الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              جماع أبواب بعض أمور دارت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود والمنافقين ، ونزول صدر من سورة البقرة وغيره من القرآن في ذلك

                                                                                                                                                                                                                              الباب الأول : في أخذ الله سبحانه وتعالى العهد عليهم في كتبهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، إذا جاءهم ، واعتراف جماعة منهم بنبوته ، ثم كفر كثير منهم بغيا وعنادا

                                                                                                                                                                                                                              فذكرت أحاديث كثيرة في أول الكتاب ، وأذكر ما لم أذكر هناك . قال الله سبحانه وتعالى : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون [البقرة 40] روى ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله عنه في الآية ، قال الله تعالى للأحبار من يهود :

                                                                                                                                                                                                                              اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم أي من بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم به من فرعون وقومه : وأوفوا بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم أوف بعهدكم يقول : أرض عنكم وأدخلكم الجنة . وروى ابن جرير عن أبي العالية في الآية قال : يقول : يا معشر أهل الكتاب ، آمنوا بما أنزلت على محمد مصدقا لما معكم ، لأنهم يجدونه عندهم مكتوبا في التوراة والإنجيل ، ولا تكونوا أول كافر به ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم . وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ولا تلبسوا الحق بالباطل [البقرة 42] أي لا تخلطوا الصدق بالكذب وتكتموا الحق وأنتم تعلمون [البقرة 42] أي لا تكتموا الحق وأنتم قد علمتم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله . وروى عبد بن حميد عن قتادة قال : "لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين الله الإسلام ، وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى : وتكتموا الحق وأنتم تعلمون أنه رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث [الأعراف 157] وروى ابن جرير عن السدي في قوله "وتكتموا الحق" قال : هو محمد صلى الله عليه وسلم . وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :

                                                                                                                                                                                                                              وصف الله محمدا في التوراة ، أكحل العين ، ربعة ، جعد الشعر ، حسن الوجه ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حسده أحبار يهود ، فغيروا صفته في كتابهم وقالوا : لا نجد نعته عندنا ، وقالوا : نجد النبي الأمي طويلا أزرق سبط الشعر ، وقالوا للسفلة : "ليس هذا نعت النبي الذي يحرم كذا [ ص: 377 ]

                                                                                                                                                                                                                              وكذا" كما كتبوه ، وغيروا نعت هذا كما وصف ، فلبسوا بذلك على الناس . وإنما فعلوا ذلك لأن الأحبار كانت لهم مأكلة يطعمهم إياها السفلة لقيامهم على التوراة ، فخافوا أن يؤمن السفلة فتقطع تلك المأكلة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البيهقي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم قالوا :

                                                                                                                                                                                                                              "كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم ، وكانوا يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم في التوراة ، فيسألون الله تعالى أن يبعثه فيقاتلون معه العرب ، فلما جاءهم كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل" .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن إسحاق وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وأبو نعيم عنه من طرق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو نعيم عن قتادة : أن يهود أهل المدينة قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانوا إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من أسد وغطفان وجهينة وعذرة يستفتحون يدعون الله على الذين كفروا ويقولون : "اللهم إنا نستنصر بحق محمد النبي الأمي إلا نصرتنا عليهم" ، فينصرون . وكانوا يقولون : "اللهم ابعث النبي الأمي الذي نجده في التوراة الذي وعدتنا أنك باعثه في آخر الزمان" . فلما جاءهم ما عرفوا ، كفروا به حسدا للعرب ، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال لهم معاذ بن جبل ، وبشر بن البراء أخو بني سلمة : يا معشر يهود ، اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك ، وتخبروننا أنه مبعوث ، وتصفونه لنا بصفته .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج عن بعض من أسلم من أهل الكتاب ، قال :

                                                                                                                                                                                                                              "والله لنحن أعرف برسول الله منا بأبنائنا من أجل الصفة والنعت الذي نجده في كتابنا ، أما أبناؤنا فلا ندري ما أحدث النساء" وروى ابن إسحاق ، والبيهقي ، وأبو نعيم عن أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها أنها قالت : "لم يكن أحد من ولد أبي وعمي أبي ياسر أحب إليهما مني ، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه . فلما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قباء قرية بني عمرو بن عوف غدا إليه أبي ، حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين ، فوالله ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس ، فجاءانا بأمر أبي كبشة [كالين كسلانين] ساقطين يمشيان الهوينى ، فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فوالله ما نظر إلي واحد منهما ، فسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب : أهو هو؟ قال : نعم . قال : أتعرفه بنعته وصفته؟ قال : نعم والله . قال :

                                                                                                                                                                                                                              فما في نفسك منه؟ قال : عداوته والله ما بقيت" .


                                                                                                                                                                                                                              وذكر ابن عقبة عن الزهري قال : "إن أبا ياسر بن أخطب حين قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة ذهب إليه فسمع منه وحادثه ثم رجع إلى قومه فقال : يا قوم أطيعوني ، فإن الله تعالى قد جاءكم بالذي تنتظرونه فاتبعوه ولا تخالفوه . فانطلق أخوه حيي بن أخطب ، وهو يومئذ سيد [ ص: 378 ]

                                                                                                                                                                                                                              يهود ، وهما من بني النضير ، فجلس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وسمع منه ، ثم رجع إلى قومه ، وكان فيهم مطاعا . فقال : أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا . فقال له أخوه أبو ياسر :

                                                                                                                                                                                                                              يا ابن أم أطعني في هذا الأمر واعصني فيما شئت بعد لأمهلك . فقال : والله لا أطيعك .

                                                                                                                                                                                                                              فاستحوذ عليه الشيطان ، وتبعه قومه على رأيه" .

                                                                                                                                                                                                                              وروى عبد الله بن الإمام أحمد في "زوائد المسند" عن جابر بن سمرة رضي الله عنه ، أنه قد جاء جرمقاني إلى أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- فقال : أين صاحبكم هذا الذي يزعم أنه نبي ، لئن سألته لأعلمني نبي هو أو غير نبي . ثم قال الجرمقاني : "هذا والله الذي جاء به موسى" ، الجرمقاني بجيم مفتوحة فراء ساكنة فميم مفتوحة فقاف فألف فنون ، منسوب إلى الجرامقة .

                                                                                                                                                                                                                              قال في "الصحاح" : قوم بالموصل أصلهم من العجم ، وقال غيره : وجرامقة الشام أنباطها .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن حبرا من أحبار اليهود دخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فوافقه يقرأ سورة يوسف فقال : "يا محمد من علمكها" ؟ قال : "الله عز وجل علمنيها" ، فعجب الحبر لما سمع منه . فرجع إلى اليهود فقال : "إن محمدا ليقرأ القرآن ، كما أنزل في التوراة" .

                                                                                                                                                                                                                              فانطلق جماعة منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة ، ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه ، فجعلوا يستمعون إلى قراءته لسورة يوسف ، فتعجبوا منه وأسلموا عند ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر محمد بن عمر الأسلمي أن النعمان السبئي وكان من أحبار يهود اليمن ، فلما سمعوا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- قدم عليه فسأله عن أشياء ، ثم قال له : "إن أبي كان يختم على سفر ويقول : "لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب ، فإذا سمعت به فافتحه" . قال النعمان : "فلما سمعت به فتحت السفر فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة ، وإذا فيه ما تحل وما تحرم ، وإذا فيه أنك آخر الأنبياء ، وأمتك آخر الأمم ، واسمك أحمد ، وأمتك قربانهم دماؤهم ، وأناجيلهم صدورهم ، لا يحضرون قتالا إلا وجبريل معهم ، ويتحنن الله تعالى عليهم كتحنن الطير على أفراخه ، ثم قال لي : إذا سمعت به فاخرج إليه وصدقه" .

                                                                                                                                                                                                                              وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحب أن يسمع أصحابه حديثه . فأتاه يوما فقال : "يا نعمان حدثنا" ، فابتدأ الحديث من أوله ، فرأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبتسم ، ثم قال : "أشهد أني رسول الله" .

                                                                                                                                                                                                                              ويقال إن النعمان هذا هو الذي قتله الأسود العنسي الكذاب وقطعه عضوا عضوا ، والنعمان يقول : "أشهد ألا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، وأنك كذاب مفتر على الله عز وجل" . ثم حرقه بالنار ، والآثار في هذا كثيرة لا تحصى . [ ص: 379 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية