الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      لما كان ما فعله سبحانه - من منع هذا الجيش العظيم - الذي من قوته طاعة أكبر ما خلق الله من الحيوان البري فيما نعلمه له - من دخول الحرم الذي هو مظهر قدرته ومحل عظمته الباهرة وعزته والمذكر بخليله عليه [ ص: 260 ] الصلاة والسلام وما كان من الوفاء بعظيم خلته - كرامة لقريش عظيمة ظاهرة عاجلة حماية لهم عن أن تستباح ديارهم وتسبى ذراريهم لكونهم أولاد خليله وخدام بيته وقطان حرمه ومتعززين به ومنقطعين إليه، وعن أن يخرب موطن عزهم ومحل أمنهم وعيشهم وحرزهم، ذكرهم سبحانه وتعالى ما فيه من النعمة الآجلة إكراما ثانيا بالنظر في العاقبة، فقال مشيرا إلى أن من تعاظم عليه قصمه، ومن ذل له وخدمه أكرمه وعظمه: لإيلاف قريش أي لهذا الأمر لا غيره فعلنا ذلك وهو إيقاعهم الإيلاف وهو ألفهم لبلدهم الذي ينشأ عنه طمأنينتهم وهيبة الناس لهم، وذلك ملزوم لإلفهم أولا في أنفسهم، فإذا كان لهم الإلف بحرمهم بما حصل لهم من العز والمكنة به بما دافع عنهم فيه مع ما له من بعد الآفات عنه، وكان لهم الإلف بينهم، فكان بعضهم يألف بعضا، قوي أمرهم فألفوا غيرهم أي جعلوه يألف ما ألفوه إياه أي سنوه له وأمروه به، أو يكون اللام متعلقا بفعل العبادة بدلالة فليعبدوا أي ليعبدونا لأجل ما أوقعنا من إلفهم وإيلافهم، وعلى التقديرين الإلف علة للعبادة أو لما يوجب الشكر بالعبادة، وفي هذا إشارة إلى تمام قدرته سبحانه وتعالى وأنه إذا أراد شيئا يسر سببه لأن [ ص: 261 ] التدبير كله له يخفض من يشاء وإن عز، ويرفع من يشاء وإن ذل، ليثمر اعتقاد ذلك حبه والانقطاع لعبادته والاعتماد عليه في [كل] نفع ودفع، وقريش ولد النضر ابن كنانة واسمهم واسم قبيلتهم مشتق من القرش [والتقرش] وهو التكسب والجمع، يقال: فلان يقرش لعياله ويقترش أي يكتسب، وقال البغوي : وقال [ أبو -] ريحانة : سأل معاوية ابن عباس رضي الله عنهما: لم سموا بهذا؟ فقال: لدابة تكون في البحر [هي -] أعظم دوابه، يقال لها القرش، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته، وهي تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى، قال: وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، وأنشد للجمحي :


                                                                                                                                                                                                                                      وقريش هي التي تسكن البحر بها ... سميت قريش قريشا

                                                                                                                                                                                                                                          سلطت بالعلو في لجة البحر على
                                                                                                                                                                                                                                      ... سائر الجيوش جيوشا



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : هي دابة عظيمة تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار، والتصغير للتعظيم - انتهى. وقيل: سموا بذلك لتجمعهم إلى الحرم بعد تفرقهم، فإن القرش - كما تقدم - الجمع، وكان المجمع لهم قصيا، والقرش أيضا الشديد، وقيل: هو من تقرش الرجل - إذا تنزه عن مدانيس [ ص: 262 ] الأمور، ومن تقارشت الرماح في الحرب - إذا دخل بعضها في [بعض -].

                                                                                                                                                                                                                                      والمادة كلها للشدة والاختلاط، والتعبير بهذا الاسم لمدحهم. وكما أجرى سبحانه وتعالى مدحهم على الألسنة جعلهم موضعا للمدح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم " وقال صلى الله عليه وسلم: " الأئمة من قريش " قال العلماء: وذلك أن طيب العنصر يؤدي إلى محاسن الأخلاق ، ومحاسن الأخلاق تؤدي إلى صفاء القلب، وصفاء القلب عون على إدراك العلوم، وبإدراك العلوم تنال الدرجات العلا في [الدنيا و -] الآخرة، وصرف الاسم هنا على معنى الحي ليكون الاسم بمادته دالا على الجمع، وبصرفه دالا على الحياة إشارة إلى كمال حياتهم ظاهرا وباطنا، قال سيبويه في معد وقريش وثقيف : صرف هذه الأحياء أكثر، وإن جعلتها اسما للقبائل - يعني فمنعتها - فجائز حسن، والذي يدل على تعلق اللام بفعل دلت عليه الفيل أن السورتين في مصحف أبي رضي الله عنه سورة واحدة من غير [ ص: 263 ] فصل، وأن عبد الرزاق وابن أبي شيبة رويا عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: صلى بنا عمر رضي الله عنه المغرب فقرأ في الأولى بالتين والزيتون، وفي الثانية ألم تر كيف ولئيلاف قريش.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال [الإمام] أبو جعفر بن الزبير : خفاء في اتصالهما أي أنه سبحانه وتعالى فعل ذلك بأصحاب الفيل ومنعهم عن بيته وحرمه لانتظام شمل قريش، وهم سكان الحرم وقطان بيت الله الحرام، وليؤلفهم بهاتين الرحلتين فيقيموا بمكة وتأمن ساحتهم - انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية