الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وأنـزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه . وهذه الهيمنة توجب العمل بما أقره من الكتب السابقة، وبطلان العمل بما نسخه منها. الإنجيل الذي له تلك الأوصاف السابقة هو الذي لم يجر فيه التحريف، وهو خاص بالحكم فيما قبل البعث المحمدي.

                                                          ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الفاسقون في هذا النص الكريم الحكم على من لم يحكم بما أنزل الله تعالى بالفسق، أي الخروج عن جادة الحق، والسنن المستقيم والخلق الكريم، وكان الحكم بالفسق هنا مناسبا لمواعظ الإنجيل الذي نزل على عيسى وهدايته؛ لأن تعريف القرآن الكريم له فيه إشارة إلى ما اشتمل من أخلاق روحانية قويمة، وهداية سليمة، والمناسب لمن لم يحكم به أن [ ص: 2222 ] يكون فاسقا خارجا شاذا تاركا لمعاني الإنسانية الروحانية العالية، وهنا بحث لفظي يتكون من عناصر ثلاثة.

                                                          أولها: أن التعبير بـ"من" يدل على الجمع هنا بدليل قوله تعالى: فأولئك هم الفاسقون ؛ لأن أولئك إشارة إلى الجمع، وهم ضمير الجمع، وكأن التعبير بالموصول للدلالة على أن الحكم الفردي كالحكم الجماعي، فكل من تتحقق فيه الصلة، وهو ألا يحكم بما أنزل الله تعالى - يكون فاسقا آحادا أو جماعات.

                                                          ثانيها: أن المراد بالحكم يشمل حكم القضاء وحكم العمل، فمن لم يعمل بما جاء في الإنجيل، وهو من أهله فقد فسق عن أمر ربه.

                                                          ثالثها: أن النص يفيد أن علة استحقاقه لوصف الفسق هو أنه لا يحكم بما أنزل الله تعالى.

                                                          والحكم بالفسق شرطه ألا يكون ثمة جحود لما أمر الله وإلا كان كفرا ..

                                                          اللهم ثبتنا على قول الحق والعمل به، واكتبنا في عبادك الصالحين.

                                                          * * *

                                                          وأنـزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنـزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون

                                                          * * * [ ص: 2223 ] هذا تتميم لما ذكره سبحانه وتعالى من كتب، وبيان تعاقب الرسل المعروفين ذوي الشرائع التي سنت الأحكام وعبدت المناهج، فقد ذكر سبحانه وتعالى أنه أنزل التوراة وشرع ما فيها من أحكام، وأن على أهل التوراة أن يحكموا بها، ثم أعقب الإنجيل التوراة، وأتى بأحكام يجب تنفيذها، وأكد ما اشتملت عليه التوراة مما لم يجئ نسخ بها، وأتم الله سبحانه وتعالى البيان بذكر رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبه تمت الرسالة الإلهية، وكملت شرائع الله تعالى، وقد قال تعالت كلماته: وأنـزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه في هذا النص السامي، نجد بعض إشارات بيانية تشير إلى مكانة القرآن بين الكتب السماوية، وتبدو هذه الإشارات في ثلاث نواح:

                                                          الناحية الأولى: أنه سبحانه لم يقل وقفينا على آثارهم بمحمد أو نحو ذلك، بل بين سبحانه أنه أنزل الكتاب، وفي ذلك إشارة إلى معنى استقلاله، وأنه لم يكن فيه تبعية لغيره من الكتب، بل هو مستقل بالمكانة منفرد بها من غير تبعية أيا كان نوعها، وأيا كان مقدارها، وذكر الكتاب دون ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- صراحة للإشارة إلى مكانة الشريعة الإسلامية وكتابها الكريم الباقي والخالد إلى يوم القيامة، وهو معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإذا ذكرها سبحانه في مقام الإكبار والتفخيم يكون بيانا لمكانة الرسالة المحمدية، وبيان أن حجتها أقوى الحجج، وأشدها تثبيتا، وأبقاها في هذا الوجود، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الكتاب من غير تعريف سوى ذلك، و(أل) كما قال علماء اللغة للعهد، وفي ذلك إشارة إلى كماله، أي أنه "الكتاب" الذي هو جدير باسم الكتاب، بحيث إذا أطلق اسم الكتاب لا ينصرف إلا إليه؛ لأنه الفرد الكامل من بين الكتب في هذا الوجود.

                                                          وقد زاده الله تعالى شرفا فنسب الإنزال إليه سبحانه، وفي ذلك تأكيد لمنزلته العالية السامية.

                                                          الناحية الثانية: من الإشارات البيانية المبينة لمكان القرآن - هو بيان أنه سجل الرسالات السابقة، والشاهد بصدقها فهو مصدق لكل الكتب السابقة، [ ص: 2224 ] المنزلة قبل تحريفها، وفيها دلائل نبوة الأنبياء السابقين، ومعجزاتهم، والكتاب الآخر في قوله تعالى: مصدقا لما بين يديه من الكتاب هو جنس الكتب السماوية السابقة، فـ(أل) فيه للجنس، أي أنه في القرآن الكريم الدلائل المثبتة لصدق ما يصح أن يسمى كتابا سماويا من الكتب السابقة بما فيها الإنجيل والتوراة والزبور، ويصح أن يكون (أل) للعهد أيضا، وهو العهد الذكري، إذ ذكر من قبل كتابان من الكتب السماوية وهما التوراة والإنجيل، وعبر عنهما بالكتاب باعتبار الجنس، ولأن كليهما متمم للآخر، فهما في معنى كتاب واحد.

                                                          والناحية الثالثة مما يدل على مكانة القرآن - هو أنه يهيمن على الكتب السابقة، فقد قال تعالى في مقامه بالنسبة لغيره من كتب السماء: ومهيمنا عليه والمعنى أنه حاكم بصحة ما فيه، وشاهد بصدقه، ومقرر لمعانيه الباقية التي لم يعترها نسخ، وفوق ذلك يتبين الصحيح الذي نزل، ويشير إلى المحذوف الذي حذفه الأخلاف، إذ نسوا حظا مما ذكروا به، وهناك قراءة بفتح الميم، ذكرها الزمخشري في الكشاف، ويكون المعنى أنه "مهيمن" عليه أي مراقب محفوظ، كما قال تعالى: إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر]. وقد وضح الزمخشري المعنى على هذه القراءة بقوله رضي الله تعالى عنه: "أي هومن عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل، كما قال تعالى: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه [فصلت]. والذي هيمن عليه الله عز وجل أو الحفاظ في كل بلد، لو حرف حرف منه أو حركة أو سكون لتنبه له كل أحد، ولاشمأزوا رادين ومنكرين".

                                                          أي أن الله تعالى هيمن عليه وحفظه إلى يوم الدين، والحفاظ للقرآن جيلا بعد جيل هم بتوفيق الله تعالى شاهدون مانعون لكل تغيير وتبديل؛ لأنهم يحفظونه في صدورهم، ولا يتركونه للقرطاس الذي قد يرد عليه المحو والإثبات والتغيير والتبديل، وبذلك اختص القرآن بالصيانة من بين الكتب السماوية، وهو [ ص: 2225 ] قد حفظه بنصه وقراءاته، وطريق تلاوته، فالله سبحانه وتعالى هو الذي رتله ترتيلا، بتعليم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك كما قال تعالى: وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا [الفرقان].

                                                          فاحكم بينهم بما أنـزل الله الفاء هنا للإفصاح؛ لأنها تومئ إلى شرط مقدر، والمعنى على هذا: إذا كان الكتاب قد أنزل إليك من لدن الله العلي القدير عالم غيب السماوات والأرض، وأنه يهيمن على الكتب السابقة ومحفوظ بحفظ الله تعالى إلى يوم الدين؛ فاحكم بين اليهود والنصارى ومن يعاصرونك من الناس بهذا الذي جاء به، لأنه نزل لتحكم به أنت ومن يتولى الحكم من بعدك، ولم يقل سبحانه وتعالى لتحكم به، بل ترك الضمير، وعبر بالموصول للإشارة إلى أن السبب الموجب للحكم أنه منزل من عند الله، إذ إن الموصول إذا كان في ضمن حكم تكون الصلة هي علة الحكم، والسبب فيه، وعلى ذلك يكون حكم القرآن وهو حكم الله تعالى الذي لا يختلف باختلاف العصور، ولا يتغير بتغير الأوقات؛ لأنه شريعة الله الذي هو بكل شيء عليم، يعلم الناس وما يصلح لهم في ماضيهم وقابلهم، وهذا يفيد أن اليهود الذين عاصروا النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن جاءوا بعدهم مخاطبون بشريعة القرآن، وأنه نسخ ما قبله من الشرائع، إلا ما جاء النص بوجوب العمل به كالقصاص، أو ما لم يثبت أنه نسخ، والمعول في الحالين هو القرآن وما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، ولقد روي أنه عليه السلام ذكر أن موسى لو كان حيا ما وسعه إلا الإيمان به عليه الصلاة والسلام. ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق الضمير في قوله تعالى: (أهواءهم) يعود إلى اليهود الذين تحاكموا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأرادوا أن يحكموا بما لم ينزل من عند الله، مع أن الحكم عندهم في التوراة التي بأيديهم منصوص عليه، ولم ينسخه القرآن الكريم، وكان مما بقي وهو القصاص العادل.

                                                          وقوله تعالى: ولا تتبع أهواءهم فيه إشارات بيانية نتكلم فيها، وذكرها فيه بيان معنى النص الكريم. [ ص: 2226 ] أولاها: قوله تعالى: ولا تتبع أهواءهم أكثر العلماء قالوا إن قوله تعالى: ولا تتبع أهواءهم متضمن معنى لا تنحرف، بدليل أنه تعدى بـ "عن" في قوله تعالى: عما جاءك من الحق والمعنى في الجملة لا تتبع أهواءهم منحرفا عما جاءك من الحق، وهو ما نزل به القرآن الكريم، ولذلك نرى أن قوله تعالى: ولا تتبع أهواءهم لا تضمين فيها، بل قوله تعالى: عما جاءك من الحق يتعلق بحال محذوفة، والمرمى من هذه الجملة السامية أن الخروج عما أنزل الله تعالى باتباع أهوائهم الفاسدة المردية فيه انحراف عن الحق، وخروج عن الجادة المستقيمة، وبعد عن الإنصاف في ذاته، وكذلك الشأن فيمن يعدل عن حكم الله تعالى اتباعا لأهواء الناس، وإرضاء للشهوات والرغبات المنحرفة.

                                                          الإشارة البيانية الثانية: في قوله تعالى: عما جاءك من الحق فيه إشارة إلى أن الذي يبتلى بأمثال هؤلاء اليهود ومن سار على طريقهم في هذه الأرض يكون بين أمرين، إما أن يطيع الهوى والشهوة وفيهما الفساد، وإما أن يطيع ما جاء من عند الله، وفيه العدل والهدى والرشاد، وأي الطريقين أهدى للوصول إلى الصلاح الذي لا فساد يعكره.

                                                          الإشارة الثالثة: فيها بيان أن ما يحكم به النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الحق والعدل في ذاته، وبذلك يكون حكم النبي -عليه الصلاة والسلام- قد تأيد بأمرين: أحدهما: أنه الحق في ذاته الذي لا مرية في أنه العدل والأمر الثابت الذي لا تجوز مخالفته في ذاته، ثانيهما: أنه جاء من عند الله الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو بكل شيء عليم.

                                                          لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا الخطاب لليهود والنصارى والمسلمين وغيرهم من الذين أوتوا كتابا نزل بشريعة من عند الله تعالى، ويكون في الكلام التفات، فقد كان الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمتحدث عنهم أولئك الذين اتبعوا وحرفوا الكلم عن مواضعه، والمعنى على هذا لكل نبي من الأنبياء السابقين شرعة يسير نحوها، ويتجه إليها، ومنهاج واضح بين يسير في طريقه، ولا يلتوي عنه، [ ص: 2227 ] ولا يخرج منه، فإن ما عداه متاهات لا يلتفت إليها، والذين يعاصرونه هم الذين يخاطبون بشرعته، ويسيرون في منهاجه، فالذين نزل فيهم القرآن مخاطبون بما جاء في القرآن، وشرعته ومنهاجه لهم؛ لأن شرعة الأنبياء السابقين ومنهاجهم قد انتهيا بمبعث محمد -صلى الله عليه وسلم- وبقي من شرائعهم ما يقره القرآن، وما جاء النص بإقراره.

                                                          وتفسير الشرعة قد اتفق الفقهاء على أن المراد بها الشريعة، وهي ما جاء من أحكام تكليفية يجب العمل بها أمرا ونهيا وندبا وإباحة، والمنهاج على هذا هو الطريق الواضح لتنفيذها، وبيان مجملها، وتفصيل أحكامها الجزئية؛ ولذلك روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن الشرعة هي النصوص التي تجيء في أصل الكتاب المنزل، والمنهاج هو ما يبينه النبي الذي أنزل عليه الكتاب، وفصل به الأحكام الجزئية.

                                                          هذا كله على أساس أن ضمير الخطاب قد وجه إلى اليهود والنصارى ممن كان لهم كتاب منزل، وقد يرد على هذا أن الرسالة الإلهية واحدة، فكيف يجيء فيها الاختلاف، وقد قال تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [الشورى].

                                                          ونقول في الإجابة عن ذلك: إن الوحدة الجامعة بين الرسالات الإلهية هو ما يتعلق بالعقيدة من إيمان بالوحدانية ونفي للوثنية، وإيمان باليوم الآخر، وما يجري فيه من حساب وعقاب، ونعيم وجنات تجري من تحتها الأنهار، وجحيم وسعير إلى آخر ما ورد في الغيبيات. أما الشرعة التي يجيء فيها الاختلاف فهو الأوامر والنواهي، وبعبارة عامة فهي التكليفات من حلال وحرام، فقد يشدد الله تعالى على بعض الأقوام لغلظ قلوبهم، ويخفف على آخرين، كما قال تعالى: [ ص: 2228 ] وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون [الأنعام].

                                                          والمنهاج يختلف، فمن الأنبياء من دعا دعوته، وكان فريسة لاعتداء أعدائه من غير أن يقاوم بالسيف، ومنهم من شرع له أن يدفع الاعتداء بالسيف، وهكذا.

                                                          هذا الكلام كله على أساس أن الخطاب موجه إلى أهل الكتاب الذين سبقوا بكتاب أنزل عليهم، ونسخته شريعة القرآن، وقد جاء بعض المفسرين فقرر أن الخطاب لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، أي للمسلمين في حاضر أمرهم وقابله، وقد ذكر هذا الرأي ابن كثير في تفسيره، فقد قال: "وقيل المخاطب بهذه الآية هذه الأمة، ومعناه لكل -جعلنا القرآن- منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا، أي هو لكم كلكم تقتدون به" ومؤدى هذا الكلام جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا لكل منكم، أي واحد منكم، فليس المضاف إليه المحذوف من بعد كل الأمم بل الآحاد، أي أن كل واحد من أمة محمد -عليه الصلاة والسلام- مخاطب بتكليفات الشريعة، وتنفيذ منهاجها المستقيم، الذي لا عوج فيه ولا أمت.

                                                          والعلماء على التخريج الأول وهو ظاهر اللفظ ولا يخرج المعنى عن ظاهر اللفظ الذي يتبادر ويتجه إلى غيره إلا لعيب بياني في الظاهر، ومعاذ الله تعالى أن يكون ذلك في كلام الله جل وعز.

                                                          ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فعل المشيئة محذوف دل عليه ما بعده، وهو جواب لو، والمعنى لو شاء سبحانه أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكم كذلك، والمعنى على هذا لو شاء تعالى أن يجعل الإنسانية كلها أمة واحدة، يصلحها شرع واحد، وتتفق بالتكليفات الموجهة، لاتفاق الإنسانية الموحدة، لفعل سبحانه وتعالى، ولكنه سبحانه وتعالى عاملكم معاملة المختبر لكم بما آتاكم من مواهب مختلفة، وفيما ينزل عليكم من خيرات السماء، وفيما تجود [ ص: 2229 ] الأرض من زروع وثمرات، وفي اختلاف الأجواء، والإرادات الإنسانية ليتم التكليف، ويكون الاختبار.

                                                          وبيان ذلك أن الناس يختلفون أمما وعناصر، وقد توزعتهم أقاليم الأرض، فقوم تعالج قلوبهم الغليظة بما يفطمها عن شهواتها، ويجعلها في جادة الاعتدال، وأخرى تعالج بالتخفيف ليحيي موات النفوس فيها، وثالثة تعالج ببعض الحرمان، ورابعة بالاعتدال، وهكذا كانت الشرائع السابقة علاجا لأهواء النفوس التي تعامل معاملة المختبرة بتنازع الإرادات وسيطرة الأجواء، ومنازع الأهواء، ومضطرب الأحوال، فمن سلك الجادة وصل إلى الحق، ومن خالف كان له جزاء مخالفته، ولما جاءت رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- ومعها القرآن كان العقل البشري في طريق الكمال، وكانت بكلياتها صالحة لكل زمان، وكان الابتلاء قائما في منازعة الهوى، ومغالبة النفس الأمارة بالسوء، والتي ألهمت فجورها وتقواها.

                                                          وإن الابتلاء في الماضي والحاضر بالتخالف في الطبائع، وتخالف جزئيات الشرائع، وبعد رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- كالتخالف في الإرادات والمنازع، وفي كل هذا الابتلاء، والنجاح في هذا الامتحان الفطري هو بطلب الخيرات؛ ولذا قال سبحانه: فاستبقوا الخيرات

                                                          إذا كان الله سبحانه وتعالى يعامل الناس في الماضي والحاضر معاملة الذين يختبرهم وهو العليم بحالهم، ومآل أمورهم، وهم يشعرون بكمال اختيارهم، وأنهم يختارون، ويتخيرون، فإن عليهم أن يحسنوا الاختيار ويسرعوا إلى الخير.

                                                          واستبقوا في أصل معناها: التسابق، ولكن لتضمنه السبق والابتدار تعدى من غير إلى، كما في قوله تعالى: واستبقا الباب [يوسف]. أي حاول كل واحد منهما الابتدار والوصول إلى الباب قبل الآخر، ومرمى النص أنه ليس لليهود أن يقولوا: نتبع شرعنا، بل عليهم أن يبتغوا الخير، ويسرعوا إليه، وهو في ذاته معلوم ببدائه العقول تدركه من غير عوج، وفوق ذلك فإن الدليل قد قام بما لا يقبل الشك على رسالة محمد -عليه الصلاة والسلام- وهي الخير كله، [ ص: 2230 ] فليتركوا اللجاجة في هذا الأمر، وقد كانوا يتطاولون على المشركين بمبعثه، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.

                                                          إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون أي إليه وحده جل جلاله، وعظم ملكه مرجع الناس أجمعين من أهل الملل والنحل قبل القرآن والذين استمروا بعده فهم جميعا سيلقون الله تعالى يوم لا ملك إلا ملكه، ولا سلطان إلا سلطانه ويخبرهم بالخبر العظيم الشأن، والنبأ الخطير الذي كانوا يتساءلون عنه في الدنيا، فيعلمهم بالصدق، وفي ضمن هذا الصدق جزاء ما عملوا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فهو إنباء القول والعمل، حيث تجزى كل نفس ما كسبت، ففي هذا النص إنذار لمن بغى وعصى، وتبشير لمن أطاع وعدل واتقى، اللهم أحسن إلينا ووفقنا في أعمالنا، واغفر لنا ذنوبنا، واجعل نتيجة الابتلاء خيرا لنا برحمتك وعفوك إنك أنت الغفور الرحيم العفو الكريم.

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية