الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان شواهد النقل من أرباب البصائر ، وشواهد الشرع على أن الطريق في معالجة أمراض القلب ترك الشهوات وأن مادة أمراضها هي اتباع الشهوات .

اعلم أن ما ذكرناه إن تأملته بعين الاعتبار انفتحت بصيرتك وانكشف لك علل القلوب وأمراضها وأدويتها بنور العلم واليقين .

فإن ، عجزت عن ذلك فلا ينبغي أن يفوتك التصديق والإيمان على سبيل التلقي والتقليد لمن يستحق التقليد فإن للإيمان درجة كما أن للعلم درجة ، والعلم يحصل بعد الإيمان ، وهو وراءه قال الله تعالى : يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات فمن صدق بأن مخالفة الشهوات هي الطريق إلى الله عز وجل ولم يطلع على سببه وسره ، فهو من الذين آمنوا وإذا اطلع على ما ذكرناه من أعوان الشهوات فهو من الذين أوتوا العلم وكلا وعد الله الحسنى .

والذي يقتضي الإيمان بهذا الأمر في القرآن والسنة وأقاويل العلماء أكثر من أن يحصر ، قال الله تعالى : ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وقال تعالى : أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى قيل : نزع منها محبة الشهوات وقال - صلى الله عليه وسلم - : " المؤمن بين خمس شدائد : مؤمن يحسده ، ومنافق يبغضه ، وكافر يقاتله ، وشيطان يضله ، ونفس تنازعه " فبين أن النفس عدو منازع يجب عليه مجاهدتها .

ويروى أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات فإن القلوب المتعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة وقال عيسى عليه السلام : طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود غائب لم يره وقال نبينا صلى الله عليه وسلم لقوم قدموا من الجهاد : مرحبا بكم قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قيل يا رسول الله وما الجهاد الأكبر ? قال : جهاد النفس وقال صلى الله عليه وسلم - : المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل.

وقال -صلى الله عليه وسلم- : كف أذاك عن نفسك ولا تتابع هواها في معصية الله تعالى إذا تخاصمك يوم القيامة ، فيلعن بعضك بعضا إلا أن يغفر الله تعالى لك ويستر .

وقال سفيان الثوري ما عالجت شيئا أشد علي من نفسي مرة لي ومرة علي وكان أبو العباس الموصلي يقول لنفسه يا نفس لا في الدنيا مع أبناء الملوك تتنعمين ولا في طلب الآخرة مع العباد تجتهدين ، كأني بك بين الجنة والنار : تحبسين يا نفس ألا تستحين ، وقال الحسن ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام الشديد من نفسك .

وقال يحيى بن معاذ الرازي جاهد نفسك بأسياف الرياضة والرياضة على أربع أوجه : القوت من الطعام والغمض من المنام والحاجة من الكلام وحمل الأذى من جميع الأنام فيتولد من قلة الطعام موت الشهوات ، ومن قلة المنام صفو الإرادات ، ومن قلة الكلام السلامة من الآفات ، ومن احتمال الأذى البلوغ إلى الغايات وليس على العبد شيء أشد من الحلم عند الجفاء ، والصبر على الأذى وإذا ، تحركت من النفس إرادة الشهوات والآثام وهاجت منها حلاوة فضول الكلام جردت سيوف قلة الطعام من غمد التهجد وقلة المنام ، وضربتها بأيدي الخمول وقلة الكلام حتى تنقطع عن الظلم والانتقام فتأمن من بوائقها من بين سائر الأنام وتصفيها من ظلمة شهواتها فتنجو من غوائل آفاتها فتصير عند ذلك نظيفة ونورية خفيفة روحانية فتجول في ميدان الخيرات ، وتسير في مسالك الطاعات كالفرس الفارة في الميدان وكالملك المتنزه في البستان .

وقال أيضا : أعداء الإنسان ثلاثة : دنياه وشيطانه ونفسه ، فاحترس من الدنيا بالزهد فيها ، ومن الشيطان بمخالفته ومن النفس بترك الشهوات .

قال . بعض الحكماء : من استولت عليه النفس صار أسيرا في حب شهواتها محصورا في سجن هواها مقهورا مغلولا زمامه في يدها تجره حيث شاءت فتمنع ، قلبه من الفوائد وقال جعفر بن حميد أجمعت العلماء والحكماء على أن النعيم لا يدرك إلا بترك النعيم وقال أبو يحيى الوراق من أرضى الجوارح بالشهوات فقد غرس في قلبه شجر الندامات ، وقال وهيب بن الورد ما زاد على الخبز فهو شهوة ، وقال أيضا من أحب شهوات الدنيا فليتهيأ للذل .

ويروى أن امرأة العزيز قالت ليوسف عليه السلام بعد أن ملك خزائن الأرض وقعدت له على رابية الطريق في يوم موكبه وكان يركب في زهاء اثني عشر ألفا من عظماء مملكته، سبحان من جعل الملوك عبيدا بالمعصية وجعل العبيد ملوكا بطاعتهم له : إن الحرص والشهوة صيرا الملوك عبيدا وذلك جزاء المفسدين ، وإن الصبر والتقوى صيرا العبيد ملوكا ، فقال يوسف كما أخبر الله تعالى عنه : إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين .

وقال الجنيد أرقت ليلة فقمت إلى وردي فلم أجد الحلاوة التي كنت أجدها فأردت أن أنام فلم أقدر فجلست فلم أطق الجلوس فخرجت فإذا رجل ملتف في عباءة مطروح على الطريق فلما أحس بي قال : يا أبا القاسم إلى الساعة فقلت يا سيدي من غير موعد قال : بلى سألت الله عز وجل أن يحرك لي قلبك فقلت : قد فعل فما حاجتك قال فمتى ؟ : يصير داء النفس دواءها ? فقلت : إذا خالفت النفس هواها فأقبل على نفسه فقال : اسمعي فقد أجبتك بهذا سبع مرات فأبيت أن تسمعيه إلا من الجنيد ها قد سمعتيه ثم انصرف وما عرفته وقال يزيد الرقاشي إليكم عني الماء البارد في الدنيا ، لعلي لا أحرمه في الآخرة .

وقال رجل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى متى أتكلم ? قال : إذا اشتهيت الصمت . قال متى : أصمت ? قال : إذا اشتهيت الكلام .

وقال علي رضي الله عنه : من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات في الدنيا .

وكان مالك بن دينار يطوف في السوق فإذا رأى الشيء يشتهيه قال لنفسه : اصبري فوالله ما أمنعك إلا من كرامتك علي .

فإذن قد اتفق العلماء والحكماء على أن لا طريق إلى سعادة الآخرة إلا بنهي النفس عن الهوى ومخالفة الشهوات ، فالإيمان بهذا واجب .

وأما علم تفصيل ما يترك من الشهوات وما لا يترك فلا يدرك إلا بما قدمناه .

وحاصل الرياضة وسرها أن لا تتمتع النفس بشيء مما لا يوجد في القبر إلا بقدر الضرورة فيكون مقتصرا من الأكل والنكاح واللباس والمسكن وكل ما هو مضطر إليه على قدر الحاجة والضرورة فإنه لو تمتع بشيء منه أنس به وألفه فإذا مات تمنى الرجوع إلى الدنيا بسببه ، ولا يتمنى الرجوع إلى الدنيا إلا من لا حظ له في الآخرة بحال ولا خلاص منه إلا بأن يكون القلب مشغولا بمعرفة الله وحبه والتفكر فيه والانقطاع إليه ولا قوة على ذلك إلا بالله ، ويقتصر من الدنيا على ما يدفع عوائق الذكر والفكر فقط .

فمن لم يقدر على حقيقة ذلك فليقرب منه والناس ، فيه أربعة: رجل مستغرق قلبه بذكر الله فلا يلتفت إلى الدنيا إلا في ضرورات المعيشة فهو من الصديقين .

ولا ينتهي إلى هذه الرتبة إلا بالرياضة الطويلة والصبر عن الشهوات مدة مديدة .

الثاني رجل استغرقت الدنيا قلبه ولم يبق لله تعالى ذكر في قلبه إلا من حيث حديث النفس ، حيث يذكره باللسان لا بالقلب فهذا من الهالكين .

والثالث : رجل اشتغل بالدنيا والدين ولكن ، الغالب على قلبه هو الدين ، فهذا لا بد له من ورود النار إلا أنه ينجو منها سريعا بقدر غلبة ذكر الله تعالى على قلبه .

والرابع : رجل اشتغل بهما جميعا ، لكن الدنيا أغلب على قلبه ، فهذا يطول مقامه في النار لكن ، يخرج منها لا محالة لقوة ذكر الله تعالى في قلبه وتمكنه من صميم فؤاده ، وإن كان ذكر الدنيا أغلب على قلبه .

اللهم إنا نعوذ بك من خزيك فإنك أنت المعاذ .

وربما يقول القائل : إن التنعم بالمباح مباح ، فكيف يكون التنعم سبب البعد من الله عز وجل وهذا خيال ضعيف ، بل حب الدنيا رأس كل خطيئة وسبب إحباط كل حسنة والمباح الخارج عن قدر الحاجة أيضا من الدنيا وهو سبب البعد ، وسيأتي ذلك في كتاب ذم الدنيا وقد قال إبراهيم الخواص كنت مرة في جبل اللكام فرأيت رمانا فاشتهيته فأخذت منه واحدة فشققتها فوجدتها حامضة فمضيت وتركتها فرأيت رجلا مطروحا وقد اجتمعت عليه الزنابير فقلت : السلام عليك ، فقال : وعليك السلام ، يا إبراهيم . فقلت كيف عرفتني ? فقال : من عرف الله عز وجل لم يخف عليه شيء فقلت أرى لك حالا مع الله عز وجل فلو سألته أن يحميك من هذه الزنابير فقال وأرى لك حالا مع الله تعالى فلو سألته أن يحميك من شهوة الرمان فإن لدغ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة ، ولدغ الزنابير يجد ألمه في الدنيا فتركته ومضيت .

وقال السري أنا منذ أربعين سنة تطالبني نفسي أن أغمس خبزة في دبس فما أطعتها .

فإذن لا يمكن إصلاح القلب لسلوك طريق الآخرة ما لم يمنع نفسه عن التنعم بالمباح ، فإن النفس إذا لم تمنع بعض المباحات طمعت في المحظورات فمن أراد حفظ لسانه عن الغيبة والفضول فحقه أن يلزمه السكوت إلا عن ذكر الله وإلا عن المهمات في الدين حتى تموت منه شهوة الكلام فلا يتكلم إلا بحق فيكون سكوته عبادة وكلامه عبادة .

ومهما اعتادت العين رمي البصر إلى كل شيء جميل لم تتحفظ عن النظر إلى ما لا يحل وكذلك سائر الشهوات لأن الذي يشتهى به الحلال هو بعينه الذي يشتهي الحرام ، فالشهوة واحدة ، وقد وجب على العبد منعها من الحرام ، فإن لم يعودها الاقتصاد على قدر الضرورة من الشهوات غلبته فهذه إحدى آفات المباحات .ووراءها آفات عظيمة أعظم من هذه وهو أن النفس تفرح بالتنعم في الدنيا ، وتركن إليها وتطمئن إليها أشرا وبطرا حتى تصير ثملة كالسكران الذي لا يفيق من سكره ، وذلك الفرح بالدنيا سم قاتل يسري في العروق فيخرج من القلب الخوف والحزن : وذكر الموت وأهوال يوم القيامة ، وهذا هو موت القلب قال الله تعالى ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وقال تعالى وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع وقال تعالى : اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد الآية ، وكل ذلك ذم لها فنسأل الله السلامة .

فأولو الحزم من أرباب القلوب جربوا قلوبهم في حال الفرح بمؤاتاة الدنيا فوجدوها قاسية نفرة بعيدة التأثر عن ذكر الله واليوم الآخر وجربوها في حالة الحزن فوجدوها لينة رقيقة صافية قابلة لأثر الذكر ، فعلموا أن النجاة في الحزن الدائم والتباعد من أسباب الفرح والبطر ففطموها عن ملاذها وعودوها الصبر عن شهواتها حلالها وحرامها وعلموا أن حلالها حساب وحرامها عقاب ومتشابهها عتاب وهو نوع عذاب ، فمن نوقش الحساب في عرصات القيامة فقد عذب فخلصوا أنفسهم من عذابها وتوصلوا إلى الحرية والملك الدائم في الدنيا والآخرة بالخلاص من أسر الشهوات ورقها ، والأنس بذكر الله عز وجل ، والاشتغال بطاعته وفعلوا بها ما يفعل بالبازي إذا قصد تأديبه ونقله من التوثب والاستيحاش إلى الانقياد والتأديب فإنه يحبس أولا في بيت مظلم وتخاط عيناه حتى يحصل به الفطام عن الطيران في جو الهواء ، وينسى ما قد كان ألفه من طبع الاسترسال ثم يرفق باللحم حتى يأنس بصاحبه ويألفه إلفا ، إذا دعاه أجابه ، ومهما سمع صوته رجع إليه فكذلك النفس لا تألف ربها ، ولا تأنس بذكره إلا إذا فطمت عن عادتها بالخلوة والعزلة أولا ليحفظ السمع والبصر عن المألوفات ثم عودت الثناء والذكر والدعاء ثانيا في الخلوة حتى يغلب عليها الأنس بذكر الله عز وجل عوضا عن الأنس بالدنيا وسائر الشهوات ، وذلك يثقل على المريد في البداية ثم يتنعم به في النهاية كالصبي يفطم عن الثدي وهو شديد عليه إذا كان لا يصبر عنه ساعة فلذلك يشتد بكاؤه وجزعه عند الفطام ويشتد نفوره عن الطعام الذي يقدم إليه بدلا عن اللبن ، ولكنه إذا منع اللبن رأسا يوما فيوما وعظم تعبه في الصبر عليه وغلبه الجوع تناول الطعام تكلفا ثم يصير له طبعا فلو رد بعد ذلك ، إلى الثدي لم يرجع إليه فيهجر الثدي ويعاف اللبن ويألف الطعام ، وكذلك الدابة في الابتداء تنفر عن السرج واللجام والركوب ، فتحمل على ذلك قهرا وتمنع عن السرج الذي ألفته بالسلاسل والقيود أولا ، ثم تأنس به بحيث تترك في موضعها فتقف فيه من غير قيد فكذلك تؤدب النفس كما تؤدب الطير والدواب وتأديبها بأن تمنع من النظر والأنس والفرح بنعيم الدنيا ، بل بكل ما يزايلها بالموت إذ قيل له : أحبب ما أحببت فإنك مفارقه فإذا علم أنه من أحب شيئا يلزمه فراقه ويشقى لا محالة لفراقه شغل قلبه بحب ما لا يفارقه وهو ذكر الله تعالى فإن ذلك يصحبه في القبر ولا يفارقه ، وكل ذلك يتم بالصبر أولا أياما قلائل فإن العمر ، قليل بالإضافة إلى مدة حياة الآخرة وما من عاقل إلا وهو راض باحتمال المشقة في سفر وتعلم صناعة وغيرها شهرا ليتنعم به سنة أو دهرا وكل ، العمر بالإضافة إلى الأبد أقل من الشهر بالإضافة إلى عمر الدنيا ، فلا بد من الصبر والمجاهدة ، فعند الصباح يحمد القوم السرى وتذهب عنهم عمايات الكرى كما قاله علي رضي الله عنه وطريق المجاهدة والرياضة لكل إنسان تختلف بحسب اختلاف أحواله .

والأصل فيه أن يترك كل واحد ما به فرحه من أسباب الدنيا ، فالذي يفرح بالمال أو بالجاه أو بالقبول في الوعظ أو بالعز في القضاء والولاية أو بكثرة الأتباع في التدريس والإفادة فينبغي أن يترك أولا ما به فرحه ، فإنه إن منع عن شيء من ذلك ، وقيل له : ثوابك في الآخرة ، لم ينقص بالمنع فكره ذلك وتألم به ، فهو ممن فرح بالحياة الدنيا واطمأن بها ، وذلك مهلك في حقه ، ثم إذا ترك أسباب الفرح فليعتزل الناس ولينفرد بنفسه وليراقب قلبه حتى لا يشتغل إلا بذكر الله تعالى والفكر فيه وليترصد لما يبدو في نفسه من شهوة ووسواس حتى يقمع مادته مهما ظهر ؛ فإن لكل وسوسة سببا ولا تزول إلا بقطع ذلك السبب والعلاقة وليلازم ذلك بقية العمر فليس للجهاد آخر إلا بالموت .

.

التالي السابق


(بيان شواهد النقل من أرباب البصائر ، وشواهد الشرع على أن الطريق في معالجة أمراض القلوب بترك الشهوات) وقطع علائقها (وأن مادة أمراضها هي اتباع الشهوات) *

(اعلم أن ما ذكرناه إن تأملته بعين الاعتبار انفتحت بصيرتك وانكشف لك علل القلوب وأمراضها وأدويتها بنور العلم واليقين ، وإن عجزت عن ذلك) ولم يمكنك الاعتبار (فلا ينبغي أن يفوتك التصديق والإيمان على سبيل التلقي والتقليد لمن يستحق التقليد) أي: هو أهل لأن يقلد لكمال إيمانه وورعه وعمله

[ ص: 351 ] وتنوير باطنه ، (فإن للإيمان درجة كما أن للعلم درجة ، والعلم) بالله النافع إنما (يحصل بعد الإيمان ، وهو وراءه قال تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) ففيه بيان تفاوت الدرجات وأن العلم بعد الإيمان (فمن صدق بأن مخالفة الشهوات هو الطريق إلى الله) تعالى (ولم يطلع على سببه وسره ، فهو من الذين آمنوا) وهو على درجة (فإذا اطلع على ما ذكرناه من أغوار الشهوات وأسرارها فهو من الذين أوتوا العلم) وهو على درجة ( وكلا وعد الله الحسنى ) أي: الجنة (والذي يقتضي الإيمان بهذا الأمر في القرآن والسنة وأقاويل العلماء أكثر من أن يحصى، قال الله تعالى:) وأما من خاف مقام ربه ( ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وقال تعالى:) إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ( أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ) لهم مغفرة وأجر عظيم (قيل: نزع) الله (عنهما محبة الشهوات) .

وكتب مجاهد إلى عمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها أفضل أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم أخرجه أحمد في الزهد . وعن قتادة في قوله: " امتحن الله قلوبهم للتقوى " قال: أخلص الله قلوبهم فيما أحب. أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في الشعب ، وروى الحكيم عن مكحول رفعه: نفس ابن آدم شابة ولو التفت ترقوتاه من الكبر إلا من امتحن الله قلبه للتقوى وقليل ما هم .

(وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " المؤمن بين خمس شدائد: مؤمن يحسده ، ومنافق يبغضه ، وكافر يقتله ، وشيطان يضله ، ونفس تنازعه") قال العراقي : رواه أبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث أنس بسند ضعيف ، (فبين أن النفس عدو منازع تجب مجاهدته) لأنه أكبر الأعداء (ويروى) في الإسرائيليات: (إن الله عز وجل أوحى إلى داود عليه السلام فقال: يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات) أي: الأكل بالشهوات (فإن القلوب المتعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة) أي: بصائرها ، نقله القشيري في الرسالة (وقال عيسى عليه السلام: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود غائب لم يره) يعني به: ما أعد الله لتاركها من نعيم الجنان ، (وقال -صلى الله عليه وسلم- لقوم قدموا من الجهاد: مرحبا بكم قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ، فقالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس) قال العراقي : رواه البيهقي في الزهد، وقد تقدم في شرح عجائب القلب ، (وقال -صلى الله عليه وسلم- : المجاهد من جاهد نفسه في الله عز وجل) قال العراقي : رواه الترمذي في أثناء حديث وصححه. وابن ماجه من حديث فضالة بن عبيد اهـ .

قلت: وكذلك أخرجه ابن حبان في الصحيح ، وفي لفظ ابن ماجه : والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب .

(وقال -صلى الله عليه وسلم- : كف أذاك عن نفسك ولا تتابع هواك في معصية الله إذا تخاصمك يوم القيامة ، فيلعن بعضك بعضا إلا أن يغفر الله تعالى لك ويستر) ، وقال العراقي : لم أجده بهذا السياق، (وقال سفيان الثوري) رحمه الله تعالى (ما عالجت شيئا أشد علي من نفسي مرة لي ومرة علي) أخرجه أبو نعيم في الحلية (وكان أبو العباس الموصلي) رحمه الله تعالى (يقول) مخاطبا لنفسه : (يا نفس لا في الدنيا مع أبناء الملوك تتنعمين ولا في طلب الآخرة مع العباد تجتهدين ، كأني بك بين الجنة والنار: تحبسين يا نفس ألا تستحيين، وقال الحسن) البصري رحمه الله تعالى: (ما الدابة الجموح) وهي التي تستعصي راكبها حتى تغلبه (بأحوج إلى اللجام الشديد) القوي (من نفسك) وإليه أشار صاحب البردة:


من لي برد جماح من غوايتها * كما يرد جماح الخيل باللجم



[ ص: 352 ] (وقال يحيى بن معاذ الرازي) رحمه الله تعالى: (جاهد النفس بأسياف الرياضة) وقال القشيري في الرسالة: اعلم أن مخالفة النفس رأس العبادة ، وقد سئل المشايخ عن الإسلام فقالوا: ذبح النفس بسيوف المخالفة ثم قال يحيى بن معاذ: (والرياضة على أربعة أوجه: القوت من الطعام) أي: القدر القليل منه (والغمض من المنام) أي: الخفيف منه (والحاجة من الكلام) أي: القدر المحتاج منه (وحمل الأذى من جميع الأنام) وهذه الثلاثة الأول من أوصاف الأبدال فإنهم لا يأكلون إلا عن فاقة ، ولا ينامون إلا عن غلبة ، ولا يتكلمون إلا عن حاجة (فيتولد من قلة الطعام موت الشهوات ، ومن قلة المنام صفو الإرادات ، ومن قلة الكلام السلامة من الآفات ، ومن احتمال الأذى البلوغ إلى الغايات) .

قال: (وليس على العبد شيء أشد من الحلم عند الجفا ، والصبر على الأذى ، فإذا تحركت من النفس إرادة الشهوات والآثام وهاجت منها حلاوة فضول الكلام جردت عليها سيوف قلة الطعام من غمد التهجد وقلة المنام ، وضربتها بأيدي الخمول وقلة الكلام حتى تنقطع من الذل والانتقام ميامن بوائقها في سائر الأيام) أي: دواهيها ومصائبها (ويصفيها من ظلمة شهواتها فتنجو من غوائل آفاتها فتصير عند ذلك روحانية لطيفة ونورية خفيفة) ؛ لأن ثقلها إنما كان مما يعتريها من مؤن الشهوات ، فإذا طهرت خفت وتروضت (فتجول في ميدان الخيرات ، وتسير في مسالك الطاعات كالفرس الفاره) النشيط (في الميدان وكالملك المتنزه في البستان) هذا كله كلام يحيى بن معاذ الرازي ، (وقال أيضا: أعداء الإنسان ثلاثة: دنياه وشيطانه ونفسه ، فاحترس من الدنيا بالزهد فيها ، ومن الشيطان بمخالفته) فيما يأمر وينهى (ومن النفس بترك الشهوات. وقال بعض الحكماء: من استولت عليه النفس) أي: غلبت عليه وقهرته (صار أسيرا في حب شهواتها محصورا) أي: محبوسا (في سجن هواها ، ومنعت قلبه الفوائد) الحاصلة له من منازلات الملائكة بالرحمة (وقال جعفر بن محمد) وهو الصادق ، وفي بعض النسخ جعفر بن حميد: (أجمعت العلماء والحكماء على أن النعيم) الأخروي (لا يدرك إلا بترك النعيم) الدنيوي ، وقال أبو يحيى الوراق: (من أرضى الجوارح بالشهوات فقد غرس في قلبه شجر الندامات ، وقال وهب) بن منبه: (ما زيد على الخبز فهو شهوة ، وقال وهيب بن الورد) المكي: (من أراد شهوات الدنيا فليتهيأ للذل) أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(ويروى أن امرأة العزيز) واسمها زليخة (قالت ليوسف عليه السلام بعد ما ملك خزائن الأرض: يا يوسف إن الحرص والشهوة صيرا الملوك عبيدا ، وإن الصبر والتقوى صيرا العبيد ملوكا ، فقال يوسف) عليه السلام: (قال الله عز وجل: إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وقال) القشيري في الرسالة: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت إبراهيم بن مقسم ببغداد يقول: سمعت ابن عطاء يقول: قال (الجنيد) رحمه الله تعالى: (أرقت) بكسر الراء أي سهرت (ليلة فقمت إلى وردي) من الصلاة ، (فلم أجد الحلاوة التي كنت أجدها من قبل) أي: التلذذ بالمناجاة ، فتحيرت في سببه (فأردت أن أنام فلم أقدر) عليه ، وأنا على هذه الحال (فقعدت) لأذكر الله بغير صلاة (فلم أطق القعود) ففتحت الباب (فخرجت) أنتظر الفرج (فإذا رجل ملتف في عباءة) بالمد كساء من صوف (مطروح على الطريق فلما أحس بي) رفع رأسه

[ ص: 353 ] و (قال: يا أبا القاسم إلي الساعة) أي: لم لم تخرج من حين تحيرت ، وهذا منه مكاشفة بحالة الجنيد (فقلت) له : (يا سيدي) جئتني (عن غير موعد) بوقت (فقال: بلى) جئتك بموعد ، فإني (قد سألت محرك القلوب أن يحرك لي قلبك) أي: فالوقت الذي طلبتك فيه منه هو أول ما حركك فهو الموعد (فقلت: قد فعل ذلك) أي: حركني لك (فما حاجتك؟ فقال: متى يصير داء النفس دواءها؟ فقلت: إذا خالفت النفس هواها فأقبل على نفسه ، وقال : اسمعي قد أجبتك بهذا) الجواب (سبع مرات فأبيت أن تسمعيه) أي: تقبليه (إلا من الجنيد) فقد سمعت ذلك منه (فانصرف وما عرفته) فعلم من هذه القصة أن الدواء النافع للنفس مخالفة هواها بما يرضي مولاها ، (وقال يزيد) بن أبان (الرقاشي) بتخفيف القاف أبو عمرو البصري القاص زاهد ضعيف ، مات قبل العشرين بعد المائة: (إليكم عني الماء البارد في الدنيا ، لعلي لا أحرمه في الآخرة) لما علم أن نفسه تشتهي الماء البارد منعها منه حسما لشهوتها، (وقال رجل لعمر بن عبد العزيز) رحمه الله تعالى: (متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيت الصمت . قال: فمتى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت الكلام) أي: خالف نفسك في هواها ، فإذا اطمأنت إلى الكلام فخالفها بما يضاده وهو السكون وبالعكس .

(وقال علي كرم الله وجهه: من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات في الدنيا) ؛ لأن الجنة حفت بالمكاره ، كما أن النار حفت بالشهوات .

(وكان مالك بن دينار) البصري رحمه الله تعالى (يطوف في السوق فإذا رأى الشيء يشتهيه قال لنفسه: اصبري فوالله ما أمنعك) عنه (إلا من كرامتك علي) .

وأخرج أبو نعيم في الحلية من طريق إبراهيم بن بشار قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: أشد الجهاد جهاد الهوى ، من منع نفسه هواها فقد استراح من الدنيا وبلاها ، وكان محفوظا ومعافى من أذاها ، وقد أورد القشيري في الرسالة في باب مخالفة النفس وذكر عيوبها ما يحسن إيراده هنا ، قال: قال ذو النون المصري: مفتاح العبادة الفكر ، وعلامة الإصابة مخالفة النفس والهوى ، ومخالفتها ترك شهواتها .

وقال ابن عطاء: النفس مجبولة على سوء الأدب ، والعبد مأمور بملازمة الأدب ، فالنفس تجري بطبعها في ميدان المخالفة ، والعبد يردها بجهده عن سوء المطالبة ، فمن أطلق عنانها فهو شريكها معها في فسادها ، وقال أبو حفص الحداد: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أيامه كان مغرورا ، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها. وقال أبو بكر الطبستاني: النعمة العظمى الخروج عن النفس لأن النفس أعظم حجاب بينك وبين الله تعالى، وقال سهل: ما عبد الله بشيء أفضل من مخالفة النفس والهوى .

وسئل ابن عطاء عن أقرب شيء إلى مقت الله تعالى فقال: رؤية النفس وأحوالها ، وأشد من ذلك مطالعة الأعواض على أفعالها . وقال محمد بن عبد الله: آفة العبد رضاه عن نفسه بما هو فيه .

(فإذا قد اتفق العلماء والحكماء على أن لا طريق إلى سعادة الآخرة) التي هي بقاء بلا فناء (إلا بنهي النفس عن الهوى ومخالفة الشهوات ، فالإيمان بهذا واجب ، وأما علم تفصيل ما يترك من الشهوات ومالا يترك فينكشف مما قدمناه ، وحاصل الرياضة وسرها أن لا تتمتع النفس بشيء مما لا يوجد في القبر إلا بقدر الضرورة) والاحتياج (فيكون مقتصرا من الأكل) والشرب (والنكاح والمسكن) والمركب (وكل ما هو مضطر إليه على قدر الحاجة والضرورة) الداعية فقط (فإنه لو تمتع بشيء منه أنس به) طبعا وعادة (وألفه فإذا مات تمنى الرجوع إلى الدنيا ، ولا يتمنى الرجوع إلى الدنيا إلا من لا حظ له في الآخرة) إلا ما استثني في الأحاديث الواردة كالشهيد وأضرابه ، فإنهم يتمنون الرجوع إلى الدنيا لا لأجل حظ الدنيا، بل لما يرون من حظ الآخرة ، المترتب على ذلك العمل الذي فارقوا عليه، (ولا خلاص عن ذلك إلا بأن يكون القلب مشغولا بمعرفة الله وحبه والتفكر فيه ، ويقتصر من الدنيا على ما يدفع عوائق الفكرة والذكر فقط) ويراعى

[ ص: 354 ] فيه حال كل إنسان بحسب ما يقتضيه وقته (فمن لم يقدر على حقيقة ذلك فليقرب منه ، فالناس فيه أربعة: رجل استغرق ذكر الله قلبه فلا يلتفت إلى الدنيا إلا في ضرورات المعيشة) التي لا بد منها (فهو من الصديقين) ، وهذا الاستغراق يكون بالذكر لقلبه والمراقبة الدائمة حتى يمتزج باطن القلب بالذكر ، فلا يجد مساغا فيه لغيره (ولا ينتهي إلى هذه الرتبة إلا بالرياضة الطويلة) والمجاهدة الشاقة (والصبر عن الشهوات مدة مديدة) حتى تتمرن النفس على ذلك ، (والثاني رجل استغرقت الدنيا قلبه) واستولت عليه من سائر نواحيه (فلم تبق لله ذكرا في قلبه إلا من حيث حديث النفس ، حيث يذكره باللسان) ولا يجاوز قلبه ، فجميع عباداته عادات ومراآة (وهذا من الهالكين) في أودية الغفلة والضلال. (والثالث: رجل اشتغل بالدين والدنيا جميعا، لكن الغالب على قلبه هو الدين ، فهذا لا بد له من ورود النار إلا أنه ينجو منها سريعا بقدر غلبة ذكر الله على قلبه. والرابع: رجل يشتغل بهما جميعا، لكن الدنيا أغلب على قلبه ، فهذا يطول مقامه في النار ، ولكن يخرج منها لا محالة لقوة ذكر الله في قلبه وتمكنه من صميم فؤاده ، وإن كان ذكر الدنيا أغلب عليه) ويؤيده ما تقدم في الخبر: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردلة من الإيمان (وربما يقول القائل: إن التنعم بالمباح مباح ، فكيف يكون سبب البعد من الله) تعالى (فهذا خيال ضعيف ، بل حب الدنيا رأس كل خطيئة) كما رواه البيهقي في الشعب بإسناد حسن إلى الحسن البصري مرسلا مرفوعا ، وأورده الديلمي في الفردوس وتبعه ولده بلا إسناد عن علي مرفوعا ، وهو عند البيهقي أيضا في الزهد ، وأبي نعيم في الحلية في ترجمة الثوري من قول عيسى ابن مريم عليه السلام ، وعند ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان من قول مالك بن دينار ، وعند ابن يونس في ترجمة سعد بن مسعود التجيبي من تاريخ مصر له من كلام سعد هذا، (والمباح الخارج عن قدر الحاجة من الدنيا أيضا وهو سبب البعد ، وسيأتي ذكره في كتاب ذم الدنيا) إن شاء الله تعالى .

(وقد قال) القشيري في الرسالة: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت (إبراهيم الخواص) يقول (كنت في جبل اللكام) كغراب، جبل بالشام أعلى الجبال وأشمخها، وهو مأوى العباد والصالحين (فرأيت رمانا) أي: شجرا عليه رمان ، وكنت عزمت على تركه لله تعالى ، (فاشتهيته) لما مررت به فدنوت (فأخذت منه رمانة واحدة فشققتها فوجدتها حامضة) فلم آكل منها شيئا، أدب بذلك لمخالفة عزمه (فمضيت وتركت الرمان فرأيت رجلا مطروحا) على الأرض (قد اجتمع عليه الزنابير) أي: الدبر تقع على جراحاته (فقلت: السلام عليك، فقال: وعليك السلام ، يا إبراهيم. فقلت) له: (كيف عرفتني؟ فقال: من عرف الله لا يخفى عليه شيء) بأن ييسر الله له كل ما يريده تارة بالسؤال وتارة بغيره، (فقلت) له: (أرى لك حالا مع الله) تعالى (فلو سألته أن يحميك من هذه الزنابير) ويقيك من أذاها كان خيرا لك (فقال) وأنا أيضا (أرى لك حالا مع الله) تعالى (فلو سألته أن يحميك شهوة الرمان) كان خيرا لك (فإن لدغ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة ، ولدغ الزنابير يجد ألمه في الدنيا) وألم الدنيا أهون من ألم الآخرة (فتركته ومضيت) لشأني ، خشية أن أشتغل به ، فيفسد به علي توكلي، دل كلام المطروح الأول على أنه من العارفين ، وكلامه الثاني أنه من المكاشفين ، ودل سياق القصة على أن شهوة الرمان وإن كان مباحا أكله فهي من جملة الدنيا التي يحبها رأس كل خطيئة ، وأي خطيئة أعظم من بقاء الألم إلى آخر الأبد، (وقال) القشيري أيضا: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت (السري) السقطي

[ ص: 355 ] يقول (منذ) ثلاثين أو (أربعين سنة تطالبني نفسي أن أغمس خبزا في دبس فما أطعمتها) ذلك ، وإنما ذكر هذا لمن يقتدي به من أصحابه بكمال مجاهدته لنفسه وتعظيمه لربه ومخالفته لما تركه لوجهه .

وروى أبو نعيم في ترجمة مالك بن دينار من الحلية قال: قال مالك بن دينار لرجل من أصحابه إني لأشتهي رغيفا بلبن رائب قال: فانطلق فجاء به، قال: فجعل له على الرغيف، فجعل مالك يقلبه وينظر إليه ، ثم قال: أشتهيك منذ أربعين سنة فغلبتك حتى كان اليوم تريد أن تغلبني، إليك عني، وأبى أن يأكله ، ومن طريق المنذر أبي يحيى قال: رأيت مالك بن دينار ومعه كراع من هذه الأكارع التي قد طبخت قال: فهو يشمه ساعة فساعة قال: ثم مر على شيخ مسكين على ظهر الطريق يتصدق فقال: هاه ، يا شيخ، فناوله إياه ، ثم مسح يده بالجدار ، ثم وضع كساءه على رأسه وذهب ، فلقيت صديقا له فقلت: رأيت من مالك كذا وكذا ، قال: أنا أخبرك: كان يشتهيه منذ زمان، فاشتراه فلم تطب نفسه أن يأكله فتصدق به ، (فإذا لا يمكن إصلاح القلب لسلوك طريق الله ما لا يمنع النفس من التنعم بالمباح ، فإن النفس إذا لم تمنع بعض المباحات طمعت في المحظورات) ولم تزل به حتى توقعه فيها (فمن أراد حفظ لسانه عن الغيبة والفضول فحقه أن يلزمه السكوت) أبدا (إلا عن المهمات) الضرورية (حتى تموت منه شهوة الكلام فلا يتكلم إلا بحق) في حق عن حق (فيكون سكوته عبادة وكلامه عبادة) إذا كان بحق (ومهما اعتادت العين رمي البصر إلى كل شيء جميل لم تتحفظ من النظر إلى ما لا يحل) من المحظورات ، (وكذلك سائر الشهوات لأن الذي يشتهى به الحلال هو بعينه الذي يشتهى به الحرام ، فالشهوة واحدة ، وقد وجب على العبد منعها عن الحرام ، فإن لم تتعود الاقتصار على قدر الضرورة في الشهوات غلبته الشهوة) فاستولت عليه (فهذه إحدى آفات المباحات ووراء هذا آفة أعظم من هذه وهو أن النفس تفرح بالتنعم بالدنيا ، وتركن إليها وتطمئن بها) وينشرح صدره لزخارفها (أشرا) أي: فرحا (وبطرا حتى تصير ممتلئة بها كالسكران الذي لا يفيق من سكره ، وذلك الفرح بالدنيا) بهذا الحد (سم قاتل يسري في العروق) ويمتلئ به البدن (فيخرج من القلب الخوف) من الله تعالى (والحزن الذي قال مالك بن دينار: القلب العاري منه خراب كالدار) التي لا ساكن بها (وذكر الموت وأهوال القيامة ، وهذا هو موت القلب) أعاذنا الله من ذلك (قال الله) تعالى: ( وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع وقال تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر إلى قوله: إلا متاع الغرور ) وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا الباب ، (فأولو الحزم) والبصيرة المنورة (من أرباب القلوب جربوا قلوبهم في حالة الفرح بمؤاتاة الدنيا) وموافقتها (فوجدوها قاسية بطرة بعيدة) بطيئة (من التأثر بذكر الله) تعالى (واليوم الآخر وجربوها في حالة الحزن فوجدوها لينة) هينة (رقيقة صافية قابلة لأثر الذكر ، فعلموا أن النجاة في الحزن الدائم والتباعد عن أسباب البطر والفرح) وأن الهلاك الدائم في أسباب الفرح (ففطموها عن ملاذها) ومتنعماتها (وعودوها الصبر عن شهواتها حلالها وحرامها) ولله در القائل:


إن لله عبادا فطنا * طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا * أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا * صالح الأعمال فيها سفنا



(وعلموا أن حلالها حساب وهو نوع عذاب ، فمن نوقش الحساب في عرصات القيامة فقد عذب) وقد روى الشيخان من حديث عائشة: " من نوقش الحساب عذب " وروى الطبراني في الكبير من حديث ابن الزبير: " من

[ ص: 356 ] نوقش المحاسبة هلك " (فخلعوا أنفسهم من عذابها وتوصلوا إلى الحرية) الحقيقية (والملك في الدنيا والآخرة بالخلاص عن أسر الشهوات ورقها ، والأنس بذكر الله تعالى ، والاشتغال بطاعته) على الدوام (وفعلوا بها ما يفعل بالبازي) الذي يتخذ للصيد (إذا قصد تأديبه) وتهذيبه (ونقله عن توثبه وتوحشه) كما هو من طبعه (إلى الانقياد) والامتثال للصائد (والتأدب) عند الإرسال والدعاء (فإنه يحبس أولا في بيت وتخاط عيناه) بأن يجعل عليهما حجاب كالأقماع (حتى يحصل به الفطام عن الطيران في جو الهواء ، وينسى ما كان قد ألفه من طبع الاسترسال ثم يرفق به باللحم) قليلا قليلا على التدريج (حتى يأنس بصاحبه ويألفه ألفا، إذا دعاه أجابه ، ومهما سمع صوته رجع إليه) ولو كان بعيدا، (وكذلك النفس لا تألف بها ، ولا تأنس بذكره إلا إذا فطمت عن عاداتها) المألوفة (بالخلوة والعزلة أولا لتحفظ السمع والبصر عن المألوفات) العادية (ثم عودت الثناء) والتحميد والتقديس (والذكر) باللسان والقلب معا (والدعاء) والتضرع والابتهال (ثانيا في الخلوة) وعلى حين الغفلة عن الناس حتى يغلب عليها الأنس والاطمئنان (بذكر الله) تعالى (عوضا عن الأنس بالدنيا وسائر الشهوات ، وذلك يثقل على المريد في البداية) أي: في أول دخوله في السلوك، (ثم يتنعم به) ويستلذه (في النهاية) أي: عند انتهاء أمره في السلوك (كالصبي) الرضيع الذي (يفطم عن الثدي وهو) أي: الفطم (شديد عليه) جدا (إذا كان) قد ألفه (لا يصبر عنه ساعة) فلذلك تراه (يشتد بكاؤه وجزعه عند الفطام) ويهزل جسده ويصفر لونه (ويشتد نفوره عن الطعام الذي يقدم إليه بدلا عن اللبن ، ولكنه إذا منع اللبن رأسا يوما بعد يوم وعظم تعبه في الصبر وغلبه الجوع تناول الطعام تكلفا) وهلم جرا (ثم يصير طبعا فيما بعد ، فلو رد إلى الثدي) ثانيا (لم يرجع إليه فيهجر الثدي ويعاف اللبن) أي: يكرهه (ويألف الطعام ، وكذلك الدابة في الابتداء تنفر عن السرج واللجام والركوب ، فتحمل على ذلك قهرا) عليها، (وتمنع عن الانسراح) والاسترسال (الذي ألفته بالسلاسل والقيود أولا ، ثم تأنس به بحيث تترك في موضعها فتقف فيه من غير قيد) ولا سلسلة (فكذلك تؤدب النفس كما تؤدب الطيور والدواب وتأديبها بأن تمنع عن الأشر والبطر والفرح بنعيم الدنيا ، بل بكل ما تزايله) أي: تفارقه (بالموت فيقال لها: أحبب ما أحببت فإنك مفارقه) روى الترمذي والبيهقي من حديث أبي هريرة : " أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما " . الحديث. (فإذا علم أنه من أحب شيئا يلزمه فراقه) بالموت (ويشقى لا محالة لفراقه شغل قلبه بحب ما لا يفارقه) أبدا (وهو ذكر الله تعالى فإن ذلك يصحبه في القبر ولا يفارقه ، وكل ذلك يتم بالصبر أياما قلائل ، فالعمر قليل بالإضافة إلى مدة حياة الآخرة) فإنها أبدية (وما من عاقل إلا وهو راض باحتمال المشقة) والتعب (في سفره وتعلم صناعته وغير ذلك شهرا يتنعم به سنة، فكل العمر بالإضافة إلى الأبد أقل من الشهر بالإضافة إلى عمر الدنيا ، فلا بد من الصبر والمجاهدة ، فعند الصباح يحمد القوم السرى) وهو سير الليل ، فمن أسهر ليله ساريا إلى مقصوده ، فإذا أصبح ورأى نفسه قد قطع مفاوز لم يكن قد قطعها في النهار يحمد نفسه على حسن اجتهاده لنيله مقصوده بخلاف من آثر الكسل واختار الراحة والنوم، يندم إذا أصبح عليه

[ ص: 357 ] النهار ، وهذا مثل مشهور (وطريق الرياضة والمجاهدة بكل إنسان يختلف بحسب اختلاف أحواله ، والأصل فيه أن يترك كل واحد ما به فرحه من أسباب الدنيا ، فالذي يفرح بالمال أو بالجاه أو بالقبول في الوعظ) على العامة (أو بالعز في القضاء والولاية) للأعمال (أو بكثرة الأتباع) من الطلبة (في التدريس والإفادة) أو بكثرة المريدين في مشيخة الزاوية (فينبغي أن يترك أولا ما به فرحه وابتهاجه ، فإنه إن منع عن شيء من ذلك، وقيل له: ثوابك في الآخرة ، لم ينقص بالمنع فكره ذلك وتألم به ، فهو ممن فرح بالحياة الدنيا واطمأن إليها ، وذلك مهلك في حقه ، ثم إذا ترك أسباب الفرح فليعتزل الناس ولينفرد بنفسه وليراقب قلبه حتى لا يشتغل إلا بذكر الله والفكر فيه) ويحفظ هذه الكيفية حتى يرسخ فيه الذكر (وليترصد لما يبدو في نفسه من شهوة ووسواس) وخطرة (حتى يقمع مادته مهما ظهر؛ فإن لكل وسوسة) ظهرت في القلب (سببا إما ظاهرا وإما خفيا ولا تزول) عنه (إلا بقطع) ذلك (السبب والعلاقة) كما تقدم ذلك في الكتاب الذي قبله (وليلازم ذلك بقية العمر) على هذا المنوال (فليس للجهاد آخر إلا الموت والسلام) إلا أنه قد يقع لهذا المجاهد الذاكر في أثناء اشتغاله أنوار ووقائع وأحوال ، فينبغي له الإعراض عنها والاشتغال بالمقصود الحقيقي ، ولله در القائل:


قال لي حسن كل شيء تجلى * بي تملى فقلت قصدي وراكا



والله الموفق .




الخدمات العلمية