الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 84 ] 612 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المراد بقول الله عز وجل إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما .

3935 - حدثنا نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود وهارون بن كامل قالوا حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث بن سعد ، قال : حدثنا عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : قال عروة : سألت عائشة رضي الله عنها فقلت : أرأيت قول الله عز وجل إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما فقلت : والله ما على أحد جناح أن لا يطوف بين الصفا والمروة قالت عائشة : بئس ما قلت يا ابن أختي ، إن هذه الآية لو كانت على ما أولتها عليه كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، وإنها إنما أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدون عند المشلل ، وكان من [ ص: 85 ] أهل لها يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة ، فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك أنزل الله عز وجل إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ، ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بهما .

قال ابن شهاب فأخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بالذي حدثني عروة من ذلك عن عائشة ، فقال أبو بكر : إن هذا العلم ما كنت سمعته ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يزعمون أن الناس إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهل لمناة الطاغية كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة ، فلما ذكر الله عز وجل الطواف بالبيت ولم يذكر الطواف بين الصفا والمروة قالوا : هل علينا يا رسول الله من حرج في أن نطوف بالصفا والمروة ، فأنزل الله عز وجل إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ، قال أبو بكر : فأسمع هذه الآية أنزلت في الفريقين كليهما في الذين كانوا يتحرجون في الجاهلية أن يطوفوا بالصفا والمروة ، والذين كانوا يطوفون في الجاهلية بين الصفا والمروة ، ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أن الله عز وجل أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة مع الطواف بالبيت حين ذكره .

[ ص: 86 ] [ ص: 87 ]

3936 - حدثنا فهد وهارون جميعا ، قالا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا الليث ، قال : حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، قال : قال ابن شهاب ، ثم ذكر مثله بإسناده .

3937 - وحدثنا عبيد بن رجال ، قال : حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، ثم ذكر مثله بإسناده .

3938 - وحدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه .

عن عائشة أن مناة كانت على ساحل البحر وحولها الفروث والدماء [ ص: 88 ] يذبح بها المشركون فقالت الأنصار : يا رسول الله إنا إذا كنا أحرمنا في الجاهلية لم يحل لنا في ديننا أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله عز وجل : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ، قال عروة : أما أنا فما أبالي أن لا أطوف بين الصفا والمروة ، قالت عائشة : لم يا ابن أختي قال : لأن الله عز وجل يقول فلا جناح عليه أن يطوف بهما قالت عائشة : لو كانت كما تقول لكان : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، قالت عائشة : وما تمت حجة أحد ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة .

[ ص: 89 ] قال أبو جعفر : ففي هذه الآثار أن السبب الذي فيه نزلت فيه هذه الآية هو لتحرج الأنصار من الطواف بين الصفا والمروة للسبب المذكور في هذا الحديث وأن الله عز وجل أنزل هذه الآية فأعلمهم بها أن لا جناح عليهم في الطواف بينهما فأعلمهم فيها أنهما من شعائر الله عز وجل ، وقد ذكر شعائره في غيرها قوله عز وجل ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ، وقد كان في حديث هشام ، عن عروة ، عن عائشة من قولها : ولعمري ما تمت حجة أحد ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة ومثل هذا لا يقال بالرأي ، فعقلنا بذلك أنها لم تقله إلا توقيفا والتوقيف لا يكون إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فقال قائل : أما ما حكيتموه عن عائشة من قولها لعروة لو كانت كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، وقد كان عبد الله بن عباس يقرؤها كذلك .

وذكر ما قد حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا حجاج بن إبراهيم ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، [ ص: 90 ] عن ابن عباس أنه كان يقرأ : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ) .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن الذي في حديث ابن عباس من التلاوة قد يجوز أن يكون معناه يرجع إلى ما في حديث عائشة منها ، ويكون قوله عز وجل أن لا يطوف بهما في قراءة ابن عباس على الصلة كما قال عز وجل : لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء ، بمعنى ليعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء ، وكما قال عز وجل وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون بمعنى أنهم يرجعون ، وكقوله عز وجل ما منعك ألا تسجد بمعنى ما منعك أن تسجد ، فيكون مثل ذلك إن كانت القراءة كما روي عن ابن عباس فيها أن لا يطوف بهما بمعنى أن يطوف بهما على ما في قراءة غيره وهي القراءة التي قامت بها الحجة التي تضمنتها مصاحفنا .

[ ص: 91 ] وقد روي عن أنس بن مالك في تلاوة هذا الحرف مثل الذي روي فيه عن عائشة .

3939 - كما حدثنا بكار ، قال : حدثنا مؤمل ( ح ) وكما حدثنا أبو شريح وابن أبي مريم ، قالا : حدثنا الفريابي ، قال : حدثنا سفيان .

عن عاصم قال : سألت أنس بن مالك ، عن الصفا والمروة قال : كانتا من مشاعر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عز وجل إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، وهما تطوع .

3940 - وكما حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عارم ، قال : حدثنا ثابت أبو زيد ، قال : حدثنا عاصم ، ثم ذكر مثله .

[ ص: 92 ]

3941 - وكما حدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا حجاج بن إبراهيم ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال : حدثنا عاصم بن سليمان .

قال قلت لأنس بن مالك : أكنتم تكرهون الطواف بين الصفا والمروة حتى نزلت إن الصفا والمروة من شعائر الله قال نعم كانتا من شعائر الجاهلية فكنا نكره الطواف بهما حتى نزلت هذه الآية .

وكان ما في حديث أنس من ذكر الطواف بينهما أنه تطوع مما لم يذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد يجوز أن يكون ذلك رأيا رآه وقد خالفته عائشة في ذلك فروت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سن الطواف بهما في الحج والعمرة جميعا وقالت هي : ما تمت حجة أحد ولا عمرته لم [ ص: 93 ] يطف بين الصفا والمروة ، فكان ذلك عندنا أولى من قول أنس لا سيما وفقهاء الأمصار عليه لا يختلفون فيه ولم يقولوا ذلك كابرا عن كابر إلا بما وجب أن يقولوه به وكان ما خالف ما هم عليه من ذلك مما لا معنى له ولا يصلح القول به ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية