الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل وبما قدمناه من الأصل تظهر مسألة " الاستثناء في الظهار " فإن قوله أنت علي حرام . وأنت علي كظهر أمي . قال أحمد : يصح فيه الاستثناء ; لأن موجبه الكفارة إذا حنث بالعود . وأصل أحمد : أن كل ما شرعت فيه الكفارة شرع فيه اليمين وإلا فلا . [ ص: 316 ] وقال طائفة من أصحابه منهم ابن بطة والعكبري وابن عقيل : لا يصح فيه الاستثناء لأنه إنشاء بمنزلة التطليق والإعتاق ; فإنه ليس من جملتين كالقسم ; وإنما هو جملة واحدة كسائر الإنشاءات ; فقوله : أنت علي حرام كقوله : أنت طالق . ليس هنا فعل مستقبل يعلق بالمشيئة كما في قوله : لأخرجن . وهذا في بادئ الرأي أقوى للمشابهة الصورية .

                لكن قول أحمد أفقه وأدخل في المعنى . وإنما هو والله أعلم في ذلك بمنزلة من عد نذر اللجاج والغضب كنذر التبرر ; للاستواء في الصورة اللفظية . ومن عده يمينا لمشابهة اليمين في معنى وصفها وهو المحلوف عليه ومن أعطاه حكمهما لجمعه معناهما . فإن نصفه يشبه اليمين في المعنى ونصفه يشبه النذر . ولهذا سائر الألفاظ المعلق بها الأحكام قد ينظر ناظر إلى صورتها وآخر إلى معناها وآخر إليهما معا كما في قوله لأفعلن . الصورة صورة الخبر والمعنى قد يكون خبرا وقد يكون طلبا وقد يجتمعان . فقوله : أنت علي كظهر أمي . كان في الجاهلية إنشاء محضا للتحريم والتحريم لا يثبت بدون الطلاق فكان عندهم طلاقا على موجب ظاهر لفظه ; لأن الطلاق يستلزم التحريم . فجعلوا اللازم دليلا على الملزوم فأبطل الله ذلك ; لأنه منكر من القول وزور فإن الحلال لا يكون كالحرام المؤبد ولم يجعله طلاقا وإن عني به الطلاق لأن الطلاق لا يثبت إلا بعد ثبوت المعنى الفاسد وهو المشابهة [ ص: 317 ] المحرمة ; فصار كقوله : أنت يهودية أو نصرانية . إذا عنى به الطلاق فإن هذا لا يثبت إلا بعد ثبوت الكفر الذي لا يجوز له أن يثبته فيها . أو أنت أتان أو ناقة أو أنت علي كالأتان والناقة . ومن هنا قال أكثر الصحابة إن قوله : أنت علي حرام . أيضا يمين ليس بطلاق وصرح بعضهم بأنه يمين مغلظة كالظهار .

                وهو مذهب أحمد . فصار قوله أنت علي كظهر أمي . بمنزلة لا أقربنك ; لأن إثبات المشابهة للأم يقتضي امتناعه عن وطئها ويقتضي رفع العقد . فأبطل الشارع رفع العقد لأن هذا إلى الشارع ; لا إليه ; فإن العقود والفسوخ أثبات الله لا تثبت إلا بإذن الشارع وأثبت امتناعه من الفعل لأن فعل الوطء وتركه إليه هو مخير فيه فلما صار بمنزلة قوله : لا ينبغي مني وطؤك . فهذا معنى اليمين ; لكنه جعله يمينا كبرى ليس بمنزلة اليمين بالله لأن تلك اليمين شرع الحلف بها فلم يعص في عقدها وهذه اليمين منكر من القول وزور ; ولأن هذه اليمين تركها واجب فكانت الكفارة عوضا عن ذلك . ولهذا كانت اليمين بالله لا توجب تحريم الفعل إلى التكفير وهذه اليمين توجب تحريم الحنث إلى التكفير فلم يكن له أن يحنث فيها حتى يحلها ووجبت فيها الكفارة الكبرى . وكونها جملة واحدة لا يمتنع اندراجها في اسم اليمين كلفظ النذر هو يمين وجملة واحدة ; وإنما العبرة بما تضمن عهدا [ ص: 318 ] وقد سمى الله كل تحريم " يمينا " بقوله : { لم تحرم ما أحل الله لك } - إلى قوله - { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } كما سمى الصحابة نذر اللجاج والغضب " يمينا " وهو جملة شرطية ; نظرا إلى المعنى . يوضح ذلك أن الظهار لو كان إنشاء محضا لأوجب حكمه ; ولم يكن فيه كفارة ; إذ الكفارة لا تكون لرفع عقد أو فسخ ; وإنما تكون لرفع إثم المخالفة التي تضمنها عقده ; ولهذا لما كان كل من عقد اليمين وعقد الظهار لا يوجب الكفارة إلا إذا وجدت المخالفة علم أنه يمين . والشافعي يقول يوجب لفظ الظهار ترك العقد فإذا أمسكها مقدار ما يمكنه إزالته وجبت الكفارة . وأما أحمد والجمهور فعندهم يوجب لفظه الامتناع من الوطء على وجه يكون حراما فالكفارة ترفع هذا التحريم فلا يجوز الوطء قبل ارتفاعه . وكذلك يقول أحمد في قوله : أنت علي حرام . أن موجبه الامتناع من الوطء على جهة التحريم ; لكن من يفرق بينهما يقول : إنه في الظهار ما كان يمكن أن يعطي اللفظ ظاهره ; فإنه لا تصير مثل أمه في دين الإسلام فاقتصر به على بعضه وهو ترك الوطء ; دون ترك العقد كما كانوا في الجاهلية .

                [ ص: 319 ] ولفظ الحرام يمكن إثبات موجبه . وقد يقول أحمد : إن الحرام لا يمكن إثبات موجبه ; فإن تحريم العين لا يثبت أبدا والتحريم العارض لا يثبت بدون شبيه ; إذ ليس هو المفهوم من مطلق التحريم ; وإنما هو تحريم مقيد فاستعمل بعض موجب اللفظ وهو تحريم الفعل الذي هو وطء ولأن التحريم المضاف إلى العين إنما يراد به الفعل فكأنه [ قال ] وطؤك حرام . وهذا في معنى قوله : والله لا أطؤك . فكما أن الإيلاء لا يكون طلاقا ولو نوى به الطلاق فكذلك التحريم ; إذ الإيلاء نوع من الأيمان القسمية والظهار نوع من الأيمان التحريمية . والبحث فيه يتوجه أن يقال : نضعه على أدنى درجات التحريم ; لأن اللفظ مطلق فلا تثبت الزيادة إلا بسبب كما في قوله : أنت طالق . لا يقع إلا واحدة ; وكما اكتفي في التشبيه بالتحريم . أما إذا نوى الطلاق فيقال : وإن نوى الطلاق بالظهار .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية