحكم في التسوية والأجرة وأرش النقص على ما مضى .



                                      [ ص: 17 ] فرع ) إذا غرس المشتري بعد العلم بالحجارة سقط رده كما تقدم ، ثم إن كان قلع الأحجار وتركها مضرين فللبائع القلع وللمشتري المطالبة به ، ثم إذا قلع قال الروياني : يلزم البائع أرش النقص قولا واحدا ; لأنه حول ملكه عن الأرض بإدخال النقص على الغير ، فإن كان مراد الروياني نقص الأرض فظاهر ، وإن كان المراد نقص الغراس فقد تقدم عن الرافعي خلافه ، وأنه لا يضمن نقصه وذلك هو الظاهر ، فإنه متعد بالغرس ، والله أعلم وإن كان قلعها يضر وتركها لا يضر فإن اختار القلع قال الروياني : فعليه أرش النقص قولا واحدا ، والكلام فيه كما تقدم ، وليس مراده إلا الغراس فإنه قال عقيب ذلك وكيفية التقويم أن يقال : كم يساوي هذا الشجر ولا نقص ؟ فيقال : مائة ، فيقال : وكم يساوي وبه هذا النقص ؟ فيقال : تسعون فيقول : نقص العشر ، فتلزم حصته من القيمة ، وإن اختار البائع الترك فهل يملكها المشتري ؟ فعلى ما ذكرنا



                                      ( فرع ) قال الروياني وغيره : ولو كان البائع زرع فيها زرعا وباعها مع الزرع وتحتها أحجار يعني والمشتري جاهل بها فليس للبائع أن يقلع الأحجار ما لم يحصد الزرع إذا كان قلعها يضر بالزرع ، وإن الزرع يختص بالبائع فالضرر يختص به والخيار إليه .



                                      ( فرع ) قال الغزالي رحمة الله عليه فيما نقل ابن أبي الدم : إن العراقيين نقلوا أنه يجب على الغاصب أرش نقصان الحفر ، ويريد به : ولا يلزمه التسوية وفي مسألة البيع يلزمه التسوية ، ومعناه : ولا يلزمه أرش النقص ، واختلف الأصحاب في ذلك على طريقين منهم من قال : يلزمه أرش النقص في المسألتين دون تسوية الحفر فيهما ، ومنهم من قال : يلزمه التسوية في المسألتين دون أرش النقص ومنهم من فرق بعدوان الغاصب فيلزمه الأرش بخلاف البائع فيلزمه التسوية .



                                      ( فرع ) زرع المشتري الأرض ولم يعلم أن تحتها حجارة ، وفي قلعها هلاك الزرع ، لم يمكن البائع من قلعها ; لأن للزرع غاية فيؤمر بالتوقف بخلاف الغراس ، قاله صاحب التتمة وغيره ، ونص عليه [ ص: 18 ] الشافعي رضي الله عنه . وكذلك فيما إذا علم المشتري بالحجارة وترك البائع القلع ، ثم أراده بعد زرع المشتري لم يكن له ذلك حتى يحصده المشتري ، كما حمل ابن الرفعة نص الشافعي عليه ، قال الرافعي : ومن الأصحاب من يسوي في الحالتين بينه وبين الغراس .



                                      ( فرع ) شبه المتولي الخلاف في ثبوت الخيار إذا اشترى الأرض وغرسها بعد الشراء ثم ظهر فيها أحجار بما إذا باع الشدجرة وبقى لنفسه الثمرة ، فحدثت ثمرة أخرى واختلط بها ، فمن قال هناك يجعل الحادثة كالمبيعة في حكم الاختلاط قال ههنا : إن الضرر الذي يلحقه في الغراس الحادث كالضرر الذي يلحقه في الأشجار المشتراة يعني ; لأنه استحق بالشراء أن يغرس فيها ، فجعلنا الضرر الذي يلحقه في حق من حقوق المبيع كالضرر الذي يلحقه في نفس المبيع ، قال : وأصل المسألتين إذا اشترى جارية فوطئها ، ثم استلحقت فغرم المهر هل يرجع بالمهر على البائع أم لا ؟ فعلى قول يرجع ; لأنه ضمن له سلامة الوطء فإذا لم يسلم يرجع عليه ، وكذا هنا ضمن له سلامة غراسه ، والثمار الحادثة ، فجعلنا الخلل الحاصل في واحد منهما كالخلل في عين المبيع ، وفرض المتولي المسألة فيما إذا كان قلعها يضر بالغراس ، وتركها لا يضر ، وقد تقدم حكاية الخلاف عن الرافعي في ثبوت الخيار مطلقا .



                                      ( فرع ) قال الشيخ أبو محمد الجويني في السلسلة لما ذكر الوجهين في وجوب الأجرة على البائع للمدة التي مضت في نقل الحجارة ، وبناهما على أن جناية البائع كالآفة السماوية ، وكجناية الأجنبي قال : فإن قيل : القبض هنا حاصل ، والمذهب لا يختلف أن جناية البائع بعد القبض كجناية الأجنبي ، وإنما القولان قبل القبض ( قلنا : ) البائع إذا سلم الأرض وفيها حجارة مستودعة مانعة من الانتفاع فإنها مانعة من كمال صفة القبض فلذلك ألحقناها بالحالة الأولى ، وهذا الذي قاله الشيخ قد تقدمت الإشارة إليه ، ولكني أحببت نقله من كلامه .



                                      ( فرع ) من تتمة الكلام في المسائل المتقدمة لو كان الغراس داخلا في بيع الأرض ، ونقل الحجارة مضر به ، قال الإمام : وليس [ ص: 19 ] لقائل أن يقول في حالة الجهل وإضرار الغراس ونحوه : إنه يمتنع عليه النقل وفاء بموجب البيع ، وقياما بتسليم الأرض والأشجار له .



                                      ( فرع ) قال الرافعي رحمه الله : لو باع دارا في طريق غير نافذ دخل حريمها في البيع ، وفي دخول الأشجار الخلاف الذي سبق ، وإن كان في طريق نافذ لم يدخل الحريم والأشجار في البيع ، بل لا حريم لمثل هذه الدار ، كذا ذكرها الرافعي قال : إذا قال : بعتك هذا البستان أو الباحة دخل في البيع الأرض والأشجار والغراس ، وكل ما له من النبات أصل لا خلاف في المذهب في ذلك ، وفي دخول البناء الذي فيه ما سبق في دخوله تحت الأرض ، وقال الغزالي : إن الأظهر عدم الدخول جريا على قاعدته ( وأما ) على المذهب فإنه يدخل ، وإن قيل بالجزم بالدخول كان له وجه فإن البستان وإن كان قد يخلو عن البناء ولكنه إذا كان مشتملا عليه تناول اسمه جميع ذلك ، وهو كالاحتمال الذي في دخول الشجر في بيع الدار ، وهو ههنا أقوى ; لأن اشتمال البساتين على البناء أكثر من اشتمال الدور على الأشجار غالبا ، ويندر أن يكون بستان لا بناء فيه . وجزم الرافعي بدخول الحائط ولا وجه لذلك ، بل هي من جملة الأبنية ، فالجزم فيها مع طرد الخلاف في غيرها غير متجه ، ولا مساعد عليه عند الأكثرين ، هذا والماوردي أطلق طرد الخلاف في البناء من غير تفصيل ، والروياني في البحر صرح بأن البناء والجدار المحيط على الطرق ، وأن بعض أصحابنا قال : يدخل الجدار المحيط قولا واحدا وهو ضعيف عندي ، وجزم القاضي أبو الطيب بدخول البناء في بيع البستان مع ذكر الخلاف في دخول النخلة والشجرة في بيع الدار ، وذلك يشهد لما قلته الآن من الفرق وتقوية الجزم بالدخول في البستان ، وهو الذي يقتضيه العرف لا سيما في بلادنا هذه ، التي الغالب على بساتينها أن تتخذ عليها الحوائط والإغلاق لشبه المساكن .

                                      قال الإمام : والبناء عندي بالإضافة إلى البستان كالشجرة بالإضافة إلى الدار ، فقد تلخص في دخول الأبنية في البستان طرق : ( إحداها ) أن الجدار المحيط يدخل جزما ، وفيما عداه الطرق ، وهو ما أورده الرافعي وضعفه الروياني [ ص: 20 ] والثانية ) : إجراء الخلاف في الجميع ، وهي قضية إطلاق الأكثرين ، ( والثالثة ) : الجزم بدخول الجميع ، وهو مقتضى كلام القاضي أبي الطيب ، وهي التي اقتضى كلامي أولا الميل إليها ، وليس لنا طريقة جازمة بعدم دخول الأبنية هنا مع التردد في دخولها تحت اسم الأرض ، وهذا ما لا يمكن ، ولك أن تأخذ من هذه الطرق ثلاثة أوجه في دخول الأبنية تحت اسم البستان والباحة والكرم ( ثالثها ) : يدخل المحيط دون ما إذا لم يكن على هيئة الجدار الموضوع للحفظ والإحاطة ، وكذلك فعل ابن الرفعة قال الرافعي : وذكروا أن لفظ الكرم كلفظ البستان ، لكن العادة في نواحينا إخراج الحائط عن مسمى الكرم ، وإدخاله في مسمى البستان ولكن لا يبعد أن يكون الحكم على ما استمر الاصطلاح به ، وذكر ابن الرفعة أن هذا كالعام ، وأنه إن صح يكون وجها رابعا يعني في محيط الكرم والبستان والشجرة العتيقة ، ولو كانت الشجرة حادثة لم تدخل في بيع البستان ، قاله ابن الرفعة أخذا مما سيأتي ، وفي العريش وهو المسمى في بلادنا بالكرم في وجوب اللزوم تردد للشيخ أبي محمد ، رجح الإمام والغزالي دخوله ، وجعل في الوسيط محل التردد في دخوله تحت اسم الكرم ، والإمام نقله في لفظ البستان والباحة ، وفي كلامه ما يدل على جريانه في الكرم أيضا وفي كلام الإمام ما يقتضي أن ذلك في العريش الذي ينقل ، فإنه قال : والوجه عندنا القطع بدخولها تنزيلا على المفهوم من اسم الكرم أو البستان في مطلق العرف فإنه ينظم مع الكرم عريشة ، وإن كان محله .

                                      قال ابن الرفعة : لكن هذه العبارة تفهم أن محل ذلك إذا كان العريش ينقل ( أما ) إذا كانت تراد للدوام [ كما هو جار ] في بلادنا فلا يأتي فيها التردد قال الرافعي : ولو قال : هذه الدار بستان ، دخلت الأبنية والأشجار جميعا ، ولو قال : هذا الحائط بستان أو هذه المحوطة دخل الحائط المحيط وما فيه من الأشجار وفي البناء الذي في وسطه الخلاف السابق ، هكذا ذكره في التهذيب ، وهكذا قال [ ص: 21 ] الروياني فيما إذا قال : حائط بستان ، وفي لفظهما قلق ، والمراد أن يقول : بعتك هذا الحائط البستان هذه [ هي ] العبارة المستقيمة قال الرافعي : ولا يتضح في لفظ المحوطة فرق بين الأبنية والأشجار فليدخلا أو ليكونا على الخلاف قال ابن الرفعة : هذا الذي ذكره الرافعي صحيح إن كانت الحوطة بغير ميم أما إذا كانت في كلامهم بالميم فالإشارة تكون للميم وهو البستان ، فكأنه نطق به وعند نطقه تدخل الأرض والأشجار والبناء المحيط وفي دخول ما فيه من البناء الخلاف عنده ، فلذلك ألحق هذه اللفظة بالبستان . ( قلت : ) وهذه اللفظة فيما وقفت عليه من نسخ المهذب والرافعي والروضة - بالميم وإخراج البناء عنها بعيد . وإن أخرج فيما إذا نطق باسم البستان فإن الإشارة إلى الجميع ، وتخصيصها - بالميم - دون غيره لم يقتضه دليل وهي داخلة في مدلول اللفظ قطعا ، بخلاف البستان عند من يجعلها خارجة منه ; لأن اسم البستان صادق بدونها ، نعم قول الرافعي : فليدخلا أو ليكونا على الخلاف ، لا وجه للتردد في ذلك بل يتعين الجزم بدخولها .

                                      ( وأما ) لفظ الحوطة بغير - ميم - فلم أره في كتاب غير كلام ابن الرفعة . ولا أعلم معناه ، فإن كان موضوعا للبستان فيتجه كلام صاحب التهذيب ولا يستقيم كلام الرافعي وإن كان موضوعا للحائط الدائر على البستان فيتجه أن لا يدخل البناء ولا الشجر جميعا ( والأقرب ) أن حذف - الميم - تصحيف وأن اللفظ بالميم كما هو في الكتب . وأن الحكم فيها مخالف للحكم في لفظ البستان والحائط بمعناه وأنه لا يتجه فرق فيها بين البناء والشجر . كما قاله الرافعي . لكنه لا ينبغي التردد في ذلك كما تردد بل ينبغي دخول البناء والشجر لوجود الإشارة إلى الجميع وعدم ما يقتضي إخراج شيء من ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                      قال ابن الرفعة : وفي بعض الشروح أنه لو قال : بعتك هذا المحوط دخل فيه الحيطان والأرض وإن كان فيه غراس فعلى ما تقدم من الخلاف ( قلت ) وهذا عكس ما قاله صاحب التهذيب . وخلاف [ ص: 22 ] ما قاله الرافعي أيضا وبعيد من جهة المعنى لا وجه له ، والله سبحانه وتعالى أعلم . ( فرع ) قول الغزالي في الوجيز : إن الأظهر عدم الدخول يعني به الأظهر من الطرق ، فإنه في الوسيط صرح بأن الخلاف فيه كما في اسم الأرض ( وأصح ) الطرق عنده في اسم الأرض عدم الدخول كما تقدم فعلم أن مراده هنا الأظهر من الطرق ، والعجلي قال : إن معناه الأظهر من الوجهين وحمله على ذلك تسوية الإمام بين البناء بالنسبة إلى البستان ، والشجر بالنسبة إلى الدار والذي حكاه الإمام والغزالي في استتباع الدار للشجر ثلاثة أوجه ، وأفهم كلام الإمام فيها أن التفريع على أن اسم الأرض لا يتناول البناء والشجر أي إن قلنا : البناء والشجر داخلان في الأرض فههنا أولى ( وإن قلنا : ) لا يدخل فههنا ثلاثة أوجه ويكون قول الغزالي " الأظهر " أي من هذه الأوجه ولا شك أن ما قاله الإمام نفيه . ولكن الغزالي صرح في الوسيط بأن الخلاف فيه كالخلاف في الأرض فينبغي أن يحمل كلامه في الوجيز على ذلك ويكون الأظهر من الطرق فإنه ليس في كلامه التسوية بين الدار والبستان كما في كلام الإمام وإن كانت التسوية متجهة . وقد تقدم في استتباع الدار الأشجار بحث ، ويمكن أن يعود مثله هنا في هذه الأوجه وتكون مفرعة على القول باتباع الاسم كما ذكره الإمام هناك وإن لم يصرح به هنا لكن تسويته بين المسألتين يقتضيه ، ولو كان في البستان ماء فهل يدخل في العقد ؟ فيه وجهان حكاهما القاضي حسين




                                      الخدمات العلمية