الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      هذا، ومن باب الإشارة في الآيات إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها أمر للعارفين أن يظهروا ما كوشفوا به من الأسرار الآلهية لأمثالهم، ويكتموا ذلك عن الجاهلين، أو أن يؤدوا حق كل ذي حق إليه، فيعطوا الاستعداد حقه، و(ألقوا) حقها، وآخر الأمانات أداء أمانة الوجود، فليؤده العبد إلى سيده سبحانه، وليفن فيه عز وجل.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا حكمتم بين الناس بالإرشاد، ولا يكون إلا بعد الفناء والرجوع إلى البقاء " فاحكموا بالعدل " وهو الإفاضة حسب الاستعداد.

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله بتطهير كعبة تجليه، وهو القلب [ ص: 83 ] عن أصنام السوى وأطيعوا الرسول بالمجاهدة، وإتعاب البدن بأداء رسوم العبادة التي شرعها لكم وأولي الأمر منكم وهم المشايخ المرشدون، بامتثال أمرهم فيما يرونه صلاحا لكم وتهذيبا لأخلاقكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وربما يقال: إنه سبحانه جعل الطاعة على ثلاث مراتب، وهي في الأصل ترجع إلى واحدة: فمن كان أهلا لبساط القربة وفهم خطاب الحق بلا واسطة، كالقائل: أخذتم علمكم ميتا عن ميت، ونحن أخذناه من الحي الذي لا يموت، فليطلع الله تعالى بمراده، وليتمثل ما فهمه منه، ومن لم يبلغ هذه الدرجة فليرجع إلى بيان الواسطة العظمى، وهو الرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - إن فهم بيانه أو استطاع الأخذ منه، كبعض أهل الله تعالى تعالى، وليطعه فيما أمر ونهى، ومن لم يبلغ إلى هذه الدرجة فليرجع إلى أكابر علماء الأمة، وليتقيد بمذهب من المذاهب، وليقف عنده في الأوامر والنواهي.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن تنازعتم في شيء أنتم والمشايخ، وذلك في مبادئ السلوك حيث النفس قوية فردوه إلى الله تعالى والرسول فارجعوا إلى الكتاب والسنة، فإن فيهما ما يزيل النزاع عبارة أو إشارة، أو إذا وقع عليكم حكم من أحكام الغيب المتشابهة، وظهر في أسراركم معارضات الامتحان فارجعوا إلى خطاب الله تعالى ورسوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فإن فيه بحار علوم الحقائق، فكل خاطر لا يوافق خطاب الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود.

                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك من علم التوحيد وما أنزل من قبلك من علم المبدأ والمعاد يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وهو النفس الأمارة الحاكمة بما تؤدي إليه أفكارها، الغير المستندة إلى الكتاب والسنة وقد أمروا أن يكفروا به ويخالفوه إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي .

                                                                                                                                                                                                                                      ويريد الشيطان وهو الطاغوت أن يضلهم ضلالا بعيدا وهو الانحراف عن الحق فكيف إذا أصابتهم مصيبة وهي مصيبة التحير وفقد الطريق الموصل بما قدمت أيديهم من تقديم أفكارهم الفاسدة، وعدم رجوعهم إليك ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا بأنفسنا لتمرنها على التفكر حتى يكون لها ملكة استنباط الأسرار والدقائق من عباراتك وإشاراتك وتوفيقا أي جمعا بين العقل والنقل، أو بين الخصمين بما يقرب من عقولهم، ولم نرد مخالفتك أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم من رين الشكوك، فيجازيهم على ذلك يوم القيامة فأعرض عنهم ولا تقبل عذرهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا مؤثرا؛ ليرتدعوا، أو كلمهم على مقادير عقولهم ومتحمل طاقتهم ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم باشتغالهم بحظوظها جاءوك فاستغفروا الله طلبوا منه ستر صفات نفوسهم التي هي مصادر تلك الأفعال واستغفر لهم الرسول بإمداده إياهم بأنوار صفاته لوجدوا الله توابا رحيما مطهرا لنفوسهم، مفيضا عليها الكمال اللائق بها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطاء في هذه الآية: أي: لو جعلوك الوسيلة لدي لوصلوا إلي.

                                                                                                                                                                                                                                      فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما قال بعضهم: أظهر الله تعالى في هذه الآية على حبيبه خلعة من خلع الربوبية، فجعل الرضا بحكمه ساء أم ستر سببا لإيمان المؤمنين، كما جعل الرضا بقضائه سببا لإيقان الموقنين، فأسقط عنهم اسم الواسطة؛ لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم متصف بأوصاف الحق، متخلق بأخلاقه، ألا ترى كيف قال حسان:


                                                                                                                                                                                                                                      وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخرون: سد سبحانه الطريق إلى نفسه على الكافة إلا بعد الإيمان بحبيبه - صلى الله تعالى عليه وسلم - فمن لم يمش تحت قبابه فليس من الله تعالى في شيء، ثم جعل جل شأنه من شرط الإيمان زوال المعارضة [ ص: 84 ] بالكلية، فلا بد للمؤمن من تلقي المهالك بقلب راض ووجه ضاحك.

                                                                                                                                                                                                                                      ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم بسيف المجاهدة لتحيا حياة طيبة أو اخرجوا من دياركم وهي الملاذ التي ركنتم إليها، وخيمتم فيها، وعكفتم عليها، أو لو فرضنا عليهم أن اقمعوا الهوى، أو اخرجوا من مقاماتكم التي حجبتم بها عن التوحيد الصرف كالصبر والتوكل مثلا ما فعلوه إلا قليل منهم وهم أهل التوفيق والهمم العالية.

                                                                                                                                                                                                                                      وأيد الاحتمال الثاني بما حكي عن بعض العارفين أنه سأل إبراهيم بن أدهم عن حاله فقال إبراهيم: أدور في الصحارى، وأطوف في البراري، حيث لا ماء، ولا شجر، ولا روض، ولا مطر، فهل يصح حالي في التوكل؟ فقال له: إذا أفنيت عمرك في عمران بطنك فأين الفناء في التوحيد؟!

                                                                                                                                                                                                                                      ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم لما فيه من الحياة الطيبة وأشد تثبيتا بالاستقامة بالدين وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما وهو كشف الجمال ولهديناهم صراطا مستقيما وهو التوحيد ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم بما لا يدخل في حيطة الفكر من النبيين أرباب التشريع، الذين ارتفعوا قدرا، فلا يدرك شأوهم، والصديقين الذين قادهم نورهم إلى الانخلاع عن أنواع الربوب والشكوك، فصدقوا بما جاء به الرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - من غير دليل ولا توقف والشهداء أهل الحضور والصالحين أهل الاستقامة في الدين.

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم من أنفسكم؛ فإنها أعدى أعدائكم فانفروا ثبات اسلكوا في سبيل الله تعالى جماعات، كل فرقة على طريقة شيخ كامل أو انفروا جميعا في طريق التوحيد والإسلام، واتبعوا أفعال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وتخلقوا بأخلاقه وإن منكم لمن ليبطئن أي: ليثبطن المجاهدين المرتاضين فإن أصابتكم مصيبة شدة في السير قال قد أنعم الله علي حيث لم أفعل كما فعلوا ولئن أصابكم فضل من الله مواهب غيبية، وعلوم لدنية، ومراتب سنية، وقبول عند الخواص والعوام ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة أي حسدا لكم يا ليتني كنت معهم فأفوز دونهم فوزا عظيما وأنال ذلك وحدي ومن يقاتل نفسه في سبيل الله فيقتل بسيف الصدق أو يغلب عليها بالظفر لتسلم على يده فسوف نؤتيه أجرا عظيما وهو الوصول إلينا وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وخلاص المستضعفين من الرجال العقول والنساء الأرواح والولدان القوى الروحانية الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية وهي قرية البدن الظالم أهلها وهي النفس الأمارة واجعل لنا من لدنك وليا يلي أمورنا ويرشدنا واجعل لنا من لدنك نصيرا ينصرنا على من ظلمنا، وهو الفيض الأقدس، نسأل الله تعالى ذلك بمنه وكرمه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية