الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب قراءة سورتين في كل ركعة وقراءة بعض سورة وتنكيس السور في ترتيبها وجواز تكريرها

                                                                                                                                            710 - ( عن أنس قال { : كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء فكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح ب { قل هو الله أحد } حتى يفرغ منها ثم يقرأ سورة أخرى معها فكان يصنع ذلك في كل ركعة فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر ، فقال : وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة قال : إني أحبها قال : حبك إياها أدخلك الجنة } . رواه الترمذي وأخرجه البخاري تعليقا ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الحديث قال الترمذي : حسن صحيح غريب ، وأخرجه البزار والبيهقي والطبراني . قوله : ( كان رجل ) هو كلثوم بن الهدم ذكره ابن منده في كتاب التوحيد . وقيل : قتادة بن النعمان ، وقيل : مكتوم بن هدم ، وقيل : كرز بن هدم . قوله : ( افتتح ب { قل هو الله أحد } ) تمسك به من قال لا يشترط قراءة الفاتحة . وأجيب بأن الراوي لم يذكر الفاتحة للعلم بأنه لا بد منها فيكون معناه افتتح سورة بعد الفاتحة أو أن ذلك قبل ورود الدليل على اشتراط الفاتحة . قوله : ( فكان يصنع ذلك في كل ركعة ) لفظ البخاري { فكلمه أصحابه وقالوا إنك تفتتح بهذه السورة لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى فإما أن تقرأ بها وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى ، فقال : ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن كرهتم ذلك تركتكم ، وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر فقال : يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك [ ص: 265 ] وما يحملك } . . . إلخ

                                                                                                                                            قوله : ( ما يحملك ) إجابة عن الحامل على الفعل بأنه المحبة وحدها . قوله : ( أدخلك الجنة ) التبشير له بالجنة يدل على الرضا بفعله وعبر بالفعل الماضي وإن كان الدخول مستقبلا تنبيها على تحقيق الوقوع كما نص عليه أئمة المعاني ، قال ناصر الدين بن المنير في هذا الحديث : إن المقاصد تغير أحكام الفعل ، لأن الرجل لو قال إن الحامل له على إعادتها أنه لا يحفظ غيرها لأمكن أن يأمره بحفظ غيرها لكنه اعتل بحبها فظهرت صحة قصده فصوبه . قال : وفيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس إليه والاستكثار منه ولا يعد ذلك هجرانا لغيره . والحديث يدل على جواز قراءة سورتين في كل ركعة مع فاتحة الكتاب على ذلك التأويل من غير فرق بين الأوليين والأخريين لأن قوله في كل ركعة يشمل الأخريين

                                                                                                                                            711 - ( وعن حذيفة قال : { صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة ، فقلت يركع عند المائة ثم مضى ، فقلت يصلي بها في كل ركعة فمضى ، فقلت يركع بها فمضى ، ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع فجعل يقول : سبحان ربي العظيم وكان ركوعه نحوا من قيامه ثم قال سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ثم قام قياما طويلا قريبا مما ركع ثم سجد فقال : سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من قيامه } رواه أحمد ومسلم والنسائي ) .

                                                                                                                                            قوله : ( فقلت يصلي بها في ركعة ) قال النووي : معناه ظننت أنه يسلم بها فيقسمها على ركعتين ، وأراد بالركعة الصلاة بكمالها وهي ركعتان ولا بد من هذا التأويل لينتظم الكلام بعده . قوله : ( فمضى ) معناه قرأ معظمها بحيث غلب على ظني أنه لا يركع الركعة الأولى إلا في آخر البقرة ، فحينئذ قلت يركع الركعة الأولى بها فجاوز وافتتح النساء . قوله : ( ثم افتتح آل عمران ) قال القاضي عياض : فيه دليل لمن يقول : إن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف وأنه لم يكن ذلك من ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم بل وكله إلى أمته بعده قال : وهذا قول مالك والجمهور ، واختاره أبو بكر الباقلاني . قال ابن الباقلاني : هو أصح القولين مع احتمالهما ، قال : والذي نقوله إن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التلقين والتعليم ، وأنه لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك نص ولا يحرم مخالفته ولذلك اختلف ترتيب المصاحف قبل مصحف عثمان قال : وأما من قال من أهل العلم إن ذلك بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 266 ] كما استقر في مصحف عثمان ، وإنما اختلفت المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف فتأويل قراءته صلى الله عليه وسلم النساء ثم آل عمران هنا على أنه كان قبل التوقيف والترتيب

                                                                                                                                            قال : ولا خلاف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الأولى وإنما يكره ذلك في ركعة ولمن يتلو في غير الصلاة ، قال : وقد أباح بعضهم وتأول نهي السلف عن قراءة القرآن منكوسا على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة بتوقيف من الله على ما بني عليه الآن في المصحف وهكذا نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم قوله : ( فقرأها مترسلا إذا مر بآية ) . . . إلخ فيه استحباب الترسل والتسبيح عند المرور بآية فيها تسبيح والسؤال عند قراءة آية فيها سؤال والتعوذ عند تلاوة آية فيها تعوذ ، والظاهر استحباب هذه الأمور لكل قارئ من غير فرق بين المصلي وغيره وبين الإمام والمنفرد والمأموم وإلى ذلك ذهبت الشافعية . قوله : ( ثم ركع فجعل يقول سبحان ربي العظيم ) فيه استحباب تكرير هذا الذكر في الركوع ، وكذلك سبحان ربي الأعلى في السجود ، وإلى ذلك ذهب الشافعي وأصحابه والأوزاعي وأبو حنيفة والكوفيون وأحمد والجمهور . وقال مالك : لا يتعين ذلك للاستحباب ، وسيأتي الكلام على ذلك في باب الذكر في الركوع والسجود

                                                                                                                                            قوله : ( ثم قال سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ثم قام قياما طويلا ) فيه رد لما ذهب إليه أصحاب الشافعي من أن تطويل الاعتدال عن الركوع لا يجوز وتبطل به الصلاة وسيأتي الكلام على ذلك . والحديث أيضا يدل على استحباب تطويل صلاة الليل وجواز الائتمام في النافلة

                                                                                                                                            712 - ( وعن رجل من جهينة { أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح إذا زلزلت الأرض في الركعتين كلتيهما قال : فلا أدري أنسي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمدا } رواه أبو داود ) . الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ، وقد قدمنا أن جماعة من أئمة الحديث صرحوا بصلاحية ما سكت عنه أبو داود للاحتجاج ، وليس في إسناده مطعن ، بل رجاله رجال الصحيح ، وجهالة الصحابي لا تضر عند الجمهور وهو الحق . قوله : ( يقرأ في الصبح إذا زلزلت ) فيه استحباب قراءة سورة بعد الفاتحة وجواز قراءة قصار المفصل في الصبح . قوله : ( فلا أدري أنسي ) فيه دليل لمذهب الجمهور القائلين بجواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم وقد صرح بذلك حديث { إنما أنا بشر أنسى كما تنسون } ولكن فيما ليس طريقه البلاغ ، قالوا ولا يقر عليه بل لا بد أن يتذكره

                                                                                                                                            واختلفوا هل من شرط ذلك الفور أم يصح على التراخي [ ص: 267 ] قبل وفاته صلى الله عليه وسلم قله : ( أم قرأ ذلك عمدا ) تردد الصحابي في أن إعادة النبي صلى الله عليه وسلم للسورة هل كان نسيانا لكون المعتاد من قراءته أن يقرأ في الركعة الثانية غير ما قرأ به في الأولى فلا يكون مشروعا لأمته أو فعله عمدا لبيان الجواز فتكون الإعادة مترددة بين المشروعية وعدمها وإذا دار الأمر بين أن يكون مشروعا أو غير مشروع فحمل فعله صلى الله عليه وسلم على المشروعية أولى لأن الأصل في أفعاله التشريع والنسيان على خلاف الأصل . ونظيره ما ذكره الأصوليون فيما إذا تردد فعله صلى الله عليه وسلم بين أن يكون جبليا أو لبيان الشرع والأكثر على التأسي به

                                                                                                                                            713 - ( وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } الآية التي في البقرة وفي الآخرة : { آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون } } وفي رواية : { كان يقرأ في ركعتي الفجر : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } والتي في آل عمران : { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } } رواهما أحمد ومسلم ) . الروايات فيما كان يقرؤه صلى الله عليه وسلم في الركعتين قبل الفجر مختلفة

                                                                                                                                            فمنها ما ذكره المصنف . ومنها ما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة : { أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر : { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } } وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة أنها قالت : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني لأقول هل قرأ فيهما بأم القرآن ؟ } وفي رواية أقول { لم يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب } والحديث يدل على استحباب قراءة الآيتين المذكورتين فيهما بعد قراءة فاتحة الكتاب لما ثبت في رواية لمسلم { أنه كان يقرأ فيهما بعد فاتحة الكتاب ب قل يا أيها الكافرون وقل هو الله } أحد فتحمل الأحاديث التي لم يذكر فيها القراءة بفاتحة الكتاب كحديث الباب على هذه الرواية ويكون المصلي مخيرا إن شاء قرأ مع فاتحة الكتاب في كل ركعة ما في حديث ابن عباس وإن شاء قرأ بعد الفاتحة { قل يا أيها الكافرون } في ركعة ، و { قل هو الله أحد } في ركعة وإلى ذلك ذهب الجمهور

                                                                                                                                            وقال مالك وجمهور أصحاب الشافعي : إنه لا يقرأ غير الفاتحة . وقال بعض السلف : لا يقرأ شيئا ، وكلاهما خلاف هذه الأحاديث الصحيحة وسيأتي الكلام على ذلك في باب تأكيد ركعتي الفجر . وقد استدل المصنف رحمه اللهبالحديث على جواز قراءة بعض سورة في الركعة كما فعل في ترجمة الباب .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية