الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 102 ] 615 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرواث الأنعام المأكولة لحومها أنها لا تنجس ما تصيبه من الثياب وأن الصلاة في الثياب التي أصابتها جائزة .

3950 - حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي ، قال : حدثنا خالد يعني ابن مخلد القطواني ، قال : حدثنا علي بن صالح بن حي ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، قال :

حدثني عبد الله في بيت المال قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت وملأ من قريش جلوس وقد نحروا جزورا فقال بعضهم : أيكم يأخذ هذا الفرث بدمه ، ثم يمهله حتى يضع وجهه ساجدا فيضعه على يعني ظهره ، قال عبد الله : فانبعث أشقاها فأخذ الفرث فذهب به ، ثم أمهله فلما خر ساجدا وضعه على ظهره فأخبرت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها وهي جارية فجاءت تسعى فأخذته من ظهره ، فلما فرغ من صلاته قال : اللهم عليك بقريش - ثلاث مرات - اللهم عليك بأبي جهل بن هشام ، وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط حتى عد سبعة من قريش قال [ ص: 103 ] عبد الله : فوالذي أنزل الكتاب لقد رأيتهم جميعا يوم بدر في قليب واحد .

قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث وضع الشقي المذكور فيه على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد الفرث والدم اللذين وضعهما عليه ، وتمادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على صلاته حتى أتمها .

فقال قائلون ففي هذا دليل أن أرواث ما يؤكل لحمه لا يفسد الصلاة بالثوب الذي أصابته ولا بإصابته الأبدان وأنه بخلاف النجاسات من الدماء المسفوحات من الأنعام ومن ما سواها ، وبخلاف أرواث ما لا يؤكل لحمه من الحمير والبغال ، وبخلاف غائط بني آدم وأبوالهم وتعلقوا في ذلك بما روي عن عبد الله بن مسعود من امتثاله ذلك من نفسه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وهو ما قد حدثنا محمد بن علي بن داود ، قال : حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي ، قال : حدثنا هشيم ، عن منصور وخالد ، عن ابن سيرين .

[ ص: 104 ] عن يحيى بن الجزار أن ابن مسعود صلى وعلى بطنه فرث ودم فلم يعد الصلاة .

قال أبو جعفر : وهذا المذهب قد ذهب إليه غير واحد من أهل العلم منهم مالك والثوري والحسن بن صالح وزفر بن الهذيل ولهم في ذلك مخالفون من أهل العلم وهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن كانوا يقولون : إن ذلك نجس وإنه في حكم دماء الأشياء التي هو منها .

وكان مما احتج به الذاهبون إلى قولهم هذا على أهل المقالة الأولى فيما احتجوا به لقولهم ذلك من حديث ابن مسعود الذي وصفنا أن حديث ابن مسعود ذلك إنما رواه - كما ذكروا - علي بن صالح ، عن أبي إسحاق ، وقد خالفه زكريا بن أبي زائدة وشعبة بن الحجاج فروياه عن أبي إسحاق بخلاف ذلك .

3951 - كما حدثنا الحسن بن غليب ، قال : حدثنا يوسف بن [ ص: 105 ] عدي ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون الأودي .

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس عند البيت وقد نحروا جزورا بالأمس ، قال أبو جهل : أيكم يذهب إلى سلى جزور بني فلان فيأخذه فيضعه على كتفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد ، فانبعث أشقى القوم فأخذه فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه فاستضحكوا وجعل بعضهم يقبل على بعض وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة لطرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت وهي جارية فطرحته عنه ، ثم أقبلت عليهم تسبهم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ، ثم دعا عليهم ، وكان إذا دعا دعا ثلاثا ، وإذا سأل سأل ثلاثا ، ثم قال : اللهم عليك بقريش ثلاث مرات ، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته ، ثم قال : اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وذكر السابع فلم أحفظه ، والذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق لقد رأيت الذين سماهم صرعى يوم بدر ، ثم سحبوا في القليب قليب بدر .

[ ص: 106 ]

3952 - وكما حدثنا يزيد بن سنان ، قال : حدثنا أبو داود الطيالسي ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت عمرو بن ميمون يحدث ، عن عبد الله قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وقريش قعود وسلى جزور قريب منه فلما سجد قالوا من يأخذ هذا السلى فيلقيه على ظهره فكأنهم هابوه ، فقال عقبة بن أبي معيط : أنا ، فقام فألقاه على ظهره وهو ساجد فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة عليها السلام وهي جارية فألقته عن ظهره ، قال عبد الله : فما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يومئذ قال : اللهم عليك الملأ من قريش اللهم عليك بأبي جهل بن هشام اللهم عليك بعتبة بن ربيعة اللهم عليك بشيبة بن ربيعة اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط اللهم عليك بأمية بن خلف ، قال عبد الله : فلقد رأيتهم قلبوا يوم بدر جميعا ، ثم [ ص: 107 ] سحبوا حتى ألقوا في القليب غير أبي جهل أو أمية فإنه كان رجلا بدينا فتقطع .

3953 - وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، ثم ذكر بإسناده مثله .

قالوا فكان في حديثي زكريا وشعبة أن الذي جعله ذلك الشقي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي كان سلى ناقة منحورة وهو الذي يكون فيه ما حامل به مما لا دم فيه ولا فرث ، ومما هو كسائر لحمها ولا اختلاف بين أهل العلم أن من كان في كمه لحم ناقة مذكاة لا دم ولا روث فيه فصلى وهو حامله كذلك أن صلاته جائزة .

وإذا كان هذا الاختلاف في هذا الحديث كما ذكرنا أن يحمل ما رواه اثنان عليه أولى بالصحة مما رواه واحد عليه وإن كان رواته [ ص: 108 ] جميعا عدولا أئمة حفاظا أثباتا ، وإن جعلت الروايتان متكافئتان لم تكن واحدة منهما أولى من الأخرى وكانتا لما تضادتا ارتفعتا وصار ما فيه هذا الاختلاف من الأرواث من الأشياء المأكولة لحومها كما لا حديث فيه .

وأما ما روي فيه عن ابن مسعود من حديث يحيى بن الجزار فقد يحتمل أن يكون ذلك لم يكن له من المقدار ما يفسد به الصلاة ، إذ كان قليل الدم في ذلك خلاف كثيره عند كثير من أهل العلم ممن يقول بالمقالة الثانية من المقالتين اللتين ذكرناهما .

ثم رجعنا إلى طلب الأولى من هذين القولين بالنظر الصحيح المرجوع إلى مثله عند عدم وجود حكم الأشياء المختلف فيها في الكتاب والسنة وإجماع الأمة فوجدنا الأصل المتفق عليه أن دماء الأنعام المأكولة لحومها نجسة وأن وقوعها في المياه يفسدها وإن أصابتها الثياب نجستها كدماء بني آدم في ذلك ولم يكن لأكل لحوم ما هي راجعة إلى حكم لحومها ، وجعلت راجعة إلى حكم دمائها ، فكان النظر على ذلك أن يكون كذلك أرواثها لا تجب طهارتها بطهارة لحومها ، وأن يكون أرواثها كدمائها وكغائط بني آدم ودمائهم في نجاستها فهذا النظر في هذا الباب .

فقال قائل فإن الناقة المذكورة في حديث ابن مسعود الذي ذكرت إنما نحرها الوثنيون الذين لا تحل ذبائحهم ولا يكون معه ذكاة فسلاها كسلى ناقة ميتة ، ففي هذا الحديث حجة عليهم لمن يذهب إلى أن من صلى وفي ثوبه نجاسة أو في بدنه نجاسة أو وهو حامل [ ص: 109 ] نجاسة من ميتة أو من غيرها أن صلاته جائزة .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن تلك الناقة قد كانت كذلك ولكن كان ذلك النحر لها في وقت قد كانت ذبائح أهل الأوثان كذبائح من سواهم من أهل الإسلام كما كان نكاح نسائهم في أول الإسلام كذلك ، ثم حرم الله بعد ذلك نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم بقوله عز وجل اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، فكان في ذلك تحريم ما قد كان قبل ذلك الوقت غير حرام ، ثم طرأ عليه التحريم الذي ذكرنا في النساء وفي الذبائح فعاد الأمر فيهما إلى ما هو جار عليه إلى يوم القيامة والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية