الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في بيان حكم هاء الضمير وما ألحق بها من حيث المد والقصر

ونعني بهذا الفصل بيان حكمها عند الوصل من حيث المد والقصر، لا من حيث الوقف عليها، فقد تقدم الكلام عليه، ولذا ختمنا بها باب المد والقصر، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يختم لنا جميعا بالحسنى، وأن يجعلنا من المنضويين تحت قوله سبحانه: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون [يونس: 26] إنه سميع مجيب.

هذا، وكلامنا في هاء الضمير هنا على مسألتين:

الأولى في تعريفها، والثانية في حالاتها في تلاوة القرآن الكريم.

أما تعريفها: فهي الهاء الزائدة عن بنية الكلمة الدالة على المفرد المذكر الغائب، وأصلها الضم إلا أن يقع قبلها كسر أو ياء ساكنة مطلقا فتكسر حينئذ.

[ ص: 356 ] فقولنا: "هي الهاء الزائدة عن بنيه الكلمة" خرج به الهاء الأصلية، كالهاء في نحو: ما نفقه [هود: 91] لئن لم ينته [الأحزاب: 60] وجه أبيكم [يوسف: 9] وانه عن المنكر [لقمان: 17] ولما توجه [القصص: 22] فكل هذه الهاءات وما ماثلها أصلية مقصورة في التلاوة، والقصر هنا معناه حذف المد نهائيا، كما سيأتي بيانه في التنبيهات آخر الفصل.

وقولنا: "الدالة على المفرد المذكر الغائب" خرج به الدالة على الواحدة المؤنثة في نحو: من أهلها [النساء: 35] والدالة على التثنية نحو: فلا جناح عليهما [البقرة: 230] والدالة على الجمع مطلقا نحو عليهم [الفاتحة: 7] عليهن [البقرة: 228].

وتتصل هاء الضمير بالاسم نحو: إلى أجله [البقرة: 282] وبالفعل نحو: قلته [المائدة: 116] ويعلمه [آل عمران : 48] أو حرقوه [العنكبوت: 24] وبالحرف نحو: [ ص: 357 ] إليه [البقرة: 28].

وكما تسمى بهاء الضمير تسمى بهاء الكناية أيضا؛ لأنها يكنى بها عن المفرد المذكر الغائب.

وأما حالاتها في التلاوة فأربع، يجب على القارئ معرفتها جيدا، وهي كما يلي:

الحالة الأولى: أن تقع بين ساكنين نحو: آتاه الله الملك [البقرة: 258] وآتيناه الإنجيل [المائدة: 46].

الحالة الثانية: أن يقع قبلها محرك وبعدها ساكن، نحو: له الملك وله الحمد [التغابن: 1] ولا خلاف بين القراء العشرة في قصر هذه الهاء، أي عدم صلتها في هاتين الحالتين؛ لئلا يجتمع ساكنان على غير حدهما.

الحالة الثالثة: أن تقع بين محركين، نحو قوله تعالى: إن ربه كان به بصيرا [الانشقاق: 15] ولا خلاف بين عامة القراء في هذه الحالة في صلة هذه الهاء بواو لفظية في الوصل إذا كانت مضمومة بعد ضم أو بعد فتح كقوله سبحانه: إن كنت قلته فقد علمته [المائدة: 116] وبياء لفظية في الوصل أيضا إذا كانت مكسورة، ولا يكون قبلها إلا مكسور حينئذ، نحو قوله عز من قائل: ولا يشرك في حكمه أحدا [الكهف: 26].

ويستثنى من هذه الحالة اثنتا عشرة كلمة وقعت في واحد وعشرين موضعا [ ص: 358 ] من القرآن الكريم، وقد وقع فيها خلاف بين القراء، وهذا الخلاف دائر بين الصلة والقصر والإسكان، والكلمات هي:

"بيده، يؤده، نؤته، نوله، ونصله، أرجه، ترزقانه، يأته، ويتقه، فألقه، يرضه، يره".

أما كلمة "بيده" فوقعت في أربعة مواضع: موضعان بالبقرة في قوله تعالى: أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح [البقرة: 237] وقوله سبحانه: إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه [البقرة: 249] وموضع في كل من المؤمنون ويس في قوله تعالى: " بيده ملكوت كل شيء " [المؤمنون، الآية: 88، يس، الآية: 83].

وأما كلمة "يؤده" فوقعت في موضعين بآل عمران في قوله تعالى: يؤده إليك [آل عمران : 75] لا يؤده إليك [آل عمران : 75].

وأما كلمة "نؤته" فوقعت في ثلاثة مواضع، منها موضعان بآل عمران في قوله تعالى: ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها [آل عمران : 145] والثالث في سورة الشورى في قوله سبحانه: ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها [الشورى: 20].

وأما كلمتا "نوله ونصله" فوقعتا في سورة النساء في قوله تعالى: نوله ما تولى ونصله جهنم [النساء: 115].

وأما كلمة "أرجه" فوقعت في موضعين، موضع بالأعراف في قوله تعالى: قالوا أرجه وأخاه وأرسل [الأعراف: 111] وموضع بالشعراء في قوله سبحانه: قالوا أرجه وأخاه وابعث [الآية: 36].

[ ص: 359 ] وأما كلمة "ترزقانه" فوقعت في موضع واحد بسورة سيدنا يوسف - عليه الصلاة والسلام - في قوله تعالى: طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله [يوسف: 37].

وأما كلمة "يأته" فوقعت في سورة طه - عليه الصلاة والسلام - في قوله تعالى: ومن يأته مؤمنا [طه: 75].

وأما كلمة "ويتقه" فوقعت في موضع واحد في سورة النور في قوله تعالى: ويخش الله ويتقه [النور: 52].

وأما كلمة "فألقه" فوقعت في موضع واحد في سورة النمل في قوله تعالى: فألقه إليهم [النمل: 28].

وأما كلمة "يرضه" فوقعت في موضع واحد في الزمر في قوله تعالى: وإن تشكروا يرضه لكم [الزمر: 7].

وأما كلمة "يره" فوقعت في ثلاثة مواضع، موضع بالبلد في قوله تعالى: أيحسب أن لم يره أحد [البلد: 7] وموضعين بالزلزلة في قوله سبحانه: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة: 7 - 8].

ومعرفة من سكن أو وصل أو قصر هذه الهاءات من القراء العشرة تركنا ذكره هنا؛ طلبا للاختصار، ومراعاة لحال المبتدئين، ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر كتب القراءات فهو مبسوط فيها.

وبالنسبة لرواية حفص عن عاصم فإنه وصلها بواو لفظية إذا كانت مضمومة، وبياء لفظية إذا كانت مكسورة - كما تقدم - إلا في خمسة مواضع منها وهي "أرجه" [ ص: 360 ] في الموضعين "ويتقه" بالنور و"فألقه" بالنمل و"يرضه" بالزمر.

أما "أرجه" في الموضعين وكذلك "فألقه" فقرأ بإسكان الهاء وصلا ووقفا.

وأما "ويتقه" فقرأ بقصر الهاء؛ لأنه يسكن القاف قبلها، فخرجت بذلك عن حالة بين المحركين حسب روايته.

وأما "يرضه" فقرأ بقصر الهاء، ونعني بالقصر هنا حذف حرف المد الذي هو صلة الهاء نهائيا - كما سيأتي في التنبيهات - وبهذا يكون حفص قد جمع في روايته عن عاصم بين اللغات الثلاث التي في هاء الضمير، وهي الصلة والقصر والإسكان.

الحالة الرابعة: أن يقع قبلها ساكن مطلقا وبعدها متحرك نحو: فيه هدى [البقرة: 2] خذوه فاعتلوه [الدخان: 47] وبرا بوالديه [مريم: 14] وليرضوه [الأنعام: 113] إليه أخاه [يوسف: 69] استأجره [القصص: 26].

وهذه الحالة مختلف فيها بين القراء العشرة، فابن كثير يقرأ بصلتها وصلا بواو لفظية إذا كانت مضمومة، نحو: اجتباه وهداه [النحل: 121] فعلوه [القمر: 52] وبياء لفظية في الوصل إذا كانت مكسورة نحو: لا ريب فيه [السجدة: 2] والذي قال لوالديه [الأحقاف: 17] ووافقه حفص عن عاصم في موضع واحد في التنزيل، وهو قوله تعالى: ويخلد فيه مهانا [الفرقان: 69] بالفرقان، فوصل الهاء من "فيه" بياء لفظية في الوصل، وباقي [ ص: 361 ] القراء غير ابن كثير وحفص في موضع الفرقان، وغير ابن كثير في غيرها - بالقصر، أي بحذف الصلة مطلقا.

تنبيهات هامة:

التنبيه الأول: إذا وصلت الهاء بباء أو بواو فينظر إلى ما بعدها، فإن كان ما بعدها همز فالصلة من قبيل المد المنفصل فيعطى حكمه حينئذ في المد، كقوله تعالى: ولا يشرك في حكمه أحدا [الكهف: 26] أيحسب أن لم يره أحد [البلد: 7] وإن كان ما بعد الصلة ليس همزا فالصلة من قبيل المد الطبيعي كقوله تعالى: نوله ما تولى ونصله جهنم [النساء: 115].

التنبيه الثاني: المراد من صلة الهاء مدها، وقد يكون المد طبيعيا، وقد يكون منفصلا - كما مر - والمراد من القصر هنا حذف الصلة نهائيا، وليس المراد منه القصر المعهود الذي هو حركتان كالطبيعي كما يتبادر؛ لأن حذف حرف المد من معاني القصر، كما مر في المعنى الاصطلاحي للقصر في صدر الباب، ووصل الهاء وقصرها على ما تقدم إنما هو في حالة الوصل فحسب.

أما في حالة الوقف فلا خلاف بين عامة القراء العشرة في أنه بالسكون، وعلى هذا فمن سكن الهاء فيكون سكونه في الوصل والوقف، ومن وصلها أو قصرها فيكون في الوصل فقط، فتأمل.

التنبيه الثالث: فيما يلحق بهاء الضمير: يلحق بهاء الضمير في الحكم الهاء في اسم الإشارة للمفردة المؤنثة في لفظ "هذه" في عموم القرآن الكريم، فتوصل بياء لفظية في الوصل إذا وقعت بين متحركين كقوله تعالى: وقالوا هذه أنعام [الأنعام: 138] هذه بضاعتنا ردت إلينا [يوسف: 65] وتحذف صلتها وصلا [ ص: 362 ] لالتقاء الساكنين إذا وقعت قبل الساكن كقوله تعالى: عن هذه الشجرة [الأعراف: 20] وهذه الأنهار [الزخرف: 51] والحكم في هذه الهاء عام لجميع القراء العشرة، سواء في حذف صلتها أو في إثباتها، لا فرق بين حفص وغيره.

ويراعى هنا حكم الهمز الواقع بعد الصلة أيضا - كما مر في التنبيه الأول - وإنما لم توصل هذه الهاء بواو كهاء الضمير؛ لأنها لم تقع مضمومة بحال، وكذلك لم تقع ساكنة في الوصل، فخالفت هاء الضمير في هاتين المسألتين.

وقد أشار إلى هذه الهاء وبين حكمها المذكور هنا الإمام أبو شامة - رحمه الله - في شرحه على الشاطبية في نفس الباب.

كما أشار إليها كذلك الإمام ابن بري في الدرر اللوامع بقوله رحمه الله:


وهاء هذه كهاء المضمر فوصلها قبل محرك حري

اهـ

ويؤخذ من كلامه - رحمه الله - أنها إذا وقعت قبل ساكن فتحذف صلتها، وهو كذلك كما أسلفنا.

وإلى هنا انتهى كلامنا على المدود، ونسأل الله تعالى العون على تمام المقصود، آمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية