الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا [ ص: 469 ] منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم

                                                                                                                                                                                                                                        قوله عز وجل: وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن حقق الله تعالى استدامة كفرهم تحقيقا لنزول الوعيد بهم ، قال الضحاك ، فدعا عليهم لما أخبر بهذا فقال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [نوح: 27: 26] فلا تبتئس بما كانوا يفعلون فيه وجهان: أحدهما: فلا تأسف ومنه قول يزيد بن عبد المدان:


                                                                                                                                                                                                                                        فارس الخيل إذا ما ولولت ربة الخدر بصوت مبتئس



                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: فلا تحزن ، ومنه قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                        وكم من خليل أو حميم رزئته     فلم أبتئس والرزء فيه جليل



                                                                                                                                                                                                                                        والابتئاس: الحزن في استكانة ، وأصله من البؤس ، وفي ذلك وجهان: أحدهما: فلا تحزن لهلاكهم.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: فلا تحزن لكفرهم المفضي إلى هلاكهم. قوله عز وجل: واصنع الفلك بأعيننا فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: بحيث نراك ، فعبر عن الرؤية بالأعين لأن بها تكون الرؤية.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: بحفظنا إياك حفظ من يراك. [ ص: 470 ] الثالث: بأعين أوليائنا من الملائكة. ويحتمل وجها رابعا: بمعونتنا لك على صنعها. ووحينا فيه وجهان: أحدهما: وأمرنا لك أن تصنعها.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: تعليمنا لك كيف تصنعها. ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون نهاه الله عن المراجعة فيهم فاحتمل نهيه أمرين: أحدهما: ليصرفه عن سؤال ما لا يجاب إليه.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: ليصرف عنه مأثم الممالأة للطغاة. قوله عز وجل: ويصنع الفلك قال زيد بن أسلم: مكث نوح عليه السلام مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها ، ومائة سنة يعملها ، واختلف في طولها على ثلاثة أقاويل: أحدها: ما قاله الحسن كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، وكانت مطبقة.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: ما قاله ابن عباس : كان طولها أربعمائة ذراع ، وعلوها ثلاثون ذراعا. وقال خصيف: كان طولها ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسون ذراعا ، وكان في أعلاها الطير ، وفي وسطها الناس وفي أسفلها السباع. ودفعت من عين وردة في يوم الجمعة لعشر مضين من رجب ورست بباقردي على الجودي يوم عاشوراء. قال قتادة وكان بابها في عرضها. [ ص: 471 ] وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه وفي سخريتهم منه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يرونه يبني في البر سفينة فيسخرون منه ويستهزئون به ويقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجارا.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنهم لما رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت قالوا يا نوح: ما تصنع؟ قال: أبني بيتا يمشي على الماء فعجبوا من قوله وسخروا منه. قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فيه قولان: أحدهما: إن تسخروا من قولنا فسنسخر من غفلتكم.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: إن تسخروا من فعلنا اليوم عند بناء السفينة فإنا نسخر منكم غدا عند الغرق. والمراد بالسخرية ها هنا الاستجهال. ومعناه إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم. قال ابن عباس : ولم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر فلذلك سخروا منه. قال: ومياه البحار بقية الطوفان. فإن قيل: فلم جاز أن يقول فإنا نسخر منكم مع قبح السخرية؟ قيل: لأنه ذم جعله مجازاة على السخرية فجاء به على مزاوجة الكلام ، وكان الزجاج لأجل هذا الاعتراض يتأوله على معنى إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلوننا.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية